مُلاحظاتٌ أساسيَّة حولَ مُنطلَقات فَهْمِ الهُوِيَّة 

مازن أكثم سليمان

* في إطار عمَلي على مَشروع كتاب (الهُوِيَّة الحضاريَّة الكُلِّيَّة)، تُصادفُني أفكارٌ تنميطيَّة وتأطيريَّة ذات صبغة مُسَبَّقة شائِعة تعودُ (من حيثُ المبدأ) إلى الجهل المَعرفيّ والكسل الثَّقافيّ في حال اكتفينا باعتماد حُسْن النِّيَّة، وإنْ كانَ ذلكَ لا ينفي، أبداً، وجودَ البُعد العُنصريّ في المَسألة من جانب أوَّل، وبُعْدَ جَلْدِ الذّات والفُقدان المُزمن والحادّ للثِّقة بالنَّفس من جانبٍ ثانٍ، وهوَ ما يُصيبُ الشُّعوبَ المُتأخِّرة حضاريَّاً كما بيَّنَ ذلكَ (ابن خلدون) في مُقدِّمتِهِ المُؤسِّسة..

* من هذهِ المَقولات الشّائِعة إلى حُدود الأخذ بها كأنَّها أفكارٌ مُنزَلةٌ من السَّماء (يا للإفلاس..!!) والتي فكَّكتُها في أبحاثٍ ومَقالاتٍ عدَّة مَقولةُ: “عُلماء اللُّغة والنَّحو العربيّ جميعُهُم ليسُوا من العرق العربيّ”..

* قارَبتُ هذهِ المَقولة السّائِدة جهلاً ووهماً، ضمنَ تفكيكيّ لمَقولةٍ أشمَل: “مُعظَمُ أعلام الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة غير عربٍ”، وذلكَ تحديداً في بحثي المنشور والمُطوَّل: “الأخطاء الشّائعة في الأفكار الذّائِعة _ تهافت التَّشكيك بنسَب أعلام الحضارة العربيّة”، وتمَّ هذا التَّفكيك بواسطةِ مُستوييْن:

1- عبرَ التَّفنيد النَّظَريّ لمَفهوم الهُوِيَّة والثَّقافة والحضارة.

2- عبرَ التَّحليل البُرهانيّ والإحصائيّ المُوثَّق والمُؤصَّل تاريخيَّاً للأعلام العرب في مَجالات العلم والمَعرفة والإبداع كافَّة.

* يقومُ ردّي الأوَّل: الرَّدّ المَنهجيّ/ النَّظَريّ على (المَقولة/ الفرضيّة الذّائِعة) القائِلة إنَّ مُعظَم أعلام الحضارة العربية الإسلاميّة ليسوا من العرق العربيّ على ثلاث نقاط أساسيّة، هيَ:

1_ إنَّ ما يعتقدُهُ البَعض _ وذلكَ عن قِصَر نظَر _ أنَّهُ ذمٌّ للعرب، ليسَ إلّا مديحاً لا مَثيلَ لهُ يُؤكِّدُ التَّقليد التّاريخيّ الرّاسِخ للعُروبة بوصفِها انفتاحاً وتشارُكاً، وهذهِ نقطة تُسجَّل لصالح العرب لا ضدَّهُم، فهذهِ (التُّهمة) _ إذا فرَضْنا صحَّتَها جدَلاً _ (أي إنَّ مُعظَم علماء الحضارة العربيّة الإسلاميّة ليسوا عَرَباً) تُؤكِّدُ كونيّة هذهِ الحضارة وإنسانيَّتِها ولا مركزيتِها التَّعدُّديّة عبرَ مَنحها الآخَر المُختلِف حُقوقَهُ الوجوديّة الكامِلة مثله مثل العربيّ الأصل، حتّى يبلُغَ حُدودَ الإبداع في المَجالات المُتنوِّعة، في ظلّ حضارة أعلَنَتْ في أدبيّاتِها الدّينيّة السّائدة منذ انبثاقِها أنَّهُ لا فرقَ بينَ عربيٍّ وأعجميٍّ إلّا بالتَّقوى، والنّاس سواسية كأسنان المشط، ولذلكَ أجِدُ على سبيل التَّمثيل لا الحصر، أنَّ ما أوردَهُ “الأصفهانيّ” في كتاب “الأغاني” أنَّ المُغنِّين العَرَب الثَّلاثة الأُوَّل في الحجاز في فترة صدر الإسلام هُم من أصول غير عربيّة (ابنُ سُريج تركيّ الأصل، والغَريض بربريّ، ومَعْبَد زُنجي)، هوَ لصالح الرَّصيد الحضاريّ العربيّ لا ضدَّهُ، حيثُ أتساءَلُ هُنا: أليْسَ مُذهِلاً أنْ يدخُلَ أُناسٌ من أعراق غير عربيّة إلى عُمْق الجزيرة العربيّة في هذهِ الفترة المُبكِّرة من الإسلام ويكونوا روّاداً في فنّ الغناء؟ وفي الوقت نفسِهِ، أليْسَ لافِتاً ما تنقلُهُ المَصادِر التّاريخيّة عن ازدهار هذا الفنّ في الحجاز منذ صدر الإسلام؟

2_ إنَّ مفهوم الوعاء (الثَّقافيّ _ الحضاريّ) يتجاوَزُ (المَسألةَ القوميّة العرقيّة)؛ أي بوصف علماء هذهِ الحضارة الذينَ كانوا من كُلّ الأعراق هم أبناء هذا الوعاء العربيّ الحاضِن، وعناصِرِه المُهيمِنة (لُغويّاً وإبداعيّاً وفكريّاً وعلميّاً وطبعاً روحيّاً)، فنحنُ مثلاً في هذا العصر لا نُعِدُّ “إدوارد سعيد” عربيّاً إلّا بالولادة، فهوَ مُفكِّر غربيّ بالمعنى (المَنهجيّ) نسبيَّاً، كونهُ ابن المُؤسَّسة الأكاديميّة الأمريكيّة، مع التَّأكيد الضَّروريّ في هذا السِّياق أنَّ (مَفهوم الهُوِيّة) أصلاً هوَ مَفهوم تراكُبيّ وتعدُّديّ وغير أحاديّ، ولنا في عشرات أعلام الحضارة العربيّة/ الإسلاميّة من الأصول العرقيّة غير العربيّة الذين وُلِدوا وترعرعوا وتتلمذوا وأبدعوا في مُدنٍ عربيّة خالصة خيرُ مثالٍ على هذِهِ التَّشارُكيّة التَّعدُّديّة، ولنا الآنَ في آلاف العُلماء والمُبدعين والمُثقَّفين العرب في الغرب خيرُ مثالٍ أيضاً على التَّشابُك الهُوِيّاتيّ بما هوَ تشابُكٌ ذو دلالاتٍ كونيّة رحبة.

3_ تنتشرُ مَقولةٌ شائعة، وتُشكِّلُ هذِهِ المَقولة رافِداً آخَر للتَّشكيك بدور العُلماء العرب في الحضارة العربيّة/ الإسلاميّة، وللتَّشكيك على نحْوٍ أوسَع بوجود هذِهِ الحضارة أصلاً، حيثُ يقول أتباع هذِهِ المقولة النَّمطيّة إنَّ مُعظَم الأعلام المُسلمين كانوا مُلحدين، أو على الأقلّ، كانوا ضدّ النُّظُم السِّياسيّة/ الدِّينيّة القائِمة، وتعرَّضوا للاضطهاد السِّياسيّ أو الدّينيّ الذي كان يصل إلى حُدود القتل أحياناً، ولذلكَ فَهُم بهذا المَعنى ليسوا مُنتمين إلى السِّياق العربيّ/ الإسلاميّ، ولهذا لا وجود لحضارة عربيّة/ إسلاميّة كما يدَّعي أصحاب هذِهِ الرُّؤية، والرَّدّ عليهِم يقوم على مَسألتيْن، الأُولى تنفي عمَليّاً وإحصائيّاً هذِهِ الفكرة التَّعميميّة المُبالَغ فيها، ذلكَ أنَّ أكثريّة أعلام الحضارة العربيّة/ الإسلاميّة كانوا مُؤمنين أو مُتدينين بالمَعنى العقائديّ، وفي مُقدِّمتِهِم مثلاً ابن خلدون نفسه، وحتّى ابن رشد (الفقيه المالكيّ أصلاً) الذي أُحرِقَتْ كُتُبُه، وكذلكَ الفلكيّ الكبير ابن الشّاطر أيضاً (وقد أثبَتَ العالِمان “ديفيد كينج” و”نويل سويردلو” وغيرهُما، أنَّ “كوبرنيكوس” قد نسَخَ جميع أفكارِهِ العلميّة الثَّوريّة في تاريخ الحضارة الغربيّة من مخطوطات ابن الشّاطر التي كانت موجودةً في جامعتِهِ “كراكو” في مسقط رأسِهِ في بولندا، وقد اطَّلَعَ عليها كوبرنيكوس مُبكِّراً)، وكانَ ابن الشّاطر رئيس المُؤذنين في الجامع الأمويّ، وما تزالُ ساعتُهُ الشَّمسيّة التي صنَعَها لضبط أوقات الصَّلاة مَحفورةً على إحدى مآذن الجامع الأمويّ حتّى الآن. وهُناك الكثير الكثير من الأمثلة على مثل هؤلاء الأعلام العرب، فضلاً عن أنَّ كثيراً من الأعلام الكبار كانوا هُم أنفسَهُم خلفاءً أو حُكَّاماً أو وزراءً، أو رجالَ دينٍ وفقه، أو مُثقفين وعلماء مُقرَّبينَ من السُّلطات الحاكِمة، مع عدَم نفي وجود حالات غير قليلة من الأعلام الكبار الذين تعرَّضوا للاضطهاد السِّياسيّ والدّينيّ (الدَّمويّ أحياناً) في التّاريخ العربيّ/ الإسلاميّ، لكنَّ الرَّدّ الثّاني يقول إنَّ اختلافَهُم لا ينفي بناءً على مَناهج العلوم الإنسانيّة الحديثة مبدأ الوعاء العام الذي يتجاوَز الرُّؤية الميتافيزيقيّة القائِمة على الثُّنائيّات المُتضادّة، وبمَعنى أكثَر تبسيطاً _ ولأنَّ الأنا هو الآخَر _، لا يُمكِنُ النَّظَر إلى الأعلام المُضطهدينَ إلّا بوصفِهِم جزءاً لا يتجزَّأ من النَّسَق العام للحضارة العربيّة/ الإسلاميّة، فوجود المُلحدين على سبيل التَّمثيل (أو المُتَّهَمين بالزَّندقة) هو جزءٌ طبيعيّ من تنويعات أيّ وعاء ثقافيّ أو حضاريّ قديم أو حديث في تاريخ الشُّعوب والأُمم، ولا يُغيِّر من مبدأ “الهُوِيّة الثَّقافيّة” و”الانتماء الحضاريّ” شيئاً.

* التَّحليل البُرهانيّ الإحصائيّ المُوثَّق تاريخيَّاً:

على الرّغم من أنَّني لا أفضِّل الانجرار خلفَ الرّدّ على أقاويلَ تقوم على فرضيّات تعميميّة مُتهافِتة وناهِضة معَ الأسف على ألاعيب التَّلفيق والاختزال والتَّسطيح، لكنَّ ضرورة هذهِ المَرحلة الحرِجة التي نحنُ في خضمِّها، وحَجم تزوير البديهيّات بهدَف الانتقاص من العُنصر العربيّ وتاريخِهِ، ولأنَّ الضّالّينَ والمُضلَّلينَ والمُصابينَ بلوثة العِناد والغوغائيّة ونقل الثَّرثرات الفارغة والاستسلام لعُقد النَّقص المُكتسَبة هُم أكثَر ممّا نتوقَّع، فضلاً عن التَّغييب المُمنهَج لأسماء عدد كبير من أعلام العرب، والتَّعتيم المُريب على دورهم الإنسانيّ العظيم، كُلّ هذِهِ الأسباب دفَعتْني كي أتعمَّقَ شخصيّاً بنسبة العرب من عُلماء الحضارة العربيّة الإسلاميّة ومُبدعيها بـِ (المَعنى العرقيّ البَحت)، وقد التقَتْ وتقاطَعَتْ مُتابَعتي هذِهِ _ التي لا أدَّعي فيها الإحاطة الكامِلة بالأعلام والإحصاء، فهذا أمر شبه مُستحيل في مُقارَبة مُحدودة الحجم كهذِهِ _ مع عددٍ من الدِّراسات التي تُحصي انتماءَ ما يُشكِّلُ نسبةً كُبرى إلى العرق العربيّ، حيثُ يُمكِنُ أنْ تُقدَّر هذِهِ النِّسبة _ أوَّليّاً وتقريبيّاً وقياسيّاً _ بالثُّلث من أعلام هذهِ الحضارة في المَجالات كافّة، وهذا أمرٌ لافِتٌ جدّاً، ويكشفُ حجمَ الشَّطَط الشّائِع والتَّزوير الذّائِع، ولا سيما في ضوء تمازج العرب مع عشرات الشُّعوب والأعراق والقوميّات واسِعة الوجود والامتداد ديمغرافيّاً بعدَ الإسلام.

* وهكذا: وثَّقتُ في بَحثي المَذكور أعلاه نسَبَ أكثر من (مائة) من الأعلام العرب الكبار، وإبداعاتِهِم في المَجالات كافَّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ومنهُم من كانَ من المُؤثِّرين الحاسِمين في النَّهضة الغربيّة.

* أعودُ إلى مَقولة: “إنَّ علماء اللُّغة والنَّحو في الحضارة العربيَّة/ الإسلاميَّة ليسوا عرباً”، وأضربُ مثالاً شائِعاً جدَّاً حولَ هذا الأمر:

_ الفراهيديّ وسيبويه:

* الخليل بن أحمَد بن عمرو بن تميم الفراهيديّ الأزديّ اليحمُديّ هوَ: مُخترِع علمَي العروض والقوافي، ومن أوّائل من ضبَطوا اللُّغة العربيَّة، وحصَروا أشعارَ العرب، وقد أنجزَ هذا العملاق نظاماً للعربيَّة جمَعَ فيهِ كلّ مُفرداتها بطريقةٍ رياضيَّةٍ حاصِرة، إذ تمتَّع بعقليَّة حسابيَّة فذَّة، ووضَعَ أحدَ أقدم المعاجم في التّاريخ البشريّ (مُعجم العين) مُعتمِداً على ظاهرة التباديل…….

* في النَّحو:

أكمَلَ الفراهيديّ الأُسُس التي وضَعها النُّحاة، وفي مُقدِّمتِهِم ما وضعَهُ مُؤسِّسُ علم النَّحو (أبو الأسود الدؤلي الكنانيّ المُضريّ العدنانيّ).

* وكانَ (الفراهيديّ) أستاذَ (سيبويه) الذي رافقَهُ سنواتٍ طويلة، وكانَ يأخُذُ علمَ النَّحو عنهُ، ويُدوِّنُ آراءه واستنباطاته، ويُقالُ إنَّهُ أخَذَ عن الفراهيديّ (450) اقتباساً في “الكتاب: كتاب سيبويه”، فضلاً عن اقتباساتِهِ من (42) نحْويَّاً عربيَّاً، وكانَ سيبويه يُشير في كتابِهِ إلى الفراهيدي دائِماً بقولِهِ: “سألتُهُ” و”قالَ” ووو…

* في جميعِ الأحوال: هذا الكلامُ لا ينفي قطّ عبقريَّة سيبويه، ودورهُ، وخدمتَهُ للُّغة العربيَّة وقواعدها، ومكانةَ كتابِهِ/ المصدر والمُؤسِّس.

* كما لا ينفي هذا التَّفنيدُ بالمَعنى الثَّقافيّ والحضاريّ انتماءَ سيبويه إلى وعاء الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، بقدر ما يُؤكِّدُ هذهِ الفكرة، إلى جانب تأكيد حُضور هُوِيَّة سيبويه المُعطاة بالولادة في بنائِهِ النَّفسيّ والمَعرفيّ، فالهُوِيَّة كما أُكرِّرُ باستمرار تراكُبيَّة تعدُّديَّة مفتوحة على التَّحوُّل والتَّغيير باستمرار..

* أخيراً: أذكُرُ في سِياق علاقة سيبويه بأُستاذِهِ الفراهيدي ما يُقالُ مثلاً في الغرب عن علاقة الفيلسوف الكبير “هايدغر” بأستاذِهِ الفيلسوف الكبير “هُسِّرل”؛ حيثُ يُردِّدونَ: “لولا فينومينولوجيا هُسِّرل لمَا ظهَرَتْ أُنطولوجيا هايدغر”، أو: “لولا هُسِّرل لمَا كانَ هايدغر”، وهذا لا ينتقصُ من مكانة هايدغر وعبقريتِهِ الفلسفيَّة بشيءٍ، ذلكَ أنَّهُ لا وُجودَ لمُبدعٍ في أيِّ مَجالٍ من المَجالات عبرَ التّاريخ يُولَدُ من العدم إلّا فيما ندر، وبمَعنىً نسبيّ جدَّاً..

 

المصدر: صفحة مازن أكثم سليمان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى