في الشتات السوري ومشكلاته

فايز سارة

يضم الشتات السوري وفق أكثر التقديرات متابعة ما يزيد على ثمانية ملايين من اللاجئين ومن بحكمهم من المقيمين السوريين. ويتضمن التقدير تجاوزاً لواقع بين معطياته عدم وجود أرقام رسمية لدى عدد من الدول سواء نتيجة تكتمها أو بسبب حركية الأرقام وتداخلاتها، أو نتيجة عدم الاهتمام بإعلان الأرقام لسبب أو لآخر.

ويتوزع شتات السوريين في دائرتين، أولاهما القريبة وفيها دول الجوار تركيا ولبنان والأردن والعراق بتقديرات تتجاوز خمسة ملايين نسمة، كما تشمل الدائرة شتات السوريين في دول الخليج العربية ومصر والسودان، ويزيد عدد السوريين فيها على مليون ونصف مليون نسمة، فيما تضم الدائرة الثانية البعيدة في الشتات، ما لا يقل عن مليون ونصف مليون من السوريين، يتوزعون بصورة رئيسية بين أوروبا وأميركا الشمالية.

تتميز الدائرة الأولى القريبة، بأنها في واسعة ومتعددة في بناها وقدراتها وخبراتها، وهي أشبه ما تكون بصورة مصغرة لسوريا في المثال التركي وفي مصر، وأقرب إلى الفئات الشعبية من فلاحين وعمال، حسب عموم الحال في لبنان والأردن والعراق، وأهم ملامح الدائرة أنها ضعيفة التنظيم، ومحكومة بسياسات دول مضيفة، لا تعترف باللجوء ولا تمنح اللاجئين حقوقاً، وتراوح سياستها بين الضبط الشامل والانفتاح الجزئي، وهي بوابة تماس وتواصل مع الداخل، ولها روابط وثيقة ونشطة معه في المجالات المختلفة، وتمتد أهمية هذه الدائرة إلى أنها مقر وميدان حركة القسم الرئيسي من القوى والشخصيات السياسية والمدنية والأهلية السورية الموزع أغلبها بين تركيا ومصر وبلدان الخليج، والتي تشكل في ذات الوقت مركز نشاط الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية للسوريين في الشتات.

وتشكل الدائرة الثانية البعيدة حالة أخرى في الشتات. إذ هي الأكثر تنظيماً وضبطاً، كونها تقع في مجموعة دول متقدمة لها سياسات واضحة في موضوع اللجوء واللاجئين، وتتولى بالاستناد إليه إدارة شؤونهم في أغلب المجالات، الأمر الذي عزز نشوء وتطور تجمعات تتألف من ذوي التخصصات العليا والخبراء، ومعهم نسب محدودة من عاملين في قطاع الأنشطة الاستثمارية في الخدمات والتجارة، وجزء من نخبتها متفرغون لنشاط في مجالات الإعلام والثقافة والفنون سواء بشكل انفرادي أو عبر مؤسسات مجتمع مدني، ترعاها وتدعمها الدول المضيفة في سياق خدمة اللاجئين واندماجهم في المجتمع. وبخلاف الشتات الأوروبي، فإن الشتات السوري في أميركا الشمالية متضمناً كندا والولايات المتحدة، أقل تبلوراً ووضوحاً نتيجة قلة العدد وطبيعة الانتشار في مساحات كبيرة، مما يجعل أوضاعهم أقرب إلى شتات نخبوي يقارب الشتات الفرنسي.

لقد حقق السوريون في أغلب بلدان الشتات تقدماً، تجاوز واقع ما كانت عليه حالتهم لدى وصولهم إلى بلدان اللجوء. بل إن بعضهم حقق نجاحات في كسب اللغات والتعليم والعمل عن طريق الاندماج في المجتمعات الجديدة، وتم تجنيس مئات آلاف السوريين في العقد الماضي في بلدان كثيرة بينهم مئتا ألف في تركيا، ونحو عشرة آلاف في السودان، وتكرر الأمر في أوروبا وأميركا الشمالية في سنوات العقد الماضي، وفي العام 2022 وحده، حصل أكثر من خمسين ألف لاجئ سوري على جنسيات أوروبية أكثرها في السويد وألمانيا.

وإذا عددنا ما تحقق يقع في باب إيجابيات ما لحق بالشتات السوري، فلا بد من توقف عند السلبيات، التي تزايدت في عموم بلدان اللجوء، ولعل الأبرز فيها تردي أحوال السوريين في تركيا، التي تزايدت صعوبات الحياة فيها سواء بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية وسط انخفاض قيمة العملة وانتشار الفقر، وسوء ظروف العمل، ونتيجة عدم استقرار سياسة الدولة في موضوع اللاجئين السوريين، وتشدد سياسات الحكومة في التعامل مع السوريين، إضافةً إلى تصاعد النزعات العنصرية ضدهم في بعض الأوساط التركية.

وثمة مشتركات بين واقع الشتات التركي وشتات السوريين في بلدان أخرى منها لبنان، حيث يطبق الأخير سياسات أشد سوءاً خصوصاً لجهة اضطهاد السوريين وممارسة العنصرية ضدهم، ومنعهم من العمل، وتحديد أماكن إقامتهم ومنع انتقالهم، ومداهمة مخيماتهم وأماكن سكنهم تحت حجج مختلفة، وتنظيم حملات لإعادة بعض السوريين إلى مناطق سيطرة النظام، والقيام بتسليم بعض الناشطين إلى نظام الأسد.

إن صعوبات وصول وإقامة وعيش السوريين في بلدان الشتات القريب زادت، وامتد بعض الصعوبات إلى واقع بلدان الشتات البعيد في أوروبا، حيث تصاعدت النزعات العنصرية ضد اللاجئين نتيجة صعود تيارات متشددة متطرفة، وتزايدت صعوبات حياتهم سواء بسبب ظروف «كورونا» أو بفعل تطورات قانونية وإدارية في الكثير من دول وأزمات اقتصادية، ولم يكن اللاجئين بعيدين عن أسباب الصعوبات التي يواجهها الشتات، حيث خلقَ اختلاف العادات والتقاليد وسليم القيم، وعدم قدرة بعضهم على تعلم اللغة، والانخراط في سوق العمل، والاندماج في نسيج البلد الجديد، صعوبات عيش ومعاناة وبخاصة في صفوف كبار السن من اللاجئين.

إن الأخطر فيما يواجه الشتات السوري، تلك الدعوات والأنشطة التي تستهدف إعادة السوريين إلى سوريا في ظل الأوضاع القائمة، التي ما زالت تفاقم تدهور حياة السوريين في معاشهم وأمنهم وصعوبة الحصول على ضرورات الحياة، وهو أمر تؤكده الأمم المتحدة في تقييمها للأوضاع في سوريا، لتخلص إلى قول إنه يتعارض مع دعوات إعادة اللاجئين إلى بلادهم، التي تتوالى في لبنان وتركيا والدنمارك ودول أخرى على المستويين الرسمي وفي الأوساط السياسية.

ورغم أن ما يواجه الشتات السوري من مشكلات لن يكون له تأثير حاسم في الشتات (مثل إرجاع اللاجئين إلى سوريا) فإن أوضاعهم بحاجة إلى تدقيق ومراجعة من جانب الأمم المتحدة ومنظماتها المختصة ومن جانب حكومات دول الشتات والرأي العام فيها، ليس فقط من أجل إزالة الظروف الصعبة التي لحقت باللاجئين، وتحسين ظروف حياتهم بوصفهم ضحايا سياسات دموية إرهابية لنظام الأسد وحلفائه، قصرت الدول والرأي العام عن مواجهتها ولجمها، بل بوصفهم يستحقون مثل غيرهم حياة مقبولة.

ومما لا شك فيه أن النهج الأمثل في معالجة أوضاع الشتات السوري، هو عمل جدي من أجل حل سياسي، يسمح بعودتهم الآمنة وغير المشروطة إلى بلدهم، مع مراعاة ظروف من لم يعد بمقدوره العودة نتيجة متغيرات قاهرة في حياتهم وأسرهم، وبانتظار أن يحصل ذلك، فإن المطلوب تخفيف معاناة اللاجئين بكل السبل المتاحة.

 

المصدر: الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى