يطل شبح أزمة الغذاء برأسه على العالم جراء الغزو الروسي لأوكرانيا. وتكتسي المنتجات الزراعية للدولتين الجارتين أهمية حاسمة بالنسبة إلى الأمن الغذائي العالمي، إذ تبلغ حصتا روسيا وأوكرانيا من صادرات القمح العالمية 13 في المئة و8.5 في المئة على التوالي. وبسبب العقوبات المفروضة على موسكو والحصار البحري الروسي للموانئ الأوكرانية، لم يعد لتلك الصادرات الحيوية تأثير في الأسواق العالمية. ونتيجة لذلك، بات ملايين الأشخاص في العالم عموماً وفي الأقطار النامية خصوصاً، معرضين اليوم لمواجهة انعدام أمن غذائي حاد. هنالك أخطار شديدة ومحدقة. ويمكن لأزمة غذائية بهذا الحجم أن تفضي إلى مجاعة عالمية كارثية، كذلك يمكنها أن تعيث خراباً في الاقتصاد العالمي وتؤجج الاضطرابات السياسية في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على استيراد الحبوب.
ومن أجل التخفيف من وطأة الأزمة المرتقبة أمام المجتمع الدولي عدة خيارات عسكرية ودبلوماسية، لكن لكل من تلك الخيارات جوانبه السلبية. وقد يكون باستطاعة حلف “الناتو” استخدام أساطيله البحرية الضخمة وقوته الجوية الهائلة لمرافقة سفن الحبوب الأوكرانية، لكن “اتفاقية مونترو” التي تضع قيوداً على حجم القوة العابرة للبحر الأسود، ستقف له بالمرصاد، مع إمكانية اتخاذها من قبل الروس ذريعة لقطع الطريق على القوافل باستخدام ترسانتهم البحرية الخاصة التي تشمل الألغام والغواصات. [وقعت في 1936 وتضمن حرية ملاحة السفن المدنية في مضيقي البوسفور والدردنيل وبحر مرمرة التي يجب المرور فيها أثناء خروج السفن من البحر الأسود. وتقع تلك الممرات تحت سيطرة تركيا التي أعطيت الحق في منع السفن العسكرية من المرور]. أما بالنسبة إلى المقاربات البديلة، على غرار اعتماد قوافل طرف ثالث أو شحن الحبوب من موانئ غير أوكرانية مطلة على البحر الأسود، فقد تكون أقل استفزازاً لكنها ستظل مرهونة بموافقة موسكو.
وبالنتيجة، ليست الحلول المتاحة لمعالجة الأزمة بسهلة، لكن مهما بلغت صعوبتها، لا يسع الغرب غض الطرف عن المشكلة وكأن شيئاً لم يكن. ففي آخر المطاف، لو حدث أن تفشى الجوع على نطاق واسع وأدى إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي عبر العالم، سيكون هناك ضغط متزايد على الغرب للتحرك. وعندئذ، لا بد من أن يكون لدى الولايات المتحدة وحلفائها خطة مواجهة، وإن منقوصة، إذا ما أرادوا تجنب السقوط في براثن كارثة عالمية قد تتفاقم وتخرج عن السيطرة.
عودة إلى البر
يتمثل أحد أساليب التحايل على الحصار البحري الروسي في توجيه شحنات الصادرات الزراعية الأوكرانية نحو البر. وقد سبق لأوكرانيا أن تحولت نحو الطرقات وسكك الحديد لشحن الحبوب بمساعدة دول مجاورة كبولندا ورومانيا، على اعتبار أن لدى وسائط النقل البرية ميزة أساسية واحدة وتتلخص في عدم قدرة روسيا على اعتراضها. فمن الناحية النظرية، يمكن للخطوط الحديدية أن تتعرض للهجمات بالصواريخ أو الطائرات في أي وقت، لكن من الصعب جداً قمع حركتها لفترة طويلة. وانطلاقاً مما تعلمه الحلفاء من الحرب العالمية الثانية حينما حاولوا تعطيل السكك الألمانية واليابانية، فإن تصليح الخطوط الحديدية سهل نسبياً، إذ يكفي ردم الحفر ووضع مسارات جديدة فوقها، ما لم تكن الهجمات عليها متواصلة. ولا تقوى روسيا اليوم على شن تلك الهجمات المتواصلة بعد أن استنفدت ترسانتها من الصواريخ العالية الدقة اللازمة لها، إضافة إلى إحجام قواتها الجوية عن التوغل بعمق كافٍ إلى داخل الأراضي الأوكرانية يمكنها من ضرب السكك الحديدية التي تنقل الحبوب إلى الموانئ الأوروبية.
للأسف، يفتقر نظام النقل بالخطوط الحديدية في أوكرانيا إلى القدرة على التعويض عن الخسائر التي ألمت بقطاع التجارة البحرية. إن نقل مجمل الصادرات الغذائية الأوكرانية المقدرة بـ30 مليون طن من الحبوب، يستلزم 300 ألف عربة قطار ضخمة بدلاً من 100 سفينة، ويستغرق 14 شهراً بدلاً من أربعة أشهر. ونظراً إلى اتساع حجم هذه العملية ونطاقها، يمكن القول إن نهج الشحن البري ليس سوى تدبير مؤقت، وليس حلاً طويل الأمد لأزمة الغذاء الآخذة في التنامي.
ماء عكر
يمكن لحلف “الناتو” أن يسعى إلى اختراق الحصار البحري الروسي عن طريق توفير قوافل للسفن التجارية المتجهة إلى الموانئ الأوكرانية بما يضمن تدفقاً سريعاً للمواد الغذائية التي يحتاج إليها العالم. في المقابل، ستصطدم هذه الاستراتيجية بعقبات عدة، في طليعتها القوات البحرية الروسية الضخمة القادرة على مهاجمة أي سفينة غربية تتدخل في الصراع. ويضم أسطول روسيا في البحر الأسود حاضراً خمس فرقاطات وعدداً من السفن البرمائية وعشرات من سفن الدفاع الساحلي، وأخيراً والأهم، ست غواصات من نوع “كيلو” جديدة تعمل بالديزل والكهرباء. ويعرف عن هذه الغواصات، وهي الأكثر تقدماً في الأسطول الروسي، أنها مصممة وفق معايير متطورة ومزودة بأجهزة سونار متقدمة وطوربيدات وصواريخ “كروز” وألغام. وإضافة إلى كل ما سبق ذكره، تمتلك روسيا في شبه جزيرة القرم صواريخ مضادة للسفن لا يقل مداها عن 200 ميل، لكن قرارها أخيراً بالانسحاب من “جزيرة الثعبان” جعل المنطقة أقل خطورة بكثير بالنسبة إلى الغرب.
وبصريح العبارة، تعني تلك الأمور أن روسيا لا تحكم قبضتها على البحر الأسود، إذ قوضت خسارتها الطراد “موسكفا” المتطور في أبريل (نيسان) الماضي، قدرتها في السيطرة على المياه الأوكرانية. وعلى الرغم من إمكانات “موسكفا” المحدودة على إصابة أهداف برية وعجزه عن دعم الهجمات الموجهة ضد القوات البرية والبنية التحتية الأوكرانية، فإن احتواءه على 16 صاروخاً ضخماً مضاداً للسفن كان سيعطي الغلبة لموسكو في معارك البحر الأسود، لو أنها حدثت. ومع تحول الاهتمام العالمي اليوم نحو موانئ أوكرانيا البحرية، لا بد أن يشعر الجيش الروسي بوطأة خسارة “موسكفا” أكثر من أي وقت مضى.
لكن مع ذلك، سيظل حلف “الناتو” محدوداً في قدرته على إضعاف قبضة روسيا في السيطرة على البحر الأسود، ومرد ذلك إلى “اتفاقية مونترو” التي تنظم حركة النقل البحري في المضائق التركية بين البحر الأسود والبحر المتوسط منذ عام 1936، إذ تسمح تلك الاتفاقية بالوصول غير المقيد للسفن التجارية والعبور المجاني نسبياً للدول المتشاطئة على البحر الأسود. وفي المقابل، تفرض الاتفاقية قيوداً على حجم وعدد السفن الحربية التي يجوز للدول غير المتشاطئة على البحر الأسود العبور بها وطول مدة انتشارها. وهذا يعني بالتالي أن قدرة الغرب على نقل قواته إلى المنطقة ستكون محدودة. وبحسب الاتفاقية، يحق للدول غير المطلة على البحر الأسود تحريك سفن حربية يبلغ أقصى وزن كل منها 30 ألف طن وبوزن إجمالي [مع الحمولة] لا يزيد على 45 ألف طن، شريطة ألا تتجاوز مدة بقائها الـ21 يوماً، لكن لا يحق لغواصات الدول غير المطلة على البحر الأسود دخول مياهه الإقليمية، الأمر الذي يمكن أن يضرب عرض الحائط بإحدى نقاط القوة البحرية العظيمة لحلف “الناتو”. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإنها ليست طرفاً موقعاً على “اتفاقية مونترو”، ما يعني أن أحكام هذه الوثيقة لا تسري نظرياً على البحرية الأميركية. في المقابل، أصرت واشنطن على الالتزام بـ”اتفاقية مونترو” لاعتبارات تتعلق بالنظام الدولي المعتمد على القوانين واحتراماً لتركيا، العضو الزميل في حلف الناتو.
وفي النهاية، ستكون الكلمة الأخيرة في موضوع استخدام المضائق لأنقرة، التي يمكنها مبدئياً، تليين قوانين تلك الاتفاقية لما فيه مصلحة التعزيزات البحرية لحلف “الناتو”. ولكن، انطلاقاً من موقف تركيا المحايد نسبياً من الصراع وامتناعها عن تشويه علاقاتها مع روسيا أو الغرب وعدم استعدادها تاريخياً للمس بالاتفاقية، فمن المرجح أن تبقى القيود الموجودة حالياً على حالها. وحتى في حد أقصى، قد تكشف تركيا عن رغبتها في تأويل بعض أحكام الاتفاقية بمرونة، لكن مثل هذا الامتياز سيرتب تكاليف باهظة على الغرب كتوفير المساعدة الاقتصادية لتركيا أو إعفائها من بعض العقوبات أو غض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان فيها.
وبالتالي، سيكون على حلف “الناتو” أن يراعي القيود المنصوص عليها في “اتفاقية مونترو” التي تسمح بحشد بعض التعزيزات. وبما أن الحد الأقصى للسفن من القوى الخارجية هو 45 ألف طن، سيكون على الحلف الاكتفاء بخمس مدمرات، من بينها مدمرة أميركية من طراز “دي دي جي- 51” DDG-51 وهي سفينة حربية متقدمة ومتعددة المهام بوزن تسعة آلاف طن تقريباً، ومدمرة بريطانية من “الفئة 45” يصل وزنها إلى 7350 طناً وتتناسب مع تنفيذ مجموعة متنوعة من المهام. وبما أن الحد الأقصى لقوات دولة واحدة هو 30 ألف طن، قد تأخذ الولايات المتحدة على عاتقها إرسال ثلاث مدمرات، على أن تتكفل دول أخرى كبريطانيا العظمى وفرنسا بإرسال المدمرتين الأخريين. وهذه السفن الخمس مجتمعة هي التي ستوفر حراسة قوية للسفن التجارية المحملة بالحبوب الأوكرانية على الرغم من عددها المحدود.
كذلك قد يستخدم حلف “الناتو” قوته الجوية الكبيرة. وإذا افترضنا أن رومانيا وبلغاريا نسقتا جهودهما من طريق توفير القواعد والسماح لطائرات الحلف بالتحليق فوق أراضيهما، فسيعزز تعاونهما حينئذ القوة الجوية الأطلسية وقدرتها على فرض هيمنتها على القوات السطحية والجوية لروسيا في منطقة البحر الأسود، إضافة إلى دعم الحرب البحرية تحت سطح البحر.
ماذا لو بدأت المواجهات؟
إذا ارتأى حلف “الناتو” إرسال قوافل سفن مع مرافقة حربية إلى الموانئ الأوكرانية، فقد يضطر للتصدي إلى هجوم روسي. فبعد تحذيرات الرئيس فلاديمير بوتين المتكررة للغرب بعدم التدخل في الصراع، يبدو من غير الوارد السماح لقافلة أطلسية باختراق الحصار الروسي من دون اتخاذ أي إجراء ضدها. وفي هذه الحالة، سيكون لدى روسيا ميزة استراتيجية تتمثل في عدم حاجتها لاعتراض طريق كل الشحنات إذا وصل معدل الاستنزاف إلى 25 في المئة [أي إذا أغرقت ربع سفن القوافل]، لأن ذلك يفوق قدرة حلف “الناتو” والشاحنين البحريين على التحمل.
وفي أغلب الظن، ستستخدم روسيا الغواصات والألغام البحرية لمهاجمة قوافل الحبوب. إن تلك الأسلحة فاعلة، والأهم من ذلك أنها خفية ويمكن إنكار استعمالها، الأمر الذي سيبعد عن قيصر [بوتين] شبهة إشعال فتيل المواجهات. وقد زرعت روسيا بالفعل ألغاماً بحرية في محيط موانئ أوكرانيا. وتملك أوكرانيا حرية أن تمشط هذه الموانئ وتزيل الألغام منها. في المقابل، إن هذه العملية ليست بالأمر السهل، وستتطلب منها بحثاً مضنياً بواسطة سفن صغيرة وضعيفة. ويزيد الطين بلة أن أوكرانيا نفسها قد نشرت الألغام على طول سواحلها من أجل ردع القوات الروسية، بالتالي فلن يكون من الصعب على موسكو توجيه أصابع الاتهام إلى كييف إذا ما انفجر أحد الألغام وتسبب في تدمير سفينة حبوب.
روسيا لا تحكم قبضتها على البحر الأسود
وتأتي غواصات “كيلو” الست ضمن الأسطول الروسي في طليعة مصادر التهديد للقوافل، بوصفها آليات هادئة ومسلحة جيداً يمكن أن تعول عليها موسكو لتنفيذ هجمات بالطوربيدات أو إطلاق صواريخ “كروز” من خارج المدى الفعال للسفن المرافقة لقوافل سفن الحبوب أو زرع ألغام في مسار تلك القوافل. وتحل في المرتبة الثانية مجموعة من الصواريخ الأرضية المضادة للسفن في شبه جزيرة القرم التي قد يستعان بها لقصف السفن من بعد والتسبب بمعركة كبرى رداً على محاولة حلف “الناتو” تدمير بطاريات الصواريخ. أما بالنسبة إلى القوات الروسية الأخرى، فمن المستبعد أن تشارك في المعارك بأي طريقة جوهرية. وتحديداً، لا تملك روسيا سوى قوة ضعيفة من السفن والمركبات التي تعمل على سطح المياه، إذا قورنت بسفن “الناتو” التي قد ترافق قوافل الحبوب. إذا أرادت، يمكن لموسكو أن تمارس القنص على سفن القوافل من مكان قريب للشاطئ، لكن هذه الخطوة لن تكون في صالحها وستعرضها لنيران الصواريخ الأوكرانية المضادة للسفن والقوة الجوية الأطلسية. إلى ذلك، قد تفكر روسيا باستخدام قواتها الجوية الواسعة، لكن هذه الأخيرة منخرطة تماماً في المعارك البرية، ولم يكن أداؤها مشرفاً لغاية الآن.
وفي حال اختارت روسيا قطع الطريق على القوافل، فلن يعرف العالم بخيارها حتى تتفجر إحدى سفن الحبوب. وحينما سيحدث ذلك، ستسارع موسكو إلى نفي ضلوعها في المسألة جملة وتفصيلاً وستدعي بأن السفينة اصطدمت بلغم أوكراني. وفي المقابل، سيذعن حلف “الناتو” للادعاءات الروسية وسيحاول إما اتباع نهج مختلف تجنباً لمزيد من التصعيد أو إطلاق حملة بحرية لإزالة الألغام وهزيمة الغواصات الروسية. وفي هذه الحالة، ستنشب مواجهات بحرية.
واستطراداً، إذا سعى حلف “الناتو” إلى دفع سفن الشحن قدماً لاختراق الحصار الروسي، ستتحول تلك المواجهات إلى سلسلة من معارك القوافل. وإذا افترضنا أن القافلة التي تبحر بسرعة 12 عقدة تستغرق قرابة يومين من ميناء أوديسا إلى المضيق، فإن ذلك يوحي بأن المعارك بين روسيا وحلف الأطلسي ستكون كثيرة لكن نتائج أياً منها لن تكون مضمونة في غياب عمليات عسكرية مشابهة في عصرنا الحديث. نعم، هذا صحيح. إن الأمثلة على المعارك البحرية قليلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بعكس الحروب البرية والجوية. ومن الجائز أن يحقق “الناتو” النصر بفضل سفنه الجبارة وقوته الجوية الهائلة. وقد يحدث ذلك بسرعة، أو ربما تحقق ذلك بعد سلسلة طويلة من معارك القوافل، لكن الأكيد أن عدداً من دول الحلف لن تتجرأ على خوض اشتباكات مباشرة مع روسيا خشية من التصعيد، حتى لو جاء ذلك على حساب السعي إلى كسر حصار موسكو والتخفيف من حدة أزمة الغذاء المتفاقمة.
رهانات أكثر أماناً
قد يكمن الخيار الأقل تصادمية في تجنيد دول غير أعضاء في حلف “الناتو” لتوفير سفن شحن وسفن مرافقة للقوافل. فمن الممكن جداً أن تكون دولة كمصر التي تعتمد بشكل كبير على استيراد الحبوب، مستعدة للمخاطرة في إرسال سفينة مرافقة. وإذا طبق الحلف هذا النهج غير المباشر، فسيتمكن من تجنب رد الفعل العدائي لروسيا، والتركيز على الحجة الإنسانية للتخفيف من أزمة الجوع، لكن في النهاية، المسألة برمتها هي مسألة حسابات دبلوماسية ولا بد من أن تأخذ في الاعتبار حقيقة عدم امتلاك الأطراف الثالثة التي سيستعان بها، الإمكانات العسكرية اللازمة لمحاربة روسيا بفاعلية.
إلى ذلك، يمكن لأوكرانيا أن تنقل الحبوب بالسكك الحديدية إلى ميناء “كوستانتا” الروماني الذي لا يبعد سوى 190 ميلاً من أوديسا. وبعدها، يغدو مستطاعاً نقل الحبوب من “كوستانتا” على متن سفن بحرية تابعة لجهات خارجية. بهذه الطريقة، لن يكون هناك أي اتصال مباشر مع أوكرانيا أو الحرب، وستحظى روسيا بمجال كافٍ لتلافي المواجهة. وفي ظل العقوبات المفروضة على صادراتها، قد لا ترغب موسكو بترك مثل هذا المخطط يفلت من يدها.
استطراداً، يمكن للولايات المتحدة أن تتبع نهجاً مباشراً من خلال تغيير سجلات السفن التجارية أو أعلامها، كي تبدو كأنها سفن أميركية، بالتالي إذا أرادت روسيا الاعتداء عليها لمواصلة فرض الحصار، فستعرف أنها تخص واشنطن. وقد سبق للولايات المتحدة أن نفذت استراتيجية مماثلة بين عامي 1987 و1988 أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، حينما غيرت أعلام ناقلات النفط الكويتية كي تحيطها بحماية البحرية الأميركية وتضمن استمرار تدفقات النفط، لكن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر. فأثناء تلك العمليات التي عرفت بـ”حرب الناقلات” [أثناء الحرب العراقية – الإيرانية]، رفعت السفن أعلاماً غير أعلامها الحقيقية، وكانت معرضة للقنص والتفجير بالألغام وكان تأمين الحراسة لها بغض النظر عن جنسياتها الجديدة أمراً لا بد منه. ومن قال إن التاريخ لن يعيد نفسه مع روسيا اليوم؟
وفي مقابل الخيارات المذكورة أعلاه، ثمة خيارات دبلوماسية تستحق الدراسة. وفي وقت سابق، أعلن بوتين عن رغبته في السماح للشحنات الأوكرانية بالعبور بموجب شروط محددة. وربما عنى بكلامه آنذاك أن موسكو تنوي إبرام اتفاق من نوع سفينة مقابل سفينة، بحيث يحق لسفينة تجارية واحدة من أوكرانيا المشاركة في التجارة الدولية مقابل سفينة واحدة مشابهة لروسيا. ولم يلقَ ذلك الاقتراح التبادلي الكثير من الاهتمام، على أساس أنه سيعود على روسيا بموارد مالية كبيرة وسيشكل سابقة لا مثيل لها لرفع العقوبات. ولا تزال الدول الغربية مترددة حتى الآن في المخاطرة بالدخول في مواجهة عسكرية تزيد من وضع الغذاء العالمي سوءاً. وسيكون من الأفضل أن تحظى الجهود الدبلوماسية أياً كانت، بدعم دولي مع مرور الوقت.
من المحتمل أنه لا يزال لدى البلدان التي تعتمد على الحبوب الأوكرانية والروسية ما يكفي من المخزون لتصمد فترة من الزمن. ومن المحتمل أنه لا يزال لدى متاجرها أيضاً ما يكفي من المساعدات الغربية لتملأ رفوفها على المدى القصير. فحتى الآن، ما من تقارير تفيد بتفشي أزمة جوع حول العالم، لكن الأزمة آتية لا محال. وإذا استمرت الحرب على ما هي عليه، يتوقع أن يؤدي تضاؤل الإمدادات إلى نقص في الغذاء وأعمال شغب يليها زعزعة أنظمة واضطرابات اجتماعية سيواجه الغرب على أثرها ضغوطاً متزايدة للتحرك والبت في المسألة. ربما لم يسدد الجوع العالمي ضربته بعد، لكنه سيفعل ذلك عما قريب. وحينذاك، ستقع على عاتق دول حلف “الناتو” والغرب مسؤولية وضع خطة ناجعة للتعامل مع ذلك النقص قبل أن يتحول إلى كارثة.
مارك كانسيان، مستشار أول في برنامج الأمن الدولي الخاص بـ”مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”.
فورين آفيرز يوليو
المصدر: اندبندنت عربية