السودان.. كذب البرهان وإن صدق!

 د. علي إبراهيم

بعدما أطبق الفريق البرهان قبضته الكاملة على السلطة في 25 تشرين – أكتوبر الماضى، منهيا بذلك المرحلة الأخيرة من إنقلابه الذى كان قد أنجز الجزء الأول منه فى 11نيسان – أبريل 2019، بإزاحة رأس النظام البشير عن السلطة. ولم ينطل هذا التغيير الصوري على المتابعين للشأن السوداني، فالرجل وزمرته الإنقلابية كانت تشكل اللجنة الأمنية المنوطة بحماية النظام، وكان يتولي منصب المفتش العام للجيش وبرتبة الفريق، وفى العادة لا يصل إلى هذا المنصب المتقدم إلا أهل الثقة والحظوة لدي القيادة العسكرية والسياسية الحزبية، وهذا يفسر تقاعسه وتماطله فى إنفاذ أهداف الثورة، وفى أن جعل من نفسه حاميا لكوادر النظام السابق، وتمكينهم من أهم مفاصل الدولة السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية، وشكل بذلك، طوق نجاة للدولة العميقة الفاسدة، المتغلغلة والمنتشرة كالسرطان فى كل المناحي الظاهرة والباطنة.

إتسم عهده بالكذب والتضليل ونقض العهود، مما سبب حاجزا عتيدا من عدم الثقة لكل قول أو فعل يصدران منه.

 وبعد خطيئة توقيع وثيقة الشراكة بينه وبين تحالف قوى الحرية والتغيير، نهج  نهجاً مغايرًا للإتفاق فى التوجه العدلي والأمني والإقتصادي وفى السياسة الخارجية، وحين لاحت بوادر الإعتراض لوح بفض الشراكة فارضا أمره.

وقد قام وزمرته العسكرية بالتخطيط والإعداد وبإصدار الأوامر بفض إعتصام الثوار أمام القيادة العامة – والذى كان تحت حماية وأعين القوات المسلحة، وقاد إلى مجزرة راح ضحيتها مئات الشهداء والجرحى والمفقودين ورفض التحقيق الأممي أو القاري وأصر على تشكيل لجنة من شاكلته لذر الرماد على العيون.

رفض الإستجابة للإستحقاق الدستوري فى تسليم رئاسة مجلس السيادة لعضو مدني، وعوضا عن ذلك، قام بالإنقلاب على نظام هو على قمته، وأعتقل رئيس الوزراء، وأعلن كذبا أمام الملأ بأنه يستضيفه فى منزله.

زج بآخرين فى غياهب السجون، منهم عضو زميل له فى مجلس السيادة، وعددا من الوزراء وكل أعضاء لجنة إزالة تمكين النظام السابق، وألغى الوثيقة الدستورية، وأعاد معظم منسوبي النظام السابق إلى مواقعهم، وأعاد ممتلكاتهم التي نهبوها أبان فترة حكم البشير.

وأخرج وبصورة فاضحة النظام السابق إلى الواجهة بمساحيق كاذبة ليجعل منه حاضنة سياسية بعد أن فشل فى إستقطاب زعماء العشائر والطرق الصوفية وإقحامهم بالترغيب والترهيب فى المستنقع المعادى لإردادة الشعب و تطلعاته وبعد أن تيقن أيضا بأن مجموعة ما تعرف بأحزاب “الفكة” غير قادرة وحدها فى تقديم مبتغاه من دعم وسند.

لفائدة القارئ العربي نقول بأن أحزاب “الفكة” تطلق على  كتلة الأحزاب النفعية والوصولية والتى تأكل فى كل الموائد وترقص فى كل الساحات وتلعب بكل الحبال وكانت حليفة ومشاركة لنظام البشير حتى لحظة سقوطه.

لقد عودنا البرهان أن يلقي باللائمة على الجميع عدا نفسه وهو الذى أصر أن تكون حقيبة الدفاع والداخلية والأمن تحت ولاية المكون العسكري، وأبقى على حظوة الجيش والقوات الأمنية لأكثر من 80% من الإقتصاد السوداني، ويرأس نائبه اللجنة الإقتصادية ويحتكر بقدر كبير عائد الذهب.

واقع الحال يؤكد بأن الإنفراط الأمني غير مسبوق فى كل أنحاء البلاد وبخاصة دار فور والشرق حيث أضحت فى تنازع و حروب أهلية و عرقية لا تبقي ولا تذر.

وكما أعلن أخيرا بأن ثلث السكان فى حالة فقر، والتضخم وصل إلى حوالى 400%.

الشعب المعلم يدرك الحقيقة بأن المسؤؤل الأول والأخير عن هذه المأساة هو البرهان ونظامه الفاسد المستبد، ولذلك ظل فى حراك ثوري لم تخمد شعلته لحظة وكانت قمته تظاهرات 30 حزيران – يونيو الماضى التى هزت عرشه وزلزلت أركانه، فخرج ببيان ثعلبي  فى محاولة خبيثة لخلط الأوراق و الهروب إلى الأمام.

أعلن إنسحابه من الحوار الذي ترعاه الآلية الثلاثية وطالب أن تتوافق الأحزاب السياسية على تشكيل مجلس تنفيذى وحينها سيحل مجلس السيادة ويشكل مجلس أعلى للقوات المسلحة يكون مسؤولا عن الأمن والدفاع.

وهذه إشتراطات واضحة، تعني إعادة الإعتبار للأحزاب التى كانت جزءا من نظام البشير ومشاركة له فى الحكم وفى الفساد وفى الظلم وبما فيها حزب المؤتمر الوطني تحت مسمى جديد وكذلك الاحزاب الإسلاموية، وكذلك أحزاب “الفكة” سالفة الذكر والدفع بها إلى واجهة المشهد السياسي وهو يعلم بأن التوافق مع هذه المكونات فى حكم المستحيل والثورة أصلا قامت ضدهم وضد سعيهم الضال والمعوج والشعب نهض من أجل الحرية والسلام والعدالة ولايمكن التزواج بين الماء والنار.

 ولا يخفى على أحد أن البرهان يبحث عن المسوغ والمبرر ليقود البلاد إلى إنتخابات خاطفة ومزورة فى ظل نظام شمولي هو راعيه، كما كان يحدث فى عهد معلمه البشير.

والتلويح بمجلس أعلى للقوات المسلحة هى بدعة فى العمل السياسي وليس لها شبيه فى الأنظمة الديمقراطية وإذا حدث – لا قدر الله – فسيكون وصيا على العملية السياسية برمتها وتحته مجلس تنفيذى مقيد الحركة ومسلوب الإرادة و فاقد القرار.

منذ وقوع الفصل الأخير لإنقلابه فى 25 تشرين الأول – أكتوبر الماضي سقط 115 شهيداً ومئات الجرحى ودمائهم وأرواحهم فى عنق البرهان وحلفائه إلى يوم الدين ولن يجدي التنكر والتملص من جرائم كاملة الأركان “ولكم فى القصاص حياة يا أولي الألباب”، وستظل الثورة مستمرة حتى تحقق أهدافها كاملة، ولن تفلح محاولات الإلتفاف عليها، والمكر والخداع ولن يجد البرهان وزمرته سبيلا غير الرحيل وتسليم السلطة إلى أصحابها الحقيقيين الثوار الصامدون والكنداكات الصامدات على الأرض، ليشكلوا دولتهم المدنية ومن ثم عودة الجيش إلى ثكناته لممارسة دوره الأصيل في حماية البلاد والزود عن حياضها، مثله كمثل كل جيوش العالم الحر الديموقراطي المستنير.. وإن غدا لناظره قريب.

المصدر: المدار نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى