يرى مؤرخون أن توطين أوروبيين الذي ترافق مع ارتكاب مجازر وعمليات ترحيل واسعة كان في صلب الاستعمار.
تقترب الذكرى الستون لاستقلال الجزائر، في ظل اختلاف مع فرنسا على التاريخ ونتائجه المأساوية. وسط هذا، يرى مؤرخون أن توطين أوروبيين الذي ترافق مع ارتكاب مجازر وعمليات ترحيل واسعة كان في صلب استعمار فرنسا للجزائر في القرن التاسع عشر.
وقد ذكر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أن “5 ملايين و630 ألف جزائري قتلوا بين 1830 و1962″، أي أن غالبية الضحايا سقطوا خلال السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي إذ إن حرب الاستقلال أسفرت عن مقتل ما بين 300 و400 ألف جزائري، بحسب المؤرخين الفرنسيين، و1,5 مليون بحسب الجزائريين.
وشهدت السنوات السبعون التي أعقبت إنزال القوات الفرنسية في الجزائر في 1830 مجازر كبيرة بما في ذلك عمليات “الخنق بالدخان” المشؤومة والتهجير القسري لمئات الآلاف من السكان من مناطقهم الأصلية.
طرد العرب
أوضح أوليفييه لوكور غرانميزون المتخصص الفرنسي في التاريخ الاستعماري لوكالة الصحافة الفرنسية “في البداية، ساد منطق ‘طرد العرب’ من ديارهم واستبدالهم تبعه منطق استغلال أراضيهم ونهبها”.
وتابع زميله الجزائري حسني قيطوني الباحث في جامعة إكستر البريطانية أن الغزو كان هدفه “استبدال شعب بآخر”، موضحاً أنها “كانت في الأساس سياسة استبدال وسياسة توطين”.
ولا يرفض المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا مصطلح “الاستيطان”، لكنه يستبعد فكرة أن يكون الأمر استراتيجية متعمدة. ويقول “لم يكن هناك فكر ممنهج لاستبدال السكان… لم تكن سياسة استبدال”.
وأضاف أن الأمر كان “شبيهاً بالسياسة التي تم اختبارها في الغرب الأميركي. نأتي بمستوطنين للسيطرة على البلاد. لا توجد استراتيجية. إنه استيطان تدريجي بإضافة سكان يصلون في حركة غير منظمة”.
غزو مروع
أكد ستورا أن “غزو الجزائر كان مروعاً وجرى باستخدام العنف”، موضحاً أن في الجزائر “استخدم الجيش الفرنسي في أفريقيا ‘الأرتال الجهنمية’ التي استخدمت ضد المتمردين في حرب فونديه في بداية الثورة الفرنسية… وهي تقوم على قتل السكان وترحيلهم”.
هذا ما حصل في البليدة، بالقرب من الجزائر العاصمة، حيث “قُتلت أكثر من 600 امرأة وطفل ومسن” في نوفمبر (تشرين الثاني) 1830، كما ذكر المؤرخ قيطوني.
وأوضح أنه منذ عام 1840، عندما واجهت فرنسا أزمة اقتصادية كبيرة، “قررت الحكومة (الفرنسية) احتلال الجزائر بأكملها وتوطين ‘فائض السكان الفرنسيين’ فيها”.
وبحسب قيطوني، بين 1830 و1930، استولت الإدارة الاستعمارية على 14 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، تم التنازل عن جزء منها مجاناً للمهاجرين الأوروبيين، الذين ارتفع عددهم من سبعة آلاف في 1836 إلى 881 ألفاً في 1931.
وأشار غرانميزون إلى أن ما سُمي “إحلال السلام في الجزائر بدأ فعلياً بتعيين الجنرال بيجو في منصب الحاكم العام في عام 1840”.
وأضاف إنها كانت فترة “حرب ماحقة”، زال فيها “التمييز بين المدنيين والعسكريين وبين ساحات القتال وأماكن العبادة” التي انتُهكت حرمتها حتى عندما لجأ إليها مدنيون للاحتماء.
الخنق بالدخان
اخترعت القوات الاستعمارية “الخنق بالدخان”. ووثق المؤرخون على وجه الخصوص حالتين: الأولى في منطقة الصبيح في 11 يونيو (حزيران) 1844، والثانية في منطقة الظهرة في 18 يونيو 1845، أبيدت خلالهما قبائل بأكملها لجأت إلى كهوف سُدت واختنق من كانوا بداخلها بدخان نيران أشعلت بأوامر من الجنرالات الفرنسيين، بحسب ما وثق منصور قديدير الباحث في مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في وهران.
وصنف غرانميزون هذه الأحداث على أنها “إرهاب دولة: كان الهدف منها ارتكاب مجازر لتكون عبرة ولإخضاع ‘السكان الأصليين’ بسهولة الأكبر”، من خلال ما وصفه بأنه “جريمة ضد الإنسانية”.
وبالإضافة إلى “الخنق بالدخان”، أشار المؤرخ إلى “تدمير عشرات القرى وترحيل آلاف المدنيين” بدون مواشيهم إلى أراضٍ أقل خصوبة، مما أدى إلى مجاعات وأوبئة قضت على أعداد كبيرة منهم.
إنقاص عدد السكان
رأى قديدير أن المرحلة الأولى من الغزو تضمنت “إرادة متعمدة للقضاء أو على الأقل لإنقاص عدد السكان حتى لا يشكلوا خطراً على جيش الاحتلال”.
ففي 1880، قدّر الديموغرافي الفرنسي رينيه ريكو أن “عدد السكان الأصليين انخفض بنحو 875 ألفاً بين عامي 1830 و1872”.
وعلى الرغم من ذلك، بدأ عدد الجزائريين بعدها يزداد، حتى أنه تضاعف بين عامي 1906 و1948 ليصل إلى تسعة ملايين نسمة.
واعتبر ستورا أنه بمعزل عن الأرقام التي لا يوجد توافق حولها، كان “الأمر الأهم خلال الغزو الاستعماري هو سلب الهوية. فعندما يُجرد شخص من أرضه فإنه يفقد اسمه المرتبط بهذه الأرض”.
المصدر: أ ف ب/اندبندنت عربية