أتينا في الجزء الأول على ذكر بعض محطات ثورة 23 تموز/ يوليو 1952 الناصرية، وكيفية التعاطي الموضوعي مع محاولة دراسة سمات وخصــــــــائص الفكر الناصري، والاقتراب من فهمه بتقديم أربع ملاحظات منهجية للتخفيف من تأثير مواقف الباحث/ـين الإيديولوجية عند دراسة هذا الفكر، وللاقتراب، في حدود الإمكان، من تخوم الموضوعية العسيرة فكرياً على الأغلب، وتوقفنا نهايته عند سؤال: هل فعل الناصريون ما يُرضي ضمائرهم؟ وأين هم الآن؟!
عودة بالزمن لسبعين عام مكتملة، ففي يوم 23 تموز/ يوليو 1952 اهتز العالم كله، وعلى الأخص منه آسيا وأفريقيا، وفي القلب منهما العالم العربي (بل على الأصح: الوطن العربي) وقلبُه مصر، بثورةٍ أعدَ وخطط لها تنظيم الضباط الأحرار بقيادة البكباشي “المقدم” جمال عبد الناصر.
لقد حققت هذه الثورة وعلى مدار 18 عاماً من عمرها ومن عمر هذا الضابط القائد المؤمن بربه وبوطنه مصر، وبقضايا أمته العربية بكافة أقطارها، حققت انجازات بنيوية غيرت وجه مصر، وانتقلت بها من كيان ودولة رقمية ليس إلاّ، إلى دولة مستقلة ورائدة لأمتها العربية (المجزأة إلى شعوب وكيانات) ووضعتها على طريق «الحرية والاشتراكية والوحدة» وتحرير فلسطين واستردادها خالصة لشعبها الفلسطيني البطل وإعادته إليها.
يؤسفني حقاً أن أرى الناصريين متعددي القيادات والمسميات، مشتتين، كثيرون تخلوا عن مبادئ تلك التجربة وأمجادها، تحت وطأة الاستقطاب والانتهاز فضلاً عن الضغط المتعدد، من أنظمة وظيفية ليس لها من هم إلا مصلحتها، وديمومة طغيانها، والحؤول دون تحقيق أي خطوة على طريق التقدم العربي؛ لقد رحل عبدالناصر ولم ترحل الناصرية كما توهم بعضهم وراهن، بل إن الناصرية ما كانت لتوجد وتتوثق وتتجسد بتنظيمات هنا وهناك، لولا وجود من سميت الناصرية باسمه، فكيف أصبحت الناصرية بعد رحيله؟ رحمهُ الله.
في حياته كان يرفض هذه التسمية ولا يستسيغها، وفي حديثه معلقاً ذات مرة عن ضرورة تنظيم الناصريين العرب خارج مصر قال: “ إن الحديث عن الناصرية والناصريين هو اختراع مشرقي ”، ولم يكن في تعليقه هذا ينطلق من “عقدة الحزبية” وإنما كان ينطلق من رغبة عميقة لديه في جمع الشارع القومي العربي بكل قواه وأحزابه وتراثه وأفكاره في حركة قومية واحدة تكون أفكاره وتجاربه رافداً من روافدها، وكلنا يذكر محاولته ذات يوم عندما تحدث عن «الحركة العربية الواحدة» وهي المحاولة التي بقيت حلماً، وأظنها ستبقى كذلك طالما بقي الوحدويون العرب بدون تلاقي جدي وحوار موضوعي بناء، رغم ما بينهم من تباين في الاجتهاد لتحقيق ثالوث «الحرية والاشتراكية والوحدة».
غير أن رحيل عبد الناصر المفاجئ والمبكر، وأمتنا في خضم معاركها المصيرية، لا سيما معركة فلسطين وإزالة آثار عدوان 1967، ثم هذا التحول نحو الردة في سياسة السادات، الذي وعد عشية خلافته بالسير على “طريق عبد الناصر”، دفعـا طلائع الجماهير التي آمنت بالراحل العظيم وخطه القومي، إلى ضرورة الاسراع في إقامة الكثير من التشكيلات والتنظيمات الناصرية ولو بأساليب شفوية لم تسبقها أية ترتيبات أو دراسات، عدا التجربة المبكرة في سورية السابقة لغياب عبدالناصر، والتي كانت بالأصل رداً على الانفصال باسم الاتحاد الاشتراكي العربي بمؤتمره التأسيسي الذي عقد في بيروت في 18 تموز/ يوليو عام 1964 بالذكرى الأولى لحركة المرحوم “جاسم علوان” في 18 تموز/ يوليو عام 1963، وأن التشكيلات الناصرية التي كانت موجودة على الساحة السياسية السورية عشية المؤتمر هي: (الاتحاد الاشتراكي العربي والجبهة العربية المتحدة والوحدويين الاشتراكيين والقوميين العرب)، اندمجت هذه التشكيلات الأربعة لاحقاً بالمؤتمر التأسيسي وبموافقة مصر، في تنظيم واحد تحت اسم الاتحاد الاشتراكي العربي- فرع سوريا، واختار له مكتب سياسي وأسندت أمانته العامة إلى الأخ «نهاد القاسم» وأعلن بيانه التأسيسي ملتزماً بإعادة الوحدة وبأهداف الثورة العربية الواحدة وبقيادة عبد الناصر، وليكون في سورية نواةً لـ«الحركة العربية الواحدة» كاستجابة لنداء عبد الناصر عام 1963، وكي تكون قاعدة للثورة العربية الواحدة، وأداة لا بد منها لتحقيق الوحدة القومية ولبناء وحماية دولتها.
ولنأخذ هذه التجربة الناصرية السورية نموذجاً، استجلاءً لعقابيل “الاستقطاب والتدليس داخلها وباسمها” لغاياتٍ تغاير المبادئ الناصرية وأهدافها، وقد جرى في كثير من الأقطار العربية مثيلاً- إن لم يكن مطابقاً- لما جرى في سورية ضد حزب الاتحاد الاشتراكي.
ففي أيار/ مايو 1965عقد الاتحاد الاشتراكي بالإقليم الشمالي مؤتمره الثاني بالقاهرة، ونقل مقرهُ إليها، وأُقر صيغة جديدة تقوم على وجود “أمانة عامة” للاتحاد تقع تحت اشرافها ثلاث قيادات، أهمها قيادة تنظيم الداخل، وانتخبت أمانة عامة جديدة مؤلفة من أمين عام وأمينين مساعدين، وأقرت القيادة الجديدة المبادرات التي قررها مؤتمر الداخل، وتمخض عنه نظام داخلي ومنهاج مرحلي، وأسندت أمانته العامة إلى الأخ «جاسم علوان»، وخرجت بعد هذا المؤتمر وانشقت عنه حركة القوميين العرب.
قامت قيادة التنظيم في الداخل بإجراءات تنظيمية وعمليات دمج سريعة تواكب عقد مؤتمر منتخب بالداخل، مع رفض أية دعوة لمؤتمر يُشكل من أعضاء يقيمون في الخارج ولا صلة لهم بالممارسة الفعلية بالداخل، لكن العمل في الداخل اصطدم بمشاكل تنظيمية- كما سيصطدم لاحقاً بمشاكل تنظيمية مشابهة- كان أخطرها من قيادات القوميين العرب الموزعين بالحزب وعلاقاتهم التنظيمية “السرية” مع كادر الاتحاد، ومن هنا كان التصادم والتناحر الذي أدى بالنهاية لخروج الموالين لحركة القوميين العرب من الاتحاد، مما عطلَ أيضاً التخلص من العقلية الأخرى التي ظلت تعرقل مسيرة الاتحاد وتوقعه في المشاكل والتناقضات اليومية التي لا تنتهي في كل فرع وكل خطوة أو عمل، لذلك لم يُعقد المؤتمر الثالث إلا في أيلول/ سبتمبر عام 1966 في القاهرة وبشكل استثنائي وبدعوة من الأمانة العامة لمعالجة تلك الأزمة، وأبقى على التوصية الخاصة بعقد المؤتمر القادم بعد ستة أشهر، مع إجراءات مهمة تخص العمل داخل الاقليم السوري، ولم يكن هذا المؤتمر منتخباً نتيجة الظروف السالفة بل جاء يمثل القيادات الفعلية التي كانت تقود العمل، أُضيف لهم بعض العناصر المنتقاة من بعض المجالات العمالية والطلابية والفلاحية.
وقعت النكسة (النكبة الثانية) في 5 حزيران/ يونيو 1967، ووضعت التطور القومي العربي في مرحلة جديدة تتسم بالتراجع، وبتركيز القاهرة على أولوية إزالة آثار العدوان وإعادة بناء القوات المسلحة التي كان القبول بمشروع «روجرز» تغطيةً لعمليتها، ومحاولة بناء «الحركة العربية الواحدة»، عبر تنظيم ما سمي الطليعة العربية، في هذه الأجواء والتطورات السياسية الخطيرة، بعد نكسة حزيران، طرح الاتحاد الاشتراكي سلسلة دراسات ونشرات كان أهمها المتعلق بـ«دروس النكسة وعواملها وسُبل مواجهتها» وذلك قبل أن يعقد حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في الاقليم السوري مؤتمره الرابع والمفصلي بداية 1968، فبعد الكثير من الأخطاء التنظيمية الناتجة عن الأحكام الانتقالية التي عانى منها، وعدم الانسجام الكافي والوصول للوحدة الضرورية في الفكر والرأي والتنظيم، ومن عقم بعض العقليات، التي دفعها عقمها للانشقاق والخروج من الاتحاد، جاء المؤتمر الرابع للتخلص من عقابيلها، واسباغ الشرعية على المؤسسات الحزبية، وتوطين قيادة حزب الاتحاد بالداخل، وطرق مواجهة نتائج النكسة/ الهزيمة، وكيفية تحويل شعار (إزالة آثار العدوان) إلى واقع وممارسات، وأوصى بالدعوة لجبهة وطنية تقود النضال في هذا الاتجاه الوطني والقومي، الأمر الذي أدى بالنظام لاعتقال القيادة المنتخبة من المؤتمر، وبسبب هذا الاعتقال تداعى عدة أعضاء لتشكيل قيادة رديفة تحت اسم «الجهاز السياسي» لإدارة العمل التنظيمي بغياب القيادة المنتخبة والمعتقلة، وللأسف بعد خروج القيادة من المعتقل استمر بعض أعضاء الجهاز السياسي بنفس العقلية المناورة وعلاقاتهم التنظيمية “السرية” داخل الحزب، وتأسيس تشكيلات أخرى على أطراف وهوامش الحزب وبازدواجية مشابهة لما قامت به حركة القوميين العرب، وبأسلوب جديد لتخريب العمل التنظيمي فطردهم الحزب بالمؤتمر الخامس 1971، وبقي للأسف الكثيرين منهم دون انكشاف حتى طُردوا وفصلوا نهائياً قبل المؤتمر السابع عام 1984.
فقد انخرط كثيرون منهم مع جماعة “فوزي الكيالي”- بعد خروج حزب الاتحاد الاشتراكي من جبهة النظام عام 1972- ومارسوا الازدواجية أيضاً من خلال هذه المجموعة المرتدة وتحولاتها، تتمثل هذا التشكيلات بما سمي حينها حركة الحوار، وحركة الأنصار أو الإعداد، والتنظيم الشعبي الناصري، للتغرير بالأعضاء والتشكيك بسياسة حزب الاتحاد التي لم تتغير رغم جميع الصعاب؛ كل ذلك لاستقطاب الكوادر بشكل “سري” وبزعم بناء تشكيلاتهم الجديدة “الطليعية” على حساب حزب الاتحاد الاشتراكي العربي وكوادره وسمعته وكأنهم يتلقوّن تعليماتهم وتمويلهم من مصدرٍ واحد!، وما نقوله ليس نقداً لأشخاص محددين ولكنه نقداً لنهج وسلوك، فمن حق أي إنسان أن يقوم بتأسيس التشكيل/ـات التي يراها ويعتقد أنها مناسبة، ولكن ليس من حقه/ـهم أن يسعى/ـوا لذلك من داخل حزبٍ وثق به/ـهم واعتبره/ـهم أهلاً للثقة والوطنية فضلاً عن الناصرية والإيمان بالمبادئ والمثل العليا التي توافق/ـوا مع الحزب عليها!، وهنا بيضةُ القبان وبيتُ القصيد.
هذا الشكل المناور لهذه المجاميع، واللهاث خلف المناصب الحزبية، عطل الكثير من الانسجام التنظيمي فضلاً عن الوحدة الداخلية السياسية والفكرية، الذي لم ينهل منه ويستفيد سوى النظام الأسدي الرجعي، عبر دعم الروح الانهزامية والوصولية للكثيرين وأسوأهم كتبة التقارير لصالح الأجهزة الأمنية الأسدية.
وقد كانت أمام هذه المجاميع فرصة حقيقية عام 1979 للمراجعة والعودة عن سلوكياتهم عند تأسيس «التجمع الوطني الديمقراطي في سورية» وهذا للأسف لم يحدث، ولكنهم اتخذوه أيضاً دريئة جديدة للتصويب على حزب الاتحاد الاشتراكي ومنع وحدة العمل الوطني فضلاً عن الناصري في سورية، ولا زال الكثيرون منهم يراوحون بنفس المقولات المجّترة التي ثبت بطلانها كي لا يعترفوا بأخطائهم وخطاياهم ويقوموا بالمراجعة المطلوبة والجادة لهذا السلوك.
إن الناصرية لم ترحل مع رحيل ملهمها، وأنه لايزال للرجل وأفكاره وممارسته رصيدٌ قومي لا يستهان به على الإطلاق، وهو رصيد يتصاعد كل يوم كردة فعل على مسيرة السادات التي ثبت لكل ذي عينين أنها وعلى طول الخط النقيض الكامل والشامل لخط وطريق عبد الناصر، لا سيما في الموقف من أخطر القضايا القومية التي تتعلق بحرية الأمة العربية واستقلالها وحيادها، وليس موقف السادات من قضية فلسطين إلا ذروة المسيرة المُرتدة من جديد إلى أحضان الاستعمار والتبعية للإمبريالية، وقد فتحت الطريق لعودة الأمة والوطن العربيين إلى عهد مناطق النفوذ وتكريس الرجعية والتبعية والاستبداد بشكلٍ أكبر.
إن الحديث عن الناصرية، فكراً وممارسةً وتراثاً، بات معروفاً وواضحاً ومحدداً، غير أن ما يحتاج إلى الحديث والشرح هو وضع الناصريين، الذين بات لهم أكثر من تنظيم وأكثر من قيادة، قياساً لما نشاهده في جميع الساحات العربية خاصة بعد الثورة العربية عام 2011 ومفاعيلها، وكثيراً ما يُجمعوا على ضرورة توحيد الصف الناصري، وكم نتمنى أن يضعوا أمنياتهم في الوحدة موضع التنفيذ، وندعوهم إلى المبادرة الفورية لعقد اجتماعات تمهيدية في أي شأن يروه مناسباً لوضع أسس الوحدة التنظيمية الناصرية.
أخيراً؛ إن موقف الإنسان الثوري من تجربته ومن عثراته هو أهم وأوثق مقياس للحكم على ثوريته ذاتها وعلى جدواها، فالذي يُكابر ويماري في الحق، الذي يُزوِّر الوقائع ليُخضعها لمعطيات فكره المُسبقة بدلاً من أن يجعل من الوقائع مّحكاً وحكماً، ليس ثورياً؛ بل ولا إنساناً جدياً، وهو بهذا الموقف إنما يتأرجح بين الانتهازي والمتعصب؛ وكلاهما يأتي العميلْ أو الخائنْ ليلعب بهما، أو لينفخ في مصلحية الأول وانتهازيته أو في غرور الثاني وعصبيته، ليجرهما في طريق خيانة قضية الوطن والثورة، والانحراف عن طريقها.
المصدر: موقع (الحرية أولًا )