دستور تونسي على مقاس الرئيس

عمر كوش

أدخل الرئيس التونسي، قيس سعيّد، تعديلاتٍ شكلانيةً على مشروع الدستور التونسي الجديد، إضافة إلى تصحيح أخطاء لغوية وردت فيه، لكن تعديلاته وتصحيحاته لم تغير من مضمونه، أو من مواده التي اعترضت عليها قوى سياسية ومدنية عديدة في تونس، وذلك لأن المراد منه إحداث قطيعة شاملة مع النظام البرلماني بمختلف أشكاله، والانحياز الكامل إلى نظام رئاسي يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات تنفيذية واسعة، ويعزّز سلطاته إلى درجة تنتهك مبدأ الفصل والتوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، مع إلغاء الهيئات الدستورية المستقلة، التي نص عليها دستور 2014، بصفتها هيئات ضامنة للحقوق والحريات وللرقابة ولحماية النظام الجمهوري، مقابل الإبقاء على الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات فقط، إلى جانب إلغاء نظام السلطات الثلاث المستقلة، واجتراح تسميتها وظائف تشريعية وتنفيذية وقضائية.

ووفق نص المشروع، المقرر أن يعرض على الاستفتاء في 25 من شهر يوليو/ تموز الجاري، يتحكّم الرئيس بمختلف مفاصل السلطة التنفيذية، التي يمارسها “بمساعدة حكومةٍ يقودها رئيس حكومة” يعيّنه الرئيس، ولا تُعرض حكومته على البرلمان لكسب ثقته، ويعيّن رئيس الحكومة وأعضاءها باقتراح من رئيس الحكومة، وإليه تعود سلطة عزلها تلقائياً، فيما “تسهر الحكومة على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية”، وهي مسؤولة عن تصرّفاتها أمام الرئيس. فضلاً عن أن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذي يحدّد السياسة العامة للدولة، ويصادق على القوانين والمعاهدات، ويمكنه تقديم نصوص تشريعية إلى البرلمان “الذي يجب أن ينظر فيها على سبيل الأولوية”. كما يحقّ له تسمية القضاة وتعيين كبار المسؤولين في الدولة باقتراح من رئيس الحكومة.

وفيما يحتكر الرئيس، وفق مشروع الدستور التونسي الجديد، السلطة التنفيذية، مع هيمنته الواضحة على السلطتين، أو الوظيفتين، التشريعية والقضائية، فإنه، في المقابل، غير مسؤول أمام أي جهة أو هيئة أخرى، لا سياسياً ولا دستورياً، حيث لا ترد في نص مشروع الدستور إشارات إلى وجود أي سلطة رقابية على أداء الرئيس من المؤسسات الدستورية، ولم يتم تحديد أي شروط لسحب الثقة منه، وذلك تكريساً لسلطة الفرد المنزّه عن المحاسبة أو المساءلة، حيث “يتمتع بالحصانة طيلة توليه الرئاسة، وتعلق في حقه كافة آجال التقادم والسقوط، ويمكن استئناف الإجراءات بعد انتهاء مهامه. كما لا يسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه”، الأمر الذي يشي بأن مشروع الدستور الجديد فصّل على مقاس الرئيس قيس سعيّد، ويُراد منه تجسيد عملية انتقال تونس إلى دولة سلطوية، ما يعني اكتمال إجهاض الثورة التونسية وضرب جميع وعودها.

واللافت أن توطئة المشروع تبدأ بعبارة “نحن الشعب التونسي، صاحب السيادة”، ثم تتكرّر فيها عبارة “نحن الشعب التونسي” مرّات عديدة، فيما يشي منطقها بأنها لغةٌ شعبويةٌ سمجة، وخشبيةٌ متكلسةٌ وركيكة، تتحدّث عن “الصعود الشاهق غير المسبوق في التاريخ”، وعن التعبير عن “الإرادة الشعبية” و”الاختيارات الكبرى” في تحليق ميتافيزيقي، بعيد كل البعد عن لغة الدساتير، كونها مسكونة بـ”أنا” مغرقة في الفردية، تنطق باسم “نحن” الجمعية، وصادرة عن فردٍ حاكم يريد مصادرة إرادة الشعب وكتم صوته، عبر تقرير ما يريده والتحدّث نيابة عنه، وهو ما يتوافق مع الخطاب الشعبوي التسلطي للرئيس سعيّد، الذي اعتبر أن ما قام به من إجراءات وخطوات تسلطية، منذ تجميده أعمال البرلمان في العام الماضي، كانت مطلوبة ولا مفرّ منها، وضمّنها في مشروع دستوره، من خلال التعبير عنها بصياغة غير قانونية أو دستورية، تدّعي التأسيس لجمهورية ثانية، وتتبجّح بأنه “كان لا بد من الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثورة، بل ومن تصحيح مسار التاريخ، وهو ما تمّ يوم 25 من شهر جويلية من سنة 2021، تاريخ ذكرى إعلان الجمهورية”.

وتتماهى صياغة مشروع الدستور الجديد وموادّه مع أسلوب الرئيس سعيّد وأطروحاته. ولذلك لم يكتف مشروع الدستور بالتقليل والحدّ من دور البرلمان وسلطته، بل قلّص كثيراً من صلاحياته، واعتبره رديفاً لمجلس نيابي ثانٍ هو “المجلس الوطني للجهات والأقاليم”، كما اعتبر وكالة النائب في البرلمان قابلةً للسحب وفق شروط، ومنع عنه الانتقال من كتلة برلمانية إلى أخرى.

ويبدو أن الغرض من ازدواجية مما دُعيت الوظيفة التشريعية تعقيد المصادقة على مشاريع القوانين، وخصوصاً المتعلقة بالجانبين الاقتصادي والمعيشي، بما يعني تعطيل حل الأزمات والإشكالات، بينما يمتلك الرئيس، في المقابل، الحق في المبادرة التشريعية، وفي إصدار مراسيم إثر تفويض برلماني أو خلال العطلة البرلمانية أو في حال حلّ البرلمان، ويمارس حق نقض (وردّ) مشاريع القوانين المصادق عليها من البرلمان، ويمارس سلطاته في حال إعلان حالة الاستثناء أو الطوارئ من دون أية رقابة عليها.

أما المجلس الوطني للجهات والأقاليم فهو يعتمد، فيما يبدو، النظام القاعدي الذي روّجه كثيراً الرئيس سعيّد، حيث يتكون المجلس من “نواب منتخبين عن الجهات والأقاليم. وينتخب أعضاء كل مجلس جهوي ثلاثة أعضاء من بينهم لتمثيل جهتم بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم. وينتخب الأعضاء المنتخبون في المجالس الجهوية في كل إقليم نائباً واحداً من بينهم يمثل هذا الإقليم في المجلس الوطني للجهات والأقاليم. ويتم تعويض النائب الممثل للإقليم طبقاً لما يضبطه القانون الانتخابي”. ويخضع أعضاء المجلس للأحكام ذاتها المتعلقة بالمجلس الأول، سواء فيما يتعلق بعدم ممارسة نشاط آخر أو بالحصانة البرلمانية. ويحقّ للرئيس حلّ البرلمان، وحلّ مجلس الجهات والأقاليم أيضاً.

والحاصل أن مشروع الدستور التونسي الجديد جاء كما أراده الرئيس سعيّد، فالنظام فيه رئاسي بصلاحيات واسعة ومتطاولة، تجعل منه نظاماً سلطوياً، ويتغوّل فيه الرئيس، كما في الأنظمة الديكتاتورية، على البرلمان وعلى رئيس الحكومة وعلى سائر هيئات ومؤسسات الدولة، مع تغييب دور الأحزاب وتهميش دور منظمات المجتمع المدني والهيئات المستقلة. وبالتالي، سيوطد إقرار دستور كهذا نظاماً سلطوياً، ويزيد من تفاقم أزمات تونس السياسية والاقتصادية، فيما يعاني غالبية التوانسة من تدهور أوضاعهم المعيشية، في ظل استمرار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تُنذر بممكنات حدوث انفجارات واضطرابات سياسية واجتماعية خطيرة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى