شكل اغتيال محمد فليطاني ( أبو عدنان )، الذي تصادف اليوم الذكرى السنوية الأولى لاستشهاده، نقطة تحول في مسار الثورة السورية، بالنظر إلى المكان، ورمزيته، الذي اغتيل فيه ( مدينة دوما)، والدور الذي اضطلع به، قبل وخلال الثورة، وما مثله من اتجاه سياسي وثقافي .
سبق هذا التحول، الذي ظل يتصاعد، اختطاف رزان زيتونة وزوجها وائل حمادة وسميرة الخليل وناظم حمادي، كناشطين حقوقيين ومدنيين يشهد الكل لهم بالدور البارز الذي قاموا به في مسار الثورة وتوثيق الانتهاكات الجسيمة والخطيرة، وحتى دورهم قبل اندلاع ثورة الحرية والكرامة، والضريبة التي دفعوهها على هذا الطريق. (في ذات المدينة ومن ذات الجهة على الأغلب، وهي التي تلقى منها، الشهيد، تهديدات متكررة، قبل أن ترديه رصاصات الغدر صباح يوم -01-05-2014.
محمد فليطاني أو”معلم الثورة” كما كان يطلق عليه محبيه (نسبة لمهنته كمدرس( انخرط بالعمل السياسي منذ نعومة أظفاره، وعرف الاعتقال في زمن الأب، وكان من الدائرة القريبة والمحيطة بالراحل الدكتور جمال الأتاسي في أحلك الفترات، مرحلة الثمانينات، وتدرج في صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، ونال عضوية مكتبه السياسي وبقي في موقعه لسنوات عدة ولأكثر من دورة انتخابية، وكان الأصغر سناً بين الجميع، ومن ثم خرج منه على خلفيات الموقف من الثورة، وكيفية التعاطي معها، وتحالفات الحزب وخطابه، وبقي هو ومجموعة معه على ذات الانتماء والنهج .
كما أنه كان من المشاركين في مظاهرة تأييد الثورة التونسية، والمصرية، قبل اندلاع الثورة السورية في إطار “الربيع العربي”، وممن ساهموا في التحضير لمظاهرة في يوم 18-03- 2011 بدوما، يوم سقط أول شهيدين في الثورة على أرض درعا، ولكن لم يكتب لها النجاح، و معروف عنه مشاركته في كل الأنشطة المعارضة، قبل انطلاقة الربيع العربي، دعما لفلسطين والعراق، وفي سياق ما سمي “ربيع دمشق” الموؤد.
في هذه الذكرى من المهم الوقوف عند بعض التحولات، في بعديها الخاص – الضيق والعام – الواسع:
* كان واضحا جدا أن مجريات الأحداث والوقائع تصب في اتجاه “تأميم” الثورة، بل ومصادرتها من قبل اتجاه بعينه، ورفضه التشاركية السياسية وقبول “الآخر”، يمكن مراجعة مقال ياسين حج صالح عن اغتيال أبو عدنان فليطاني)حتى لو كان معه في ذات الخندق والموقع، وهو ما تأكد في ما بعد من خلال الصدامات مع أخوة السلاح والدم، والاعتقال والتعذيب والتنكيل بهم، من ثوار فصائل أخرى على أرض دوما المحررة.!!
* الأمر ارتبط أيضا بـ”معارك مبكرة” بين أصحاب اتجاهات مختلفة، كل منها يرى سورية المستقبل بمنظاره الخاص، ولكن هنا، كانت بالاحتكام لذات أساليب النظام الذي ثار الشعب ضده، ومنه أهل دوما البطلة، وكان للراحل، ومع آخرين، الدور الأبرز بدءا من مظاهرة الجامع الكبير في دوما بتاريخ 25-03- 2011 والتي اعتقل على أثرها.( كان ذلك الاعتقال الأول والثاني جاء إثر اجتياح دوما)، مروراً بتشكيل تنسيقية دوما، وصولا لانخراطه في مؤسسات العمل المدني على مستوى دوما، والغوطة عموما ، العمل الإغاثي والتعليمي والتنظيمي.
* ما يؤكد ما نذهب إليه، وسبق ذلك، اغتيال الدكتور عدنان وهبة على أرض مدينة دوما المحررة داخل عيادته، الذي وصفه البعض بحكيم الثورة، أو طبيب الثورة، لدوره البارز منذ أن حمل على الأكتاف في مظاهرة دوما الأولى والتي، أيضاً، اعتقل على أثرها، وهو الدور الذي لا يقل عن دور أبو عدنان، وهما رفاق درب وأصدقاء على مدى سنوات طويلة من النضال، السري والعلني، واغتيال بسام بصلة ( أبو فاروق) في مدينة التل، وهو أيضا صاحب دور كبير لا يقل عن دور الراحلين، الدكتور عدنان وهبة ومحمد فليطاني. الثلاثة قضوا اغتيالا بنفس الطريقة، تقريبا، ويجمع بينهم انتماؤهم لذات الخط الفكري والسياسي، والحزبي، وهي المجموعة التي كان لها دور بارز في انطلاقة الثورة السورية وقيادتها على مستوى الغوطة وريف دمشق، بشهادة كثر، ولا يمكن اعتبارهم من خطهم أو المنحازين لهم. يمكن مراجعة كتابات للدكتور حازم النهار والدكتور رضوان زيادة بهذا الشأن.
لقد طالت التصفية والاغتيال عدداً غير قليل من الناشطين في ذات المدينة، وترافق ذلك مع تصفيات تمت في معتقلات النظام لعدد كبير من النشطاء المدنيين والسلميين، من دوما وغيرها، أبرزهم أبو نعمان الحجة، لتكتمل محاولات إجهاض الثورة، وإفقارها من الكوادر المدنية والسياسية.!!
*في هذا الصدد، من المهم التوقف ومراجعة مآلات الثورة التي انطلقت ثورة وطنية وتحمل شعارات وخطابا وطنيا جامعاً، لحالة يغلب عليها كل ما هو طائفي ومذهبي قميء، “أكلت” روادها الأوائل وحملة مشروعها الجامع لصالح مشاريع وأجندات دول وارتباطات ورايات، وهنا يمكن بكل فخر واعتزاز تسجيل أن هذه المجموعة هي أكثر المجموعات السياسية والحزبية التي دفعت ثمنا من حياة رموزها وقادتها، وكان لهم دور كبير على مستوى درعا والرقة وحلب وريف دمشق، وكأنه كان مطلوبا تصفيتهم في إطار محاولات جر الثورة إلى مستنقعات كريهة، وتغييب الوجه المدني والسياسي لثورة انطلقت سلمية، وبإرادة شعبية قل نظيرها في تاريخ الثورات العالمية.!!
* إن الإيمان بالثورة الوطنية، كان ولا يزال، وعلى أنها ثورة حق وواجب، ولن يتزعزع، بالرغم من كل ما جرى من انحرافات، وما أصابها من تشوهات، ويقيننا أن كل ذلك عرض زائل، كما جسدته قناعة الراحلين، وقناعتنا، حتى لا يساء التفسير والقصد.( يمكن مراجعة مقال لي منشور بتاريخ 03-05-2014 بهذا الصدد)، وهنا يمكن لفت النظر إلى أنه برحيل محمد فليطاني غابت عن دوما النشاطات المدنية المعبرة عن الثورة، وغيب معها علم الثورة وما يرمز إليه لصالح رايات تعكس ألوانها طبيعتها الفظة والغريبة.!!
* على عكس أدعياء الثورة ومتسلقيها، ظل أبو عدنان يحتفظ بصلابة المناضل ورجاحة عقل القائد الواعي والمنخرط بين أبناء شعبه، فلم يغادر دوما للحظة، لهذه الدولة أو تلك، وبقي يحمل خطابا رزينا متوازنا، وسلوكا طيبا، فكثيرا ما كان يوزع مساعدات الإغاثة ليلا حتى لا يحرج المحتاجين ويجرح كرامتهم، بعيداً عن مظاهر الرياء والتسييس الذي ابتلينا به، ويشرف على حملات النظافة والترميم والإنقاذ كواحد من العامة.
رحل محمد فليطاني (أبو عدنان)، شهيدا لقناعاته في الدفاع عن الدولة المدنية الديمقراطية، في يوم أسود قبل عام من الآن، وقبل ذكراه الأولى بأيام رحل رمز آخر هو محمود مرشد المدلل على طريق الحرية والكرامة، كما رحل آخرون كثر، وآخرون ينتظرون دورهم، وما بدلوا تبديلا…الثورات، عادة، تمر بمراحل مختلفة، قبل أن تحقق أهدافها وغاياتها، وفي مخاضات عسيرة قبل إنجاز مراحلها…وهي في حالتنا مستمرة.!
المصدر: مدار اليوم
تاريخ النشر 1/5/2015