أحيانًا يبرز شخص يرفع اسم عائلته أو قبيلته، أو يرفع اسم المبدأ أو الوطن أو الفكر الذي ينتمي إليه، والأمثلة كثيرة يصعب حصّرها، ولكن حين نكتب عن جمال عبدالناصر وثورته قبل سبعين عاماً وفي غيابه فإن الأمر ذو شجون، فقد كتب الكثيرون عنه وهم أصحاب فكر وأساتذة أجلاء، فقد ظهر عبدالناصر بظهور القومية العربية وأصبح رمزاً خالداً لها ولكرامة أمتنا العربية وعزتها ولقد شغل الدنيا حينها، ووجد من أنصفوه ولكن ليس كما ينبغي، مثله مثلَ غاندي ونهرو ومانديلا وهوشي منه وجيفارا.. الخ، وكل هؤلاء وغيرهم نهلوا من تجارب شعوبهم وأغنوّها، فقدموا خلاصة إخلاصهم وضحوا بحياتهم لتلكم الشعوب وعزتها وتقدمها.
فكل هذه الأعوام التي مرت بها ذكرى ثورة 23 تموز/ يوليو سنة 1952 منذ رحيل قائدها عام 1970 بعد أن أطفأ مجزرة أيلول الأسود بحق الفلسطينيين في الأردن، مرت تلكم الأعوام كلها من دون احتفال النظام في مصر كما ينبغي بقيمتها وقيمها، بل قرر أن ينــسى 23 تموز/ يوليو، ولو استطاع أن يمحو هذا اليوم من الزمن لفعل فلا بأس إذاً من أن يحاول محوه من ذاكرة الناس؛ هل في هذا ما يدعو إلى الدهشة؟ أليس طبيعياً ومنطقياً مع ما جرى، ويجري في مصر والعالم العربي كله بعد 1970؟ بل أليس طبيعيا ومنطقياً مع حقائق النفس البشرية في لحظات ضعفها وانهيارها؟!
فإن الذي تبدو عليه علامات الثراء في غفلةٍ من الزمن، وغالباً بطريقةٍ غير مشروعة، لا يحبُّ أن يذكِّره أحد بأيّامِ فقره المدقع!، والذي يسقط في حياة الرذيلة يضيق أشدَّ الضيق بمن يمثّلُ أمامه صورة الفضيلة أو الشرف!، والقاتل دائماً لا يجبُ أن يتذكر أو يذكّره أحد باسم ضحيته!
ومع ذلك، فإن اسم جمال عبدالناصر لا يمكن أن يُمحى من تاريخنا العربي المعاصر، وليس بوسع أحد أن يزيله من ذاكرة الأجيال، فهو الذي وضع حداً نهائياً لأكبر مشروع نهب استعماري بالقرن التاسع عشر بمثل هذا اليوم في 26 تموز/ يوليو 1956 بتأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي، وقبلها كسر احتكار السلاح، وأُتبعتْ ببناء السد العالي لحماية مصر من الفيضان والجفاف، ثم جاءت تجربة الوحدة كأول تجربة وحدوية في العصر الحديث عام 1958 والتي اغتالتها أيدي غدر البعث السوري الانفصالي عام 1961، وتتالت المحطات تقدماً أحياناً كثيرة، والتعرض للهنات والنكسات بعض الأحيان، وهذه طبيعة العمل و النضال في أجواء دولية عاصفة استعماراً واستغلالاً ومؤامرات لمّا تنتهِ بعد؛ فالذين أحبوا جمال عبد الناصر وتعقلوا به، والذين كرهوه وحقدوا عليه، سواءٌ بسواء، لا يمكن أن يتخلصوا من تأثيره، حتى بعدما أصبح كيانه المادي أثراً في تراب مصر والوطن والعربي!
لا علينا في هذه الأيام من أولئك الذين يحاولون، وبعد مضي كل تلكم السنوات، أن يحطموا الصخر برؤوسهم الصلعاء، ولنسأل ماذا فعل الناصريون أنفسهم لعبدالناصر ووحدة الأدلة والهدف؟ أو بتعبيرٍ أدق ماذا تبقى من عبدالناصر وهو التجربة الناصرية أو الفكر الناصري والوحدة التي هي أداة التقدم العربي؟ وما هي الدراسات والأعمال الفكرية التي قدمها المفكرون الناصريون في الوطن العربي، وفي مصر بالتحديد لبلورة الأسس الفكرية لتلك التجربة التي حددت معالم مرحلة تاريخية في زماننا العربي المعاصر، بل في آفاق ما يسمى بالعالم الثالث بأسره؟؟ ليس المقصود هنا، تلك الأعمال التي غلب عليها انفعال الحماس، في تأييد تلك التجربة، أو الدفاع عنها، ما نبحث عنه هو الأعمال الفكرية التي تتجاوز لحظة الانفعال، من أجل محاولة التأصيل الفكري من خلال الاستيعاب والتجاوز.
ينبغي الاعتراف، بأن مثل هذه الأعمال قليلة إلى حد لا يصدق، على الرغم من أن كثيرين ممن ينتمون إلى “الناصرية” يستطيعون أن يقدموا الكثير في هذا المضمار على النحو الذي نهض به وقدمه الدكتور جمال الأتاسي، مؤسس وأمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية، وراهب الناصرية والوحدة العربية في آن.
ولقد أُعلِنَ، بعيد رحيل عبدالناصر، عن لجان سوف تتشكل، ومراكز أبحاث سوف تقام في مصر، وبالطبع كان ذلك كله مجرد آمال طوتها الرمال “السافية” التي هبت مع حركة السادات الارتدادية في 15 أيار/ مايو 1971 حتى الآن؟ وبعد مضي كل تلك السنين على رحيل عبدالناصر، ما الذي تحقق أو يمكن أن يتحقق؟ وإن كان قد أصبح متعذراً بل أوشك أن يكون مستحيلاً داخل مصر، فهل من العسير أن يتحقق خارج مصر؟ غير أن ثمة سؤال منهجي ينبغي أن يُطرح قبل أي محاولة لدراسة سمات وخصــــــــائص الفكر الناصري، وهو كيف ندرس هذا الفكر الناصري؟ وكيف يمكننا أن نقترب من فهم الناصرية؟
غني عن البيان أن الناصرية- شأن كل فكر- سوف تخضع في دراستها الآن لاتجاهات الباحثين الإيديولوجية ومصالحهم أو توجهاتهم السياسية الحالية، ومن الطبيعي أن نرى أكثر من ناصرية، وأن نقرأ أكثر من تفسير لها، وأن نشاهد أكثر من وجه من وجوهها، هذه دائماً مشكلة تَدخُّل إيديولوجيات الباحثين في العلوم الاجتماعية المعاصرة؛ لذلك، يمكن أن نطرح بعض الملاحظات المنهجية للتخفيف من تأثير مواقف الباحثين الإيديولوجية، وللاقتراب، في حدود الإمكان، من تخوم الموضوعية العسيرة فكرياً.
الملاحظة الأولى؛ إلى جانب ما ألح عليه الراحل جمال عبدالناصر في غير موضع، من أن الميثاق الوطني نفسه، وهو الوثيقة الفكرية الأكثر تبلوراً، تؤكد جميعاً أن الناصرية لم تكن فكراً سابقاً على التجربة، أو نظرية وُلدت من التأمل المجرد، بل كانت في جوهرها استجابة لمواقف طرحها تطور الواقع التاريخي الموضوعي، في مساره المعقد والمتشابك مع ما سبق، مهم للغاية، لأنه إلى جانب صدقه وموضوعيته فهو يقود أي باحث في الناصرية إلى أنها قد مرت بحكم طبيعتها بمراحل مختلفة، تطورت من خلالها ونمت فكراً وعملاً، تبعاً لمنطق تفاعلها مع واقع متغير، في إطار ظروف عالمية متطورة ومتغيرة، هذا يعني بالتحديد أولاً تأكيد مفهوم الارتباط الضروري بين الفكرة التي قيلت أو القيمة التي طُرحت واللحظة التاريخية التي قيلت أو طرحت فيها، وثانياً أنه على الرغم من أن الناصرية- تاريخياً- هي جماع كل الأفكار التي قيلت طيلة 18عام، فإنها- موضوعياً- هي مجموعة الأفكار والمواقف التي تبلورت وتحددت وتشكلت، قبل رحيل جمال عبد الناصر.
الملاحظة الثانية؛ هي ضرورة أن يضع الباحث يديه من خلال الدراسة التاريخية الارتقائية للناصرية على ما يمكن تسميته بالجوهر الحقيقي لها؛ أو بتعبير آخر، على ما هو جوهري حقيقة فيها، أي أن يتمكن وهو وسط أمواجها المتلاحقة من أن يلمس تيارها الأصيل الذي يسري بطريقة أو بأخرى عبر المراحل المتطورة المختلفة بحيث لا تتشتت عيناه وسط زحمة التفاصيل اليومية المتناثرة، أو تتعثر قدماه بين تعرجات المواقف التكتيكية التي كانت تمليها الظروف المؤقتة.
الملاحظة الثالثة؛ تتعلق بمنهج دراسة الناصرية أيضاً، هي ضرورة أن يربط الباحث ربطاً تاريخياً تكاملياً بين الفكر الناصري، وبين جذوره العميقة في تراثنا الوطني والقومي؛ وليس ثمة ما يجافي الواقع أكثر من التصور الساذج الذي قدمه بعض الباحثين في الماضي للناصرية، كثمرة نبتت في شجرة مقطوعة الجذور في تاريخنا الوطني والقومي، ولم يكن هذا التصور لحساب الناصرية، كما أراد أولئك الباحثون أن يوقعوا في ظننا زيفاً، لكنه على حسابها، فثورة 23 تموز/ يوليو لم تنقُضْ الماضي كله لكنها جاءت لتكمله بالمعنى الجدلي للكلمة.
الملاحظة الرابعة؛ إن الفكر الناصري لم ينبذ في يوم من الأيام الأفكار التي طرحتها الثورات الأخرى في العالم، فالناصرية أو الفكر الناصري هما الخلاصة الفكرية للتجربة العملية للناصرية، فالواقع أن ما من فكر مهم اكتسب خصوصيته لا ينطوي في الوقت نفسه على عناصر أخرى اكتسبت صفات عالمية، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من التراث الإنساني عامة.
على أن البحث في الناصرية- بعد تلك الملاحظات العامة- لا ينبغي أن يُتركَ في النهاية لجهد فرد أو آخر من الأفراد، بل ينبغي أن تنهض به مجموعة أو ربما مجموعات مستنيرة ومتكاملة من الباحثين، ولعل البحث الجاد في الناصرية، جذورها ونسيجها وآفاقها، وقراءتها نقدياً من خلال الاستيعاب والتجاوز باعتبارها ثورة مستمرة، هو أحد الواجبات الملحة على المثقفين الذين ينتمون إليها، ذلك لأنه لا ينطوي على جوهر الوفاء الحقيقي لها فحسب، لكنه يتضمن كذلك جوهر الإيمان الحقيقي بمستقبلها ومستقبلهم!
ولكن هل فعل الناصريون ما يرضي ضمائرهم؟ وأين هم الآن؟!
المصدر: موقع (الحرية أولًا)