تتار القرم.. المسلمون السنة يقودون المقاومة ضد بوتين في أوكرانيا

ترجمة: هدير عبد العظيم

مقدمة الترجمة

نادراً ما يثار الحديث حول تتار القرم في خضم المعارك الدائرة في أوكرانيا اليوم رغم أن معاناتهم من الاحتلال الروسي تسبق أحداث الحرب الأخيرة. حول هذا الموضوع أعدَّ “روري فينين”، الأستاذ المشارك في الدراسات الأوكرانية بجامعة كامبريدج ومؤلف كتاب “دماء الآخرين: فظاعة ستالين في القِرم وشعرية التضامن”، مقالا نشرته مجلة “الأتلانتيك” الأميركية، تناول فيه تاريخ تتار القرم ومعاناتهم من الاحتلال الروسي، وكيف يتضامنون الآن مع الأوكرانيين في حربهم ضد العدو الروسي المشترك.

نص الترجمة

في مايو/أيار 2020، وقف الكاتب الأوكراني “سيرهيو جادان” أمام حشد من مشاة البحرية الأوكرانيين الذين اشتدت عليهم المعارك في إحدى القواعد بمدينة “ماريوبول”، على بُعد نحو 64 كيلومترا من الحدود الروسية؛ حيث كان الجنود صامدين منذ ست سنوات في مواجهة المقاتلين الموالين لروسيا في إقليم “دونباس”، وقد جاءهم “جادان” لرفع معنوياتهم ببعض أبيات الشعر.

نظر “جادان” نظرة خاطفة إلى حاسوبه اللوحي (التابلِت) في يده اليمنى، ثم ألقى أبياتا مُختارة من أشعاره الأوكرانية بثقة واضحة، وكأنه يعرف جمهوره هذا منذ زمن طويل. كانت القصيدة الأخيرة التي ألقاها ذلك اليوم ذات طابع سريع مختصر وكأنها رسالة تلغراف، وقال فيها:

“كيف بنينا بيوتنا؟

عندما تقف أسفل سماوات الشتاء

ويدير النعيم ظهره ويطفو مبتعدا؛

تدرك حاجتك إلى العيش حيث لا تخشى الموت”.

يخاطب شعر “جادان” التهديد الوجودي العميق الذي تواجهه أوكرانيا بأكملها اليوم، ويَهمِس في آذان مستعميه بما ألفوه من احتلال روسيا المروِّع. بيد أن أشعار “جادان” بصداها الواسع، استُلهِمَت من فئة مُحدَّدة من المواطنين الأوكرانيين، وحسبما أوضح للجنود في “ماريوبول”، تحكي قصيدة “كيف بنينا بيوتنا؟” عن تتار القِرم، السكان الأصليين لشبه جزيرة القرم في البحر الأسود، وهُم أحد الأعراق التركية المنتشرة والممتدة من إقليم تركستان الشرقية (شينجيانغ) الصيني في الشرق وحتى تركيا والبلقان في الغرب*. فقد أشار “جادان” ذات مرة قائلا: “طريقنا مع تتار القرم ضيق وطويل، لأنهم إخواننا في الوطن”.

تتار القرم.. رحلة الألم والغُربة

يُعَدُّ فهم تتار القرم هذه الأيام دونا عن غيرهم مفتاحا لفهم أوكرانيا المعاصرة وهويتها الوطنية المدنية والحيوية، التي لعلها القوة الأشد دفاعا عن الديمقراطية اليوم. فقد ساعد هذا الشعب المُسلِم السُّني الصامد ذو التعداد الضئيل، طيلة عقود من الزمان، في تشكيل شعور أوكرانيا بذاتها، وتقديم حوار فعَّال حول مفهوم قائم منذ زمن عن أوكرانيا بوصفها دولة متعددة الأعراق والعقائد واللغات، أي أوكرانيا باعتبارها وطنا يحوي عدة أوطان داخله.

إن التاريخ الحديث لتتار القرم هو حلقة في سلسلة من التهجير والنفي والمقاومة. وفي بدايات الحقبة السوفيتية، بدا أن هذه الحلقات في طريقها للأفول، حيث حاز تتار القرم اعترافا بأنهم السكان الأصليون لـ”جمهورية القرم الاشتراكية السوفيتية ذاتية الحُكم”، المعترف بها حديثا آنذاك. وكانت السياسات السوفيتية حينها قد تصالحت مع هوية القرم التترية فشجَّعت إنشاء المدارس وموَّلت المسارح ودور النشر التترية أيضا؛ مُرسِّخة فكرة أن “القرم تترية، تترية”، بحسب الصياغة الحاسمة التي أوردها الكاتب السوفيتي “ألكسندر سولجنيتسِن”، مؤكدا “أن أبجدية (القرم المكتوبة) كانت العربية، ومدلولاتها تترية”. ولكن مع احتلال النازيين للقرم أثناء الحرب العالمية الثانية، ولَّت هذه الأيام الذهبية التي شجَّعت فيها موسكو من “تترية” القرم.

في مايو/أيار من كل عام نتذكَّر ما فعله ستالين بعد مغادرة قوات هتلر لجزيرة القرم. ففي مايو/أيار عام 1944، وخلال ثلاثة أيام، طرد ستالين شعب تتار القرم بالكامل من موطنه، وهُم 200 ألف شخص تقريبا حينئذ. وبحسب لغة تتار القرم، يُطلَق على هذا الترحيل اسم “سورغُن” (المَنفَى بالتركية والتترية)، وفيه نُزعت ممتلكاتهم بوحشية ولقيت جماعات منهم حتفها، ومات آلاف من المطرودين خلال الرحلة بسبب الظروف غير الإنسانية، ونقص المياه والغذاء، والمعاملة الوحشية من قوات “المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية” التابعة لستالين. وقد هلك آلاف آخرون من الجوع، والبقاء في العراء، والمرض في “معسكرات الاستيطان الخاصة” في وسط آسيا وسيبيريا في أقاصي الاتحاد السوفيتي، حيث مكثوا هناك نصف قرن تقريبا.

اتهم ستالين تتار القرم بتُهَم مُلفَّقة هي التعاون الجماعي مع محتليهم النازيين. وعلى غرار جميع الجماعات العِرقية في القرم -بما فيها الروس والأوكرانيون وحتى اليهود القراؤون* أو العنانيون- تعاون عدد من تتار القرم بالفعل مع القوات النازية أثناء الحرب، غير أن الأغلبية العظمى حاربت في الجيش الأحمر، وحصد الآلاف منهم النياشين من الدولة السوفيتية، كما احتفت موسكو بستة جنود تتريين باعتبارهم أبطالا سوفيتيين. ولم يطرد ستالين تتار القرم بسبب ذنب اقترفوه، بل بسبب ذنب اعتقد أنهم قد يقترفونه. ففي خياله المُرتَاب، تبنَّى ستالين الفكرة القائلة إنه مع اقتراب حرب وشيكة في مواجهة تركيا للسيطرة على مضيقَيْ البوسفور والدردنيل، فإن تتار القرم بمنزلة طابور خامس من المسلمين الناطقين بالتركية، ومن ثمَّ بات لزاما عليه أن يكسر شوكتهم عاجلا أو آجلا.

لم تنكسر شوكة تتار القرم رغم ما لقيوه، وكانت استجابة الناجين من الترحيل لصدمة تهجيرهم هي تكوين حركة معارضة عُدَّت الأكبر والأكثر تنظيما واستدامة في تاريخ الاتحاد السوفيتي. وقد بُنيت معركتهم للعودة إلى القرم على مبدأ المقاومة السلمية ضد ظلم الدولة وقمعها، وتركوا بصمة لا تُمحَى على الهيكل التنظيمي والتوجُّه الأخلاقي للمعارضة السوفيتية كلها. وكما كان يحلو لـ”ليونيد بليوش”، عالم الرياضيات والمعارض الأوكراني في زمن السوفييت، أن يقول، فإن تتار القرم لطالما “فهموا أشياء عصيَّة على عقول المثقفين السوفييت العاديين”.

تاريخ تتار القرم في مواجهة موسكو

كان لدى تتار القرم حلفاء أوكرانيون أشدَّاء، لا سيما في الوسط الثقافي. ففي الستينيات والسبعينيات، وبعد أن انتقلت القرم من روسيا السوفيتية إلى أوكرانيا السوفيتية، وزَّع شعراء معارضون مثل “ميكولا رودِنكو” و”إيفان سوكولْسكي” سِرًّا أشعارهم التي عبَّرت عن التضامن والتعاطف مع تتار القرم، ودعت قرَّاءها للتحرُّك دعما لقضيتهم. وناشد “سوكولسكي” جمهوره قائلا: “إن تتار القرم يعانون في المنفى، فدَعُوا العالم يسمع عن هذه الجريمة التي لا تنتهي!”. أما الكُتَّاب الأوكرانيون الآخرون مثل “رومان إيفانِشوك”، فقد نجحوا في خداع الرقابة ونشر رواية تضمَّنت تاريخ أوكرانيا من وجهة نظر تتار القرم، ودحضوا من خلالها أي رأي قائل إن القرم كانت أرضا روسية منذ “القِدَم”. وحسبما أشار أحد المعاصرين، فإن مثل هذه الكتابات كانت بمنزلة “انفجار” في مجتمع الأوكرانيين السوفييت.

بعد عقود من العمل الدؤوب والتضحية، انتزع تتار القرم حقَّهم في العودة إلى أرض أجدادهم مع إرهاصات حُكْم “ميخائيل غورباتشوف”، وحينما سقط الاتحاد السوفيتي بعد ذلك بسنوات قليلة عام 1991، حاز التضامن بين الأوكرانيين وتتار القرم، الذي رعاه “رودِنكو” و”سوكولسكي” و”إيفانشوك” ومَن لفَّ لفَّهم، وطنا سياسيًّا جديدا، وصار تتار القرم داعمين مُتحمِّسين للدولة الأوكرانية المستقلة الوليدة. وعادة ما وُصِف هؤلاء بأنهم “الأوكرانيون الأعظم في القرم”، ولم تكن تلك مبالغة، إذ هتف شاعر تتار القرم “صَمَد شُكْر” عام 1993 قائلا: “أوكرانيا، إخواني وعشيرتي.. إنني مستعد للموت من أجل حريتكم”.

ثم تغيَّر كل شيء بعد استحواذ روسيا الخاطف على شبه جزيرة القرم عام 2014، وبين ليلة وضحاها تقريبا اعتُقِل نشطاء المجتمع المدني لتتار القرم واحتُجزوا وطُرِدوا على أيدي الروس أصحاب السلطة الفعلية الآن. ونتيجة للأعداد الهائلة لهؤلاء المُعتقلين، وطبيعة تلك الهجمات الشديدة على الحريات المدنية وحقوق الإنسان، اضطرت واحدة من منظمات المجتمع المدني البارزة في القرم لتأليف موسوعة من عدة مُجلَّدات اسمها “موسوعة القمع”.

مُنع”مصطفى جميليف”، القائد الفذ لشعب تتار القرم الذي تحمَّل إضرابا عن الطعام وصل إلى 303 يوم في معسكرات اعتقال الغولاغ السوفيتية في السبعينيات؛ من أن تطأ قدمه أرض شبه جزيرة القرم.

حُظرت كل أشكال إحياء ذكرى الترحيل على يد ستالين عام 1944، وفرَّ عشرات الآلاف من تتار القرم من وطنهم إلى الأراضي الأوكرانية. أما “مصطفى جميليف”، القائد الفذ لشعب تتار القرم الذي تحمَّل إضرابا عن الطعام وصل إلى 303 يوم في معسكرات اعتقال الغولاغ السوفيتية في السبعينيات؛ فمُنع من أن تطأ قدمه أرض شبه الجزيرة. ثم هناك آخرون، مثل الناشط والسياسي “عِلمي عُمَروف”، الذي صرَّح لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي في مايو/أيار 2016 قائلا: “أنا لا أعتبر القرم جزءا من الفيدرالية الروسية”، فحُكِم عليه بالعلاج القسري في المستشفيات النفسية. وتلك المواجهة الجسورة أمام العنف الروسي، جعلت المخرج والمسجون السياسي السابق “أولِغ سِنتسوف” يصف تتار القرم بأنهم “أكبر تهديد” لسيطرة بوتين على القرم.

مع ضمِّ القرم وغزو “دونباس”، لجأ الأوكرانيون وتتار القرم إلى بعضهم بعضا مجددا بسبب حاجتهم الماسة إلى الأمن بعد عام 2014. ودعا أغلبية الأوكرانيين إلى إدخال تعديل على الدستور الأوكراني للاعتراف بـ”الحكم الذاتي الوطني-الإقليمي” لتتار القرم، ومن ثمَّ تخويل سيادة القرم إلى شعب تتار القرم. وفي غضون ذلك، شكَّل تتار القرم كتائب من المتطوِّعين لمساندة كييف في قتالها ضد العدوان الروسي على “دونباس”.

التتار كأوكرانيِّين

في الأدب والفن، قدَّم المبدعون من الأوكرانيين وتتار القرم تأمُّلات لوطنهم بوصفه التراب والملجأ. وبحسب ما أوضحته الكاتبة “كاترينا ميشتشِنكو”: “تُعَدُّ القرم في الوعي الجمعي الأوكراني جُرحا وصدمة ناتجة من اندلاع الحرب، ووطنا ضائعا”. وفي نظر الشاعرة “ماريانا سافكا”، فإن رابط التضامن بين الأوكرانيين وتتار القرم يمكن أن يضمِّد ذلك الجُرح: “أخي، رغم أننا مختلفون، تتشابك خيوط أقدارنا/ كالخيط الذي يُضمِّد جرحا داميا”.

يُعَدُّ فيلم “نحو الوطن” (Homeward)، وهو العمل الأول للمخرجة “ناريمان علييف”، مثالا مُشابها لهذه الأعمال عن أوكرانيا بوصفها وَطَنا. ويُسلِّط الفيلم، الذي حصل على جائزة “نظرة ما” في مهرجان “كان” السينمائي، الضوء على “مصطفى”، وهو رجل من تتار القرم يقوم برحلة للعبور من أوكرانيا عائدا إلى القرم بعد استعادة جثة ابنه المغترب “ناظم” من أجل دفنه. وقبل ذلك بسنوات، كان “ناظم” قد غادر القرم نحو الأراضي الأوكرانية، حيث قاده شعوره بالواجب تجاه وطنه الأوكراني إلى القتال والموت في الحرب ضد المقاتلين الموالين لروسيا في “دونباس”. ويصاحب “عليم”، ابن “مصطفى” الأصغر، والده في سفره مُكرَهًا، وعلى غرار أخيه، فإن “عليم” يجد في أوكرانيا الوطن الذي لم يجده في القرم.

في مرحلة ما، يصارح “عليم” والده بعدم رغبته في العودة إلى القرم والعيش تحت الاحتلال الروسي، إذ إنه يرى مستقبله في كييف، حيث يمكن أن يدرس في كلية الصحافة. ويطالب “مصطفى” بدوره ابنَه بالتخلي عن خططه، حيث يقول مصطفى صارخا: “ما من شيء لك هناك (في كييف). ألم تر كلَّ ما مررنا به من أجل العودة إلى القرم؟”، وهُنا يجيبه “عليم”: “ومَن لديه أدنى اهتمام بهذا القرم؟! ما من حياة هناك، ولن تكون هناك حياة أبدا”. ذلك الجدال بين الأب والابن عميق وكاشف، إذ إنه يُفنِّد وجهات النظر المتباينة حول الوطن والتراث بين جيلَيْن مختلفين، فوَطَن “مصطفى” هو القرم، أما “عليم” و”ناظم” فوطنهما هو “القرم” جزءا من أوكرانيا.

تقع في القلب من الثقافة الأوكرانية المعاصرة إذن عملية استكشاف لما يعنيه أن يعيش الأوكرانيون وتتار القرم “في وطن واحد” جنبا إلى جنب، في وقت لم يعُد فيه الوطن أمرا مُسلَّما به أصلا. وحتى بنظرة موجزة على الانعكاسات الثقافية المتنامية للتضامن بين الأوكرانيين وتتار القرم، تتكشَّف لنا صورة مُذهلة ذات دروس مُحتمَلة لليبرالية الأوروبية والإسلام العالمي؛ إنها لوحة لسكان القرم الأصليين من المُسلِمين السُّنة وهُم يساعدون في تشكيل الهوية الوطنية المدنية لبلد قال عنه المؤرخ الألماني “كارل شلوغل” ذات مرة إنه “صورة مُصغَّرة من أوروبا”. قد تكون أوكرانيا فقدت سيطرتها على القرم على المدى القصير، لكن بفضل تتار القرم، فإن القرم لم تفقد هيمنتها على أوكرانيا.

اليوم، وبينما يدافعون عن بلدهم ضد غزو القوات الروسية الشامل والقاسي، فإن الأوكرانيين وتتار القرم يدافعون عن حقِّهم في أن يعيشوا داخل وطن واحد معا.

بينما غادر “جادان” مدينة “ماريوبول” في مايو/أيار 2020، ترك وراءه للجنود الحاضرين إحساسا بالقوة والسطوة، حيث أسدت قصيدته “كيف بنينا بيوتنا؟” نصائح عن التكتيكات الدفاعية، وحثَّت جمهوره على وضع “الحَجَر في مقابل الحَجَر” لمواجهة المعتدين:

“ابنوا جدرانا من بوص وحشائش،

احفروا خنادق وحُفرا للذئاب،

ازرعوا في نفوسكم التعايش مع الجيران يوما بعد يوم،

وطنكم هو حيث يفهمُكم الآخر عندما تتكلمون في نومكم”.

اليوم، وبينما يدافعون عن بلدهم ضد غزو القوات الروسية الشامل والقاسي، فإن الأوكرانيين وتتار القرم يدافعون عن حقِّهم في أن يعيشوا داخل وطن واحد معا، ويتحدَّثون مع بعضهم بعضا عن حلمهم بأوكرانيا الحرة، وطن الأوطان.

______________________________________

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

هوامش:

*اليهودية القرائية أو العنانية: هي تيار في الديانة اليهودية لا يؤمن أتباعه إلا بالتوراة المكتوبة، وينكرون نزول تفسيرات شفهية للتوراة بعد العهد القديم.

المصدر: الجزيرة. نت/ The Atlantic

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى