ما انفكت الحالة المتغيرة في محافظة إدلب، ومحيطها، في سياقات الحركة والتغير والفعل وردات الفعل، وكذلك الترقب لما هو آت، حيث لا يدرك ولا يمتلك أي قاريء للسياسة مآلات هذا الواقع في المنظور القريب أو البعيد، لأن الوضع بات معقدًا وتواكبه الكثير من التدخلات والمصالح الاقليمية والعالمية، كما تتفاعل ضمن هذا البعد العديد من التغيرات على الأرض من عسكرية وسياسية، وجيوسياسية ناهيك عن حالة التخلي الدولي المعولم، عن المسألة السورية برمتها، وكذلك عن أوضاع إدلب منها بالضرورة.
ولعل حالات الإنتهاك المتواصلة من قبل النظام السوري وداعميه من روس وإيرانيين، لاتفاقات متعلقة في إدلب كان آخرها اتفاق 5 آذار/ مارس 2020، تنبيء بمزيد من عدم الإلتزام بهذه الإتفاقات أو أي اتفاقات أخرى قد تكون ملحقة بها. خاصة بعد جملة التغيرات الاقليمية والعالمية التي حصلت في الساحة الدولية إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، وماخلفه من محاولة إعادة رسم ملامح نظام عالمي جديد يبغي الوصول إلى ثنائية القطب أو تعددها.
_نظرة في الإتفاقات الأخيرة حول إدلب:
الإتفاق الاول (اتفاق سوتشي في 17 سبتمبر/ أيلول 2018) وقد نص على مايلي: “الجمهورية التركية والاتحاد الروسي، باعتبارهما ضامنتي الالتزام بنظام وقف النار في الجمهورية العربية السورية، وبالاسترشاد بمذكرة إقامة مناطق خفض التصعيد داخل الجمهورية العربية السورية في 4 مايو /أيار 2017، والترتيبات التي تحققت في عملية آستانة، وبهدف تحقيق استقرار الأوضاع داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب في أقرب وقت ممكن، اتفقتا على ما يلي:
1- الإبقاء على منطقة خفض التصعيد في إدلب، وتحصين نقاط المراقبة التركية واستمرار عملها.
2- سيتخذ الاتحاد الروسي جميع الإجراءات اللازمة لضمان تجنب تنفيذ عمليات عسكرية وهجمات على إدلب، والإبقاء على الوضع القائم.
3- إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 – 20 كيلومتراً داخل منطقة خفض التصعيد.
4- إقرار حدود المنطقة منزوعة السلاح سيتم بعد إجراء مزيد من المشاورات.
5- إبعاد جميع الجماعات الإرهابية الراديكالية عن المنطقة منزوعة السلاح، بحلول 15 أكتوبر (تشرين الأول).
6- سحب جميع الدبابات وقاذفات الصواريخ المتعددة الفوهات والمدفعية ومدافع الهاون الخاصة بالأطراف المتقاتلة، من داخل المنطقة منزوعة السلاح بحلول 10 تشرين أول/أكتوبر 2018.
7- ستقوم القوات المسلحة التركية والشرطة العسكرية الخاصة بالقوات المسلحة التابعة للاتحاد الروسي، بدوريات منسقة وجهود مراقبة باستخدام طائرات من دون طيار، على امتداد حدود المنطقة منزوعة السلاح. والعمل على ضمان حرية حركة السكان المحليين والبضائع، واستعادة الصلات التجارية والاقتصادية.
8 – استعادة حركة الترانزيت عبر الطريقين إم 4 (حلب – اللاذقية) وإم 5 (حلب – حماة) بحلول نهاية عام 2018.
9- اتخاذ إجراءات فاعلة لضمان نظام مستدام لوقف النار داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب. في هذا الصدد، سيجري تعزيز مهام مركز التنسيق الإيراني – الروسي – التركي المشترك.
10- يؤكد الجانبان مجدداً عزمهما على محاربة الإرهاب داخل سورية بجميع أشكاله وصوره.
لكن لم يصمد اتفاق سوتشي أكثر من بضعة أشهر؛ ففي مطلع أيار/ مايو 2019، بدأ النظام وحلفاؤه الروس حملة عسكرية كبيرة محاولة للوصول إلى الطرق الدولية والسيطرة عليها. وجاء التصعيد على خلفية فشل جولة محادثات أستانا، نهاية نيسان/ أبريل 2019.
_اتفاق 5 آذار/ 2020
توصل الرئيسان، التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في لقاء قمة عُقد في موسكو في 5 آذار/ مارس 2020، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في محافظة إدلب. وجاء الاتفاق الذي قدِّم بوصفه ملحقًا لاتفاق سوتشي لعام 2018، على خلفية التصعيد الكبير الذي شهدته إدلب عقب هجومٍ شنّته قوات النظام السوري وحلفاؤها للسيطرة على الطرق الرئيسة في المحافظة، وتحوّل إلى مواجهةٍ مباشرةٍ مع وحدات من الجيش التركي، بعد تعرّض الأخيرة لهجومٍ أدّى إلى مقتل 33 عنصرًا منها في 27 شباط/ فبراير 2020.
الاتفاق الذي أُعلن عنه، في ختام اجتماع استغرق ست ساعات بين الرئيسين بوتين وأردوغان، وقرأه وزيرا خارجية البلدين في مؤتمر صحفي مشترك، اشتمل على ثلاث نقاط رئيسة: وقف إطلاق النار ابتداءً من منتصف ليلة 6 آذار/ مارس 2020، وإنشاء ممر آمن على طول الطريق الدولية حلب – اللاذقية “إم 4″، بعمق 6 كيلومترات شمال الطريق ومثلها جنوبه، وبدء تسيير دوريات مشتركة روسية – تركية على الطريق الدولية من بلدة الترنبة (الواقعة غرب سراقب) وصولًا إلى بلدة عين حور (الواقعة في ريف اللاذقية) بحلول 15 آذار/ مارس.
وفي ملحق خاص، نصّ الاتفاق على التزام البلدين بسيادة سورية واستقلالها ووحدة أراضيها، ومكافحة الإرهاب، والقضاء على “الجماعات الإرهابية في سورية على النحو الذي حدّده مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”، ومنع تهجير المدنيين وتيسير العودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين إلى أماكن إقامتهم، وعلى أولوية الحل السياسي بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، لعام 2015. كما صدر البيان المشترك عن البلدين تضمن إنشاء ممر آمن على عمق 6 كم شمالي الطريق الدولي “إم 4” و 6 كم جنوبه.
_عين على حيوات الناس في إدلب:
يعيش أهالي إدلب وكل من يقطن فيها الذي يزيد عددهم عن 3 ملايين نسمة، حسب تقديرات أممية، الكثير من الضيم وقلة الأمن الغذائي، وكذلك أمن الحياة المجتمعية، حيث لا يمر يومًا واحدًا ومنذ توقيع اتفاق 5 آذار/مارس 2020 وحتى الآن إلا وتحصل فيه خروقات تقوم بها ميليشيات النظام السوري ضد المدنيين في جبل الزاوية وأريحا ومعظم الأراضي السورية في إدلب وريف حلب وريف حماة وريف اللاذقية، وهي معاناة أدت وتؤدي إلى مزيد من النزوح إلى الشمال السوري بالقرب من الحدود التركية توخيًا بعض الأمان على حيوات أسر وأطفال السوريين.
كما أصبح الشارع المدني المعارض في إدلب يتحدث عن احتمالات تنفيذ الفصائل العسكرية عمليات إعادة انتشار واسعة في مناطق العمليات الملاصقة للجبهات مع قوات النظام في محيط إدلب لقطع الطريق على روسيا التي تتخذ من وجود تحرير الشام والتنظيمات الجهادية كشماعة لزيادة التصعيد، وذلك بدلاً من الحديث الذي كان شائعاً في الشارع المعارض والذي كان يتوقع دخول تحرير الشام إلى مناطق الفصائل.
ويسود التوتر جبهات المعارضة السورية في ريفي حلب وإدلب شمال غربي سورية، وينذر تصاعد الهجمات البرية والقصف المتبادل بمعركة تم بدء التحضير لها بالفعل.
وتشير المعطيات الواردة من إدلب إلى أن «هيئة تحرير الشام» وفصائل المعارضة بصدد وضع خطة عسكريّة مشتركة، لمواجهة هجوم محتمل لقوات النظام السوري بدعم روسي في اتجاه محافظة إدلب. وقد قال قيادي في «هيئة تحرير الشام»: إنه تم رفع الجاهزية القتالية للهيئة على محاور القتال في ريف إدلب لردع أي سيناريو يقوم به النظام وحليفه الروسي».
_سياسة التهجير القسري وآلام الناس:
عاشت محافظة إدلب ومناطق الشمال المزيد من عمليات استقبال المهجرين قسريًا، نتيجة مسار أستانا سيء الذكر، وما خلفه في ماسمي مناطق خفض التصعيد، من تهجير قسري لأسر وعائلات كثيرة لم ترض أن تعيش تحت قسوة ظروف وواقع النظام السوري، في كل من درعا وحمص وريفها وريف دمشق الشرقي والغربي، ومخيم اليرموك ومحيطه، وكذلك القنيطرة. وهذا ما أدى إلى أن تغص إدلب على صغر مساحتها بمزيد من السكان المهجرين، حيث يتشارك الجميع أصناف المعاناة القاسية والمستمرة، معاشيًا وحياتيًا وكذلك تلقي القصف اليومي الهمجي من النظام السوري والميليشيات الحليفة له وأيضًا الطيران الروسي المحتل.
وإذا كانت الحياة تحت سطوة النظام السوري صعبة للغاية فإن الحياة تحت القصف والقتل واستمرار المقتلة الأسدية ليس أقل سوءً ولا صعوبة.
_مصائر الاتفاقات :
توقع المراقبون خلال الأشهر الماضية أن يتمخض الواقع في إدلب عن إعادة صياغة جديدة لاتفاقات سوتشي السابقة الخاصة بإدلب، لكن ونتيجة انشغال الروس بحرب أوكرانيا والخلافات البينية بين روسيا وتركيا شمال شرق سورية، وليس آخرها موقف تركيا من أوكرانيا وعدم اعترافها بضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا، وكذلك أوضاع أذربيجان والدعم التركي، إضافة إلى خلافات أخرى في ليبيا وغيرها، حالت دون الوصول إلى تفاهمات جديدة، ومن ثم فقد ساهم ذلك في إعادة إنتاج حالات من التخوف الجديدة لدى السكان، بعد أن تسرب ما قيل أنه تفاهمات، تشير إلى إمكانية تطبيق ما لم يطبق من اتفاق 5 آذار/مارس 2020. وهو ما ألقى بظلاله على الواقع الميداني بمزيد من التصعيد العسكري اليومي.
يتوقع المحللون والمطلعون أن أنقرة رفضت وترفض بالمطلق تطلعات موسكو في اتخاذ وتنفيذ الإجراءات والتدابير التالية:
1- التقليل من أعتدتها وأسلحتها الثقيلة، وسحبها للداخل التركي.
2- تخفيض عدد من النقاط التركية وإزالة بعضها من مناطق الجبهة، وخطوط التماس مع قطعان النظام.
3- تسريع تنفيذ أنقرة للممر الآمن بعرض 12كم جنوب وشمال طريق M4 الواصل إلى جسر الشغور واللاذقية.
4- تنفيذ تعهداتها لفصل المعارضة المعتدلة عن التي تصنفها موسكو بالمتشددة والإرهابية.
5- فتح عدة معابر تجارية بين مناطق النظام والمعارضة وصولًا للحدود التركية.
وقد اضحت كل السيناريوهات مطروحة على طاولة الصراع إثر الجمود، بما فيها قيام النظام السوري، بدعم روسي، بعملية عسكرية واسعة النطاق.
إضافة إلى وجود خلافات أميركية تركية متصاعدة مؤخرًا، إبان الإعلان التركي عن احتمال القيام بعملية عسكرية لانجاز المنطقة الآمنة، والتي قد تلقي بظلالها على المشهد السوري في إدلب، وهذا مايزيد احتمالات تعنت الاتحاد الروسي في إمكانية الوصول إلى تفاهمات جديدة مع الأتراك بخصوص إدلب.
_ المؤقت لا يكون دائمًا:
السؤال المستمر والمتواصل لدى المتابعبين لأوضاع إدلب، وبعد أن أعلن الروس عشرات المرات أن كل اتفاقات إدلب هي اتفاقات مؤقتة، ولا تملك إمكانية أن تصبح دائمة، وهذا ماهو واضح للعيان ولكل متابع، وإذا كان ذلك كذلك، فان تفاهمات إدلب القديمة أو الجديدة أوحتى القادمة، لن تكون دائمة، بل سوف ينالها مانال غيرها على أيدي الروس والإيرانيين والنظام الأسدي التابع. وسوف يبقى الوضع في إدلب على ماهو عليه إلى فترات أخرى سوف تتغير حسب التغيرات الجارية في السياسة والاقتصاد والمصالح وكل ما يلوذ إلى النفعية السياسية البراغماتية بصلة.
وفي الميدان، ينعكس الخلاف الروسي / التركي على الأرض.
غياب الحل السياسي:
من خلال مفاعيل غياب وتغييب الحل السياسي في سورية، والتخلي الكبير عن أي إمكانية لتحريك مسارات الحل، يبدو أن الحلول السياسة باتت بعيدة، وأن الحل العسكري الذي كان خيار النظام وإيران وروسيا على طول المدى، بات قاب قوسين أو أدنى من البدء إن لم تحصل تغيرات كبرى في السياسة الأميركية تجاه الوضع في سورية.
الدولة التركية تقابل التحركات الروسية وتحركات النظام بطريقة تنبيء بجدية كبيرة في التصدي إلى أي تغيير في الوضع بإدلب فقد أنشأت القوات التركية نقاط عسكرية جديدة على طريق حلب – اللاذقية الدولية (إم 4) في شرق محافظة إدلب شمال غربي سورية، بينما انتقدت أنقرة السياسة الأميركية في سورية، ودعت الولايات المتحدة إلى تصحيح أخطائها .
وتضم النقطة التركية الجديدة دبابتين وعدداً من ناقلات الجنود و3 مصفحات وما يقرب من 50
وهناك استمرار للخلاف بين الروس والأتراك حول ملفات الشمال الغربي من سورية. وفي غير مكان من الجغرافيا السورية، رغم التوافقات في بعض المسائل.
وإدلب التي كانت حاضرة بقوة في كل، ومع ذلك يعود الحديث عن الخيارات التركية المتاحة لحل هذه الخلافات وصولًا إلى استقرار ما في هذه المنطقة من سورية.
ومن المرجح أن تصب حراكات الإيرانيين في عملية عدم الاستقرار، وتعويق أية توافقات وتفاهمات روسية تركية. لأن الإيرانيين يحملون المشروع الفارسي التوسعي في المنطقة برمتها خصيصًا بعد استلام ابراهيم رئيسي دفة الحكم في طهران وهو المتشدد والتابع لجهاز السيطرة والتحكم لدى المرشد الإيراني خامنئي. وإذا كان عبد اللهيان يقوم بحركة سياسية دؤوبة في المنطقة فإن غايتها ستكون إعادة الإمساك من جديد بالملف السوري وإنجاز ماعجز عن إنجازه وزير خارجية إيران السابق. وهو بذلك ينسق بالضرورة والمصلحة مع الخارجية الروسية التي تحاول الضغط بقوة في ملف إدلب بعد تمظهر المزيد من الخلافات البينية بين روسيا وتركيا .
وقد تمظهرت مؤخرًا خلافات تركية إيرانية أيضًا تتعلق بما جرى على الحدود الإيرانية الأذربيجانية حيث تقف تركيا بقوة إلى جانب السياسة والعسكريتاريا الأذرية. فقد سبق وأن كانت حركة الدعم القوية في المسيَّرات التركية هي التي ساهمت في تحقيق انتصارات عسكرية كبرى للحكومة الأذرية ضد حكومة أرمينيا ومن ثم تضخم وازدياد الإنزياحات الإيرانية تجاه التغيرات التي لحقت بذلك على حدودها مع أذربيجان. وتتحرك إيران بلقاءات مكوكية وبتنيسق تمفصلي مع الروس في مواجهة السياسة التركية بما يخص الملف السوري بشكل أساسي. وهي أيضًا أي إيران تضع في قمة أولوياتها التموضع القوي في سورية وخاصة في الشمال منها بعد أن كان لها اليد الطولى فيما جرى في جنوب سورية أي في الوصول بقضية درعا إلى ما وصلت إليه، وهيمنتها على الجنوب السوري، وصولًا إلى حدود الأردن لتسهل عملية تهريب المخدرات، بعد انسحابات روسية من تلك المنطقة.
المصدر: نداء بوست