إذا ما نجح حلف شمال الأطلسي في استعادة حيويته وهو يصبو إلى أمجاد كان عليها إبّان الحرب الباردة، فإن أبجديات تلك المرحلة تدعونا الى تأمل إمكانات إعادة إحياء “وارسو” جديد تيمناً بالحلف الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي ليكون ندّاً أفقياً وعمودياً للحلف الغربي.
تزعّمت روسيا 7 جمهوريات شيوعية، ساقتها نحو هذا الحلف من عام 1955 حتى الاستغناء عن خدماته عام 1991. في تلك المرحلة لم يكن المشهد الشيوعي العالمي واحداً. تصدّعت العلاقة بين البلدان الشيوعية وانقسمت بين لينينية – ستالينية تروج في موسكو وماوية ثورية بشّرت بها بكين وتيتوية متمردة تميّزت بها تشيكوسلوفاكيا، ناهيك بتحورات عقائدية أصابت شيوعيي إيطاليا، فأوحت قطيعة أنطونيو غرامشي مع الستالينية لتيارات دولية أخرى بالتباين مع موسكو والتمايز عنها.
وفي تلك المرحلة كان التقسيم الدولي يقوم على أسس أيديولوجية شديدة الحدّة بين المنهج الشيوعي – الاشتراكي والمنهج الرأسمالي – الليبرالي. أدى الأمر آلياً إلى بروز اصطفافات تلتحق بهذا المعسكر أو ذاك وفق أبجديات تمخّضت عنها مرحلة زوال الفكرة الاستعمارية وتقادم أدواتها. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة استطاعت في سبعينات القرن الماضي من خلال “مواهب” هنري كيسنجر و “بركة” ريتشارد نيكسون من إنجاز انفتاح طَرب له ماو تسي تونغ في بكين.
غير أن الراهن فاقد لكل تلك القواعد والمعايير. فإذا ما كان اندثار الاتحاد السوفياتي و “الحلف الشرقي”، بما في ذلك امتدادهما العسكري في حلف وارسو، أعلن سقوط الشيوعية وانهزامها لمصلحة الرأسمالية وغلافها الليبرالي، فإن علامات المنافسة الدولية الراهنة، وعلى الرغم من المزاعم الغربية عن صراع عقائدي بين الاستبداد والليبرالية، لا تشي بأي قماشة أيديولوجية بالإمكان الركون إليها. نكتشف هذه الأيام أن صراع الايديولوجيات القديم أقل قساوة ووحشية من صراع المصالح الحالي الذي تتواجه وفقه إمبراطوريات هذا الزمن.
والحال أن هذا الواقع ليس خبراً ساراً لمنتجي الأحلاف وناظمي هياكلها. فمن الصعب تكوين اصطفافات نهائية طالما أن حوافز بلدان العالم تتعلق بحاجاتها في الأمن والسياسة والاقتصاد، وأن إشباع هذه الحاجات لا يمكن أن يتحقق، في زمن العولمة المفرطة، بالانحشار داخل قالب دولي معين والقطيعة مع القوالب الأخرى.
ولئن تلفق روسيا والصين توافقهما الراهن من دون أي إيمان بديمومته ومن دون أي طموح لترقيته، فإن الدول (وهي كثيرة) التي لم تتخذ مواقف معادية لروسيا في عزّ صراع موسكو الحالي مع الغرب، لا تخطط لتطوير مواقفها والارتقاء بها إلى مستويات أحلاف الحرب الباردة وما استدعته من قيام حلف وارسو.
وإن يوحي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بما يملكه من هامش رحب داخل منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومجموعة البريكس أو دول بحر قزوين أو منظمة شنغهاي وغيرها، إلا أن تلك الدول جميعها، باستثناء بيلاروسيا، عبّرت رسمياً عن تحفّظ عن الحرب التي شنتها روسيا ضد أوكرانيا منذ 24 شباط (فبراير). فحتى الصين لم تدعم تلك الحرب، وقد لا تعترف بشكل سهل بنتائجها في الدونباس والجنوب المطل على البحر الأسود، وهي التي لم تعترف أبداً بضمّ روسيا القرم عام 2014.
ولئن تهدد روسيا بمدّ بيلاروسيا بالسلاح النووي، فإن من شأن اندفاع بوتين صوب إسباغ الطابع النووي على الصراع أن يغري شريحة من بلدان العالم للاستفادة من عروض روسية نووية تنقل لها ترسانات نووية كحافز للانخراط في الأحلاف الصديقة.
وفي ظل ما سيثيره الأمر من غضب وقلق دول نووية مثل الهند والصين، تدور أسئلة حول احتمالات استفادة إيران من تواجد نووي روسي على أراضيها يكون رداً على فشل العودة إلى الاتفاق النووي وقيام أحلاف دولية إقليمية جديدة ضدها.
على أن العقلانية التي يقوم عليها الصراع الدولي الراهن داخل عالم شديد التشابك والتقاطع اقتصادياً، ما زال، على ما يؤمل، يمنع ارتكاب شطط يهدد بالعبث بنظام دولي ما زال يعمل وفق قواعد صارمة.
بيد أن حالة التصعيد النوعي التي خرجت بها قمتا مجموعة الدول السبع والحلف الأطلسي، لا سيما لجهة التصويب المباشر، بمستويات متفاوتة، على روسيا والصين، قد تدفع، ولو بعد حين، إلى إقامة تحالفات مصالح، قد تكون صلبة في هياكلها للدفاع عن مكانة الدول المعنية في أي خريطة دولية جديدة قيد التشكل.
يبقى أن الصين، التي قامت وتطوّرت وتعمّلقت على أساس قواعد النظام الدولي الحالي، ليست لديها مصلحة بالقفز نحو نظام دولي بديل يشوبه ارتجال وليس بالضرورة أن يوفّر لها من الحصص والفرص ما وفّره نظام دولي قام على أنقاض مرحلة سوفياتية يطمح بوتين لأن يحييها وهي رميم.
قام “وارسو” الخمسينات كرد فعل على توجه ألمانيا الغربية نحو “الناتو”. هذه الأيام تكسر النروج والسويد قواعد قديمة وتلتحق، كما فعل قبلهما بقية “أشقاء” الزمن الزائل، بالحلف العسكري الغربي. الحدث قد يستدرج حنيناً إلى رد الفعل القديم. صحيح أنه يصعب تصوّر قيام “وارسو” آخر لمكافحة الصحوة الأطلسية الداهمة، إلا أن العسكرة التي يطل بها “الناتو المستجد” لقراءة العالم ترجّح، في قصص التاريخ وذاكرته، استدعاء أحلاف مضادة قد يكون “وارسو” المندثر نموذجاً باتجاه إشباع الحاجات الاستراتيجية الكبرى.
المصدر: النهار العربي