صعود أدوار الدول الإقليمية مع انحسار الهيمنة الأميركية

رأي الملتقى

لم يعد أمرًا محل نقاش أن عصر أحادية الهيمنة الأميركية قد أصبح اليوم من الماضي، ربما يستطيع الغرب بعد جهود مضنية وثمن باهظ دفع القوة الروسية للإكتفاء بالسيطرة على جزء من أوكرانيا والانسحاب من بقية الأجزاء ووقف الحرب، لكنه سيضطر بعد ذلك لفك الحصار حول روسيا والبحث عن طرق لاستعادة مايشبه التعايش السلمي معها، وروسيا ببوتين أو بدون بوتن ستمر بفترة مراجعة لما ربحته وما خسرته في حربها ضد أوكرانيا، وستحاول استعادة شبكة علاقاتها الدولية التي تضررت كثيرًا حتى الآن .

مايهم هنا أن الحرب الأوكرانية لن تعيد الهيمنة الأميركية بقدر ما أكدت تراجع تلك الهيمنة في الامتحان الأوكراني، رغم أنها لن تضع روسيا في وضع القطب المنتصر الذي بإمكانه حصد المكافأة لحربه القاسية المدمرة وكسب مساحة التراجع الأميركي لصالحه على نحو من الأنحاء. وذلك بسبب الخسائر الباهظة التي دفعتها روسيا وستظل تدفعها حتى انتهاء الحرب والتي ستجبرها في النهاية على مرحلة من الانكفاء ولملمة الجراح ومحاولة استعادة مكانتها وسمعتها كدولة كبرى خاضعة للقوانين الدولية وتحترم مبادىء سيادة الدول وحقوق الإنسان .

ومنذ الآن يمكن ملاحظة كيف أن السياسة الصينية قد انتقلت من ديبلوماسية الصمت والانكفاء إلى ديبلوماسية التصريحات الخشنة الموجهة نحو الولايات المتحدة بطريقة غير معهودة، فالحرب الأوكرانية بدلًا عن أن تساهم في استعادة حضور القوة الأميركية العالمية تسببت في تكريس صورة تراجع تلك القوة بحيث باتت الصين أكثر جرأة في إظهار عناصر التصادم مع السياسة الأميركية العالمية وهنا نجد أن قضية تايوان تتدحرج لتصبح امتحانًا حقيقيًا لولادة سياسة صينية عالمية جديدة تحاول الانتقال من التبعية نحو شراكة الأنداد لا أقل من ذلك .

وبدون شك فإن قيام الصين بضم تايوان سلمًا أو حربًا سيكون مؤشرًا قويًا آخر على انحدار الهيمنة الأميركية العالمية على نحو نهائي .

من تلك المقدمة آتي إلى تصاعد دور الدول الاقليمية لتملأ الفراغ الذي تخلفه القوة الأميركية في تراجعها المستمر .تلك العملية التي بدأت بالفعل بعد حرب العراق وتسارعت بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان .

وفي منطقتنا العربية تحركت إيران في وقت مبكر لتحتل ما أمكن من الفراغ الذي تتركه القوة الأميركية، وحين وصل التمدد الإيراني إلى ذروته وجدت الدول الإقليمية الأخرى أن لابد لها من التحرك أيضًا لدفع القوة الإيرانية نحو التراجع واستعادة شيء من التوازن الذي اختل على نحو يهدد المنطقة بالدخول في صراعات عنيفة مدمرة .

ويبدو جليًا أن هذا السياق مؤهل للاستمرار والتصاعد في ظل انحدار الهيمنة الأميركية العام، وانشغال السياسة الأميركية بمواجهة الصين وروسيا .

بدون شك لايمكن الوصول إلى التوازن المطلوب في المنطقة قبل تقليم أظافر التمدد الإيراني، وتحتل سورية مكانة مركزية في هذا الشأن .

وسوف يأتي بعد ذلك تقليم أظافر إيران في العراق وبعدها في اليمن، ومن ثم يمكن التفكير في التوصل إلى توازن في القوة يسمح بالانتقال إلى حالة من الاستقرار .

منذ الآن أصبح على دول المنطقة أن تعتمد على نفسها في استعادة الخلل الحاصل في موازين القوى في المنطقة حيث تمكنت إيران من احتلال مساحات واسعة من فراغ القوة الذي حصل بعد حرب العراق ثم الانسحاب والإنكفاء الأميركي .

ومثلما يتزايد الوعي بتلك الحقيقة يتزايد الوعي بأن نقطة البداية لايمكن أن تكون سوى في سورية. وبدون حل القضية السورية بصورة جذرية لايمكن حتى مجرد التفكير باستعادة التوازن في المنطقة والانتقال نحو حالة من الاستقرار.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى