كيف تكون السريانيّة غير العربيّة

مؤنس بخاري

يصرّ البعض على أنّ السريانيّة هي لغة منفردة في هذا العالم، لا علاقة لها باللّغة العربية، ولا علاقة لها بالعرب، ويصرّون بالتالي على أنّ السريان شعب غير العرب، أكرهه المسلمون على الاستعراب. هذا كلّه هراء. كيف تكون السريانيّة غير العربيّة ومن صنعها هم في الأساس سلالة ملكيّة عربيّة؟ حكمت بلداً عربيّاً! ثمّ أنتجت في عاصمته ما صرنا نعرفه باللّغة السريانيّة، والأبجديّة السريانيّة. إليك حكايتها باختصار.

ما تُعرف باللّغة السريانيّة تسمّى كذلك بالآراميّة السريانيّة، وتسمّى بلهجتها الشرقية: لشانا سُريايا ܠܸܫܵܢܵܐ ܣܘܼܪܝܵܝܵܐ، وبلهجتها الغربيّة: لِشونو سُريويو ܠܶܫܳܢܳܐ ܣܽܘܪܝܳܝܳܐ. ويفصل نهر الفرات ما بين اللّهجتين الشرقيّة والغربيّة. وتفصيح التسمية باللّهجتين هو: لسان سوريّين. أي لغة السوريّين. وهي في الأساس لهجة آراميّة نشأت في القرن الأوّل الميلادي من تقعيدها في مدينة الرها وما حكمته من المناطق من حولها باسم مملكة الرها (أورهي)، ثمّ تطوّرت وصارت لغة آداب وعلوم مع اعتمادها لغة رسمية للكنيسة المسيحية في القرن الثاني. (1)(2)(3)(4)(5).

فما هي مملكة الرها؟

سنة 312 ق.م نشأت على أنقاض الإمبراطورية الأخمينيّة المملكة السلوقيّة Βασιλεία τῶν Σελευκιδῶν التي حكمت مناطق شاسعة، يقيم على قسم كبير منها العرب. ثمّ مع تضعضع هذه المملكة وبدء انهيارها، بدأت العديد من أقسامها الغربيّة بالانفصال عنها في ممالك عربيّة، تحكمها سلالات عربية، وتطلب الدعم العسكري والسياسي من دول الجيران القويّة، ضماناً لاستقلالها. وكان من هذه الممالك مملكة حمص، وإمارات اليطوريّين، ومملكة الحضر، ومملكة الرها، ومملكة حَضيأب، ومملكة گُمُّخُ المعروفة لاحقاً باسم گُمَّجينه… وغيرها. وعلى مجرى المملكة السلوقيّة التي اعتمدت اللّغة الإغريقيّة لغة رسمية، حافظت هذه الممالك العربية على الإغريقيّة لغة رسمية، ثمّ بدأت بصناعة لغاتها الرسمية الخاصّة اعتماداً على لهجاتها من الآراميّة المحلّيّة. والآراميّة كانت باقية في هذه الشعوب مذ حكمتها الإمبراطورية الأسورية الحديثة: مات أشُّر.

سنة 132 ق.م ومع انهيار المملكة السلوقيّة استقلّ ضابط عربي نبطي بمحافظة أُسرُوينة (خُسرُوينة) السلوقيّة، ومنحها اسم عاصمتها أورهي (الرها) فصار اسمها مملكة أورهي: ملكوته دبيت أورهي ܡܠܟܘܬܐ ܕܒܝܬ ܐܘܪܗܝ. والضابط، أو الملك المؤسّس هو من سلالة عربيّة واضحة (6)(7)، اسمه أريُ (أريو) (8)، وحكم حتّى سنة 127 ق.م، ووضع قبيلته النبطية على قيادات البلد. ثمّ صار القسم شرق دجلة من المملكة يسمّى مملكة حَضيأب ܚܕܝܐܒ، والقسم غرب الفرات من المملكة يسمّى گُمُّخُ (گُمَّجينه) ܓܡܚ (9).

سنة 127 ق.م خلف أريُ الملك عبدو بن زرعو، ثمّ فردشت بن جبارو، ثمّ بكر الأوّل بن فردشت، ثمّ بكر الثاني، ثمّ معن الأوّل، ثمّ بكر الثاني وأبجر الأوّل.

سنة 92 ق.م دبّ الخلاف على السلطة ما بين بكر الثاني وأبجر الأوّل، كان الخلاف في الواقع بين تيّارين، أحدهم يوالي الإمبراطورية الأشكانية المحاذية من الجنوب، والثاني يوالي المملكة الأرمنية المحاذية من الشمال. المهم، انتصر تحالف أبجر الأوّل مع الملكة الأرمني الأرضاشيسي ديكرانوس الثاني Տիգրան Բ، فتمكّن أبجر الأوّل من الاستفراد بالحكم وحده، ونزلت مملكته تحت حماية المملكة الأرمنية.

استمرّ تداول السلطة في المملكة من بعد أبجر، فخلفه معن الثاني، ثمّ باقور، ثمّ أبجر الثالث، ثمّ الرابع، ثمّ معن الثالث، ثمّ أبجر الخامس بن معن، ثمّ معن الرابع، ثمّ عاد أبجر الخامس إلى السلطة… وهذه نقطة مهمّة.

ميلاد اللّغة السريانيّة

في عهد أبجر الخامس (4 ق.م – 50 م) بدأت رغبة المملكة بالتبلور للحصول على هويّة مستقلّة عن الحماية الأجنبيّة، وقرّرت المملكة التخلّي عن اللّغة الإغريقيّة الموروثة عن المملكة السلوقيّة كلغة رسميّة، وصارت إلى تقعيد لهجتها الآراميّة التي سمّتها لسان السوريّين: لشانا سُريايا. هنا تماماً نشأت اللّغة السريانيّة. تحت حكم ملك عربي، من سلالة عربية حكمت هذا البلد خمس قرون.

هكذا نشأت اللّغة السريانيّة في القرن الأوّل الميلادي في مدينة الرها (أورهي) المعروفة اليوم باسم أورفا Şanlıurfa، وصارت لغة رسمية لكلّ مناطق المملكة. وكانت توسّعت وشملت على العديد ممّا حولها من المناطق، أوسع من هذه الحدود في الخارطة. فأضافت إلى لسانها العديد من العرب من سكّان الأناضول وشمال العراق وسوريا وإيران المعاصرات، ممّن كانوا في الأساس على اللّغة الآراميّة، فصاروا على لهجة منها، صارت تسمّى: سريانيّة.

خلال القرن الثاني صارت مملكة الرها تتمايل بالولاء تارة للأشكان وتارة للرومان، إلى أن أخضعها الأشكان بشكل كامل وغيّرن اسمها إلى عرب إستان سنة 163 ميلادية (10)(11)، تحت عرش الملكين معن الثامن و وائل بن سَحر، ثمّ تقاسمنها مع الرومان سنة 212 تحت عرش الملك أبگر (أبجر) التاسع، ثمّ أزال الرومان عرش بني آري الأباگرة سنة 242 لتحويل البلد إلى محافظة رومانيّة. وكان آخر ملوكها (صوريّاً) أبگر (أبجر) العاشر بن معن.

وهذه المملكة، مملكة أورهي، هي موطن المسيحيّة الأوّل في هذا العالم، هي أوّل بلد يتّخذ من المسيحيّة بنجاح ديانة رسمية للبلد، ما جعل من لغته الرسميّة السريانيّة لغة للمسيحيّة النسطورية المبكّرة. امتصاص الدولة الرومانية للقسم الغربية من مملكة أورهي (الرها) هو من جعل للمسيحيّة مكانة وعزّة في ختام حياة الإمبراطورية الرومانيّة، وعزّ نهضة الإمبراطوريّة البيزنطية (12). ففي حوالي عام 200، تبنى أبگر (أبجر) التاسع المسيحيّة، ما مكّن أورهي من أن تصبح أوّل دولة مسيحيّة في التاريخ كان حاكمها العربيّ وبشكل علنيّ مسيحيّاً. (13)

تراجع مكانة السريانيّة

وبسبب تقاسم الأشكال والرومان للبلد، تطوّرت لهجة كلّ من القسمين بشكل مستقل، فنشأت في المناطق التي حكمها الأشكان باسم عرب إستان اللّهجة السريانيّة الشرقيّة. بينما نشأت في المناطق التي حكمها الرومان باسم أُسرُوينة اللّهجة السريانيّة الغربيّة. وصارت لكلّ من اللّهجتين أبجديّتها وقواعدها وأصواتها. وهو ما أثّر كذلك على لغة الكنيسة السريانيّة الرسميّة، فصارت الكنائس تراعي الفروق ما بين اللّهجتين.

في القرن السابع، ومع حكم الأمير الأمويّ عبد الملك بن مروان؛ الذي أمر بالتعريب (14)(15)، صارت اللّغة الرسميّة لكلّ مناطق ومرافق الدولة الإسلاميّة هي العربيّة على مدرسة البصرة (16). فتراجعت السريانيّة إلى لغة كنيسة وما عاد لها مكانة رسمية على المستوى السياسي. مع ذلك بقيت لغة شارع في مناطقها، حتّى بين من تحوّلوا إلى الإسلام من عرب الجزيرة، من كانوا تحت حكم مملكة الرها.

لكن، تدمير إيلخان مغول فارس لمدن الجزيرة جميعاً في القرن 13 وتهجير سكّانها؛ غيّر التركيبة السكّانية للمنطقة كليًّا، ومنح قَدماً للأكراد ولغاتهم على حساب السريانيّة. ثمّ جاءت كارثة تيمور لنگ الذي أباد معظم المسيحيّين في المنطقة (17)(18) تماماً كما أباد سكّان العديد من مدن المسلمين من بعدهم. فتراجعت السريانيّة من بعده، حتّى استبدلت العربيّة محلّ السريانيّة كلغة للقدّاس في بعض الكنائس السريانيّة الغربيّة (19)، وقد نشأ مسيحيّوها في غياب عن لغة الأجداد السريانيّة.

الآن، طالما أنّ الناس قد تحوّلت من عربيّة سريانيّة إلى عربيّة البصرة الفصحى أو غيرها، فكيف نقول أنّهم عُرّبوا أو استعربوا وحُوّلوا إلى عرب؟ هم عرب أساساً وقد تبدّلت لهجاتهم لا أكثر. تماماً كما لو فُرضت اليوم لهجة مصر العربيّة بديلاً للعربيّة الفصحى في كلّ الدول العربيّة. هذا لا يغيّر من هويّة العرب العاربة، إنّما يغيّر لهجتهم الرسمية. لا أكثر.

عائلة مالكة عربيّة، جعلت من لهجتها لغة رسميّة، ثمّ صارت الناس تسمّيها بالسريانيّة. لا شعب آخر غير العرب ولا لغة غير العربيّة.

المصدر: صفحة مؤنس البخاري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى