بصرف النظر عن وجهة النظر الرسمية والسياسية، ظلت ثورة 23 يوليو 1952 المصرية تحظى بشِبْه إجماعٍ شعبيٍّ والتفاف فنيٍّ حولها، حتى زحفت الجموع نحو ميدان التحرير (يناير 2011) تحمل مطالبها (عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية .. كرامة إنسانية)، هل نستطيع أن نقول إن هذه مطالب الزمن الجديد؟ كيف هذا وأولى أولويات مشروع يوليو التي قام عليها هي العيش والعدالة الاجتماعية! أما المطلبان الآخران: الحرية والكرامة الإنسانية، فقد تباين تأويلُهما بين عقودٍ ستة، فمشروع يوليو كان يرفع الشعارين ضد الاستعمار، وجماهير يناير الزاحفة ترفعهما ضد النظام البوليسي القائم.
لا يخفى على متابع لأحداث يناير الظهور الساطع لصور جمال عبد الناصر –ممثلاً لمشروع يوليو- ومقولاته وأتباعه في ميدان التحرير، لكن خصومه –المشروع أو الرجل- حضروا أيضاً في شتاء 2011 في الميدان. وشيئاً فشيئاً تنحرف سهام النقد حيناً والشتم حيناً والسخرية أحياناً لتتجه صوب عبد الناصر، ويختلط الحابل بالنابل بين خصومه من اليمِينيين، ومعارضيه “القليلين” الواقفين عن يساره، لتظهر شريحة من شباب شعراء يناير الذين يتجاوز هجومهم الشعري عقود نظام مبارك الثلاثة ليضم إليها عقوداً ثلاثة أخرى سبقتها، ولا ينتبهون لاختلاف السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية، والأهم –والذي يعنينا هنا- أنهم لا ينتبهون لوقوفهم على الجهة الأخرى من حيث يقف غالبية آبائهم الشعريين!
أعود للوراء أربعين سنة، فأقف على عشرات المرثيات سبَكَها الصف الأول من الشعراء المصريين والعرب في رثاء جمال عبد الناصر شخصاً ومشروعاً، فهل غرَّرَ بنا شعراؤنا أم غرَّرَتْ بهم عواطفهم أم غرَّرَتْ بالجيل الشاب من الشعراء فورةُ الميدان وشهوة التحطيم؟!
منذ القديم وافترقت الأغراض الشعرية إلى مديح وهجاء ورثاء… إلخ، ولا زالت المراثي تمثِّل أصدق الشعر وأنبله لخلوِّها من الغرض ورغبة العطاء ورهبة السيف، فإذا انتفى الغرض من عشرات المراثي التي دُبِّجَت في رثاء عبد الناصر، فلم يبقَ أمامنا سوى إيمان الشعراء الحقيقي -آنذاك- بهذا المشروع وهذه التجربة في تلك السنوات، سيّما وأن أغلبهم كانوا يقفون على يسار النظام في ذروة سطوته ونالوا قسطاً لا بأس به من الاعتقال والتشريد!
استُدعيَ عبد الناصر ويوليو في ميدان يناير 2011، ليس باعتباره النظام الأمثل الذي يجب استرداده للعيش في ظلاله بكل تفاصيله، ولكن باعتبارها النقطة المضيئة التي يجب أن ننطلق منها من حيث المبدأ، أو المؤشر الصحيح للطريق الذي يجب أن نسلكه وفق معطياتنا، هذا ما رآه أنصاره. بيْدَ أن الذين أدمنوا مهاجمة عبد الناصر بعد ذلك –سيّما من شباب الشعراء الظامئين لجرعة حرية هانئة- لم يفهموا الأمر إلا على أنه ارتداد عن الحرية المنشودة في اللحظة الينايرية الاستثنائية.
ثمة حَوَلٌ في الرؤية أصاب البصر الجماعي، فمن يهتف له يهتف للمصنع ومن يهتف ضده يهتف ضد المعتقل، من يهتف له يهتف ضد أمريكا ومن يهتف ضده يهتف ضد البوليس، ولا أتصور هجوماً شعرياً توجَّه نحو عبد الناصر بهذه القوة قبل 2011، وليس في هذا إشكال، فمن حق كل شاعر أن يقول ما يشاء، لكن أيضاً من حق القارئ أن يبحث عن الموقع الذي يقف فيه شاعره اليوم كما هي الحال بالأمس، فليس من المنطقي –بعيداً عن فنيّات القصيدة- أن تستوي قصيدة رثاء لعبد الناصر كتبها شاعر تمرّغ في خيرات نظامه مع قصيدة رثاء لعبد الناصر يكتبها شاعر قضى خمس سنوات من عمره في معتقلات عبد الناصر مثل فؤاد حداد!
هل خاننا شعراؤنا فؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي ونزار قباني والفيتوري ومحمود درويش… إلى آخر هذا الطابور الطويل؟ أم خانتهم البصيرة؟ أم سرقتهم العاطفة الجماعية؟ هل في إمكاننا الوقوف مرة أخرى والتحديق في موقفهم الجماعي هذا، دون أن نغض الطرف في حياءٍ ونُشيح عن هذا الموضوع؟
أتصور أن الإشكال يكمن في محاسبة الماضي وفق معطيات الحاضر، وإسقاط أزمات الحاضر على الماضي، وإن كانت في هذا الماضي -نفسه- لم تكن تمثل أزمة أو ضرورة، وإلا لتصدَّى لها شعراؤنا هؤلاء… هذا وإلا فعلينا مراجعة كل ما جاءنا من كلمات هؤلاء ومواقفهم، ما دامت بصائرهم مغشوشةً إلى هذا الحدّ!
يرثي عبد الرحمن الأبنودي جمال عبد الناصر فيُتَّهم –رغم سذاجة التهمة- بأنه شاعر كل الأنظمة، ويرثيه أحمد فؤاد نجم فلا يستطيع أحد اتهامه بالموالسة –فهو الثائر القديم- لكن يُشاع أنه شاعر مخلص محدود الوعي والثقافة، لكن ما الحيلة في شاعر لا غبار عليه مثل فؤاد حداد على قدر رفيع من الثقافة والزهد ونال قسطاً كبيراً من الاعتقال، ومع هذا كتب قصيدة مطوّلة عنوانها “استشهاد جمال عبد الناصر”؟!
ربما يقدِّم الشاعر أمل دنقل صيغة توافقية بين جيلين في رؤيته لعبد الناصر، تتبدَّى في إجابته على سؤال زوجته الكاتبة عبلة الرويني، ذات الانحياز الناصري الواضح، حين سألته وهو يكتب قصيدته (خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين) قائلةً: “أنت بتكره عبد الناصر يا أمل؟”، فيجيبها الشاعر: “لا أستطيع أن أكره عبد الناصر، لكن المناخ الذي يعتقل كاتباً لا يصح الانتماء إليه”.
لم يكن شعراء الستينيات والسبعينيات وحدهم من وضعوا الأجيال اللاحقة من الشعراء في هذا الحرج، لكن هناك طابور طويل من المثقفين الثقات لعل أبرزهم ناجي العلي –الذي حلّت ذكرى استشهاده قبل يومين- والشهيد جمال حمدان، وغيرهم ممن يحظون بتقدير كبير من الأجيال اللاحقة التي تصطَفّ على النقيض منهم، وبشراسة، ضد عبد الناصر شخصاً ومشروعاً!
لكن ما يعنينا هنا هو الشعر بصفته مؤسساً للذاكرة الوجدانية للشعوب، فلا ينبغي التعامل بخِفَّة مع ظاهرة مثل ظاهرة مرثيات عبد الناصر –خصوصاً ممن أوذوا في عصره- دون محاولة تحليلها ومعالجتها، لنقف على محركات وبواعث وحقيقة رؤى جيل كامل من الشعراء، بدلاً من وقوفنا إزاء خصومة مُضمَرة بين جيلين وثورتين لم تُفَكّ شفرتها حتى اليوم!
المصدر: منصة الاستقلال الثقافية