في الثالث من الشهر الجاري أنهت حرب بوتين على أوكرانيا يومها المئوي، أطل في آخره الرئيس الأوكراني محاطاً بفريق عمله، ليقول بأن كل الفريق “هنا”، لكن الأهم هو “أن الجيش الأوكراني، أوكرانيا، “هنا”. ويضيف 100″ يوم ونحن ندافع عن أوكرانيا، المجد للشهداء، المجد لأوكرانيا، سننتصر”. في المقابل قال الناطق بإسم الكرملين في هذه المناسبة بأن الهدف الأساسي لعملية الدفاع عن سكان جمهوريتي الدونباس الإنفصاليتين… وتم بلوغ “نتائج معينة”.
رمز حرب بوتين على أوكرانيا الحرف Z أصبح خلال المئة يوم خارج روسيا مادة سخرية عميقة، تجمع بين عمق الدلالة السياسية وشتيمة الشارع الروسية الشهيرة بتعابيرها الجنسية الفجة. فقد نشر موقع قناة التلفزة الأميركية currenttimeالتي تبث من براغ نصاً بهذه المناسبة بعنوان تضمن شتيمة شارع مقزعة يتوسطها حرف Z كبير المقاس”piZdets”، أو 100 يوم من الحرب”، أي الخروج خالي الوفاض من مئة يوم من الحرب. وأشار الموقع إلى أن بوتين، وفي مقابلة مع قناة تلفزة روسية بمناسبة مئة يوم من الحرب، قال بأنه لا توجد مشكلة في تصدير الحبوب من أوكرانيا، بل أوكرانيا نفسها إفتعلتها بمساعدة الشركاء الغربيين. وعلق الموقع ساخراً: والحرب كما يبدو إفتعلتها أوكرانيا بمساعدة شركائها الغربيين.
موقع Kasparov المعارض نشر يوم المناسبة نصاً بعنوان “أوكرانيا تقاوم، وهذا يزرع الأمل”. قبل أن يترك الموقع النص بكامله لمدونات الناشطين (ليس من المؤكد أنهم جميعاً من الروس)، قدم له بكلمات معدودة قال فيها بأن السلطات لم تحظر على الإعلام الروسي عدم ذكر كلمة حرب واستبدالها بتعبير “العملية الخاصة” فقط، بل حظرت عليه أيضاً ذكر طول مدة الحرب.
وبعض ومما جاء في عشرات المدونات من سخرية لاذعة أحياناً، وصور مخيفة أحياناً أخرى:
مدون: العدوان مستمر، لكن عملية الكرملين الخاصة إنتقلت منذ زمن بعيد من مرحلة “كل شيئ يسير وفق الخطة” إلى مرحلة “حدث شيئ ما لم يكن بالحسبان”.
مدون آخر: حل اليوم المئوي للحرب في أوكرانيا. “العملية الخاصة” تسير وفق الخطة إلى درجة أن الكرملين حظر على البروباغندا التطرق إلى مدتها.
آخر: يحظر التطرق إلى: مدة الحرب؛ عدد القتلى؛ تسمية الحرب حرباً ـــــ واضح أن “كل شيئ يسير وفق الخطة”.
مدونة: 100 يوم من حدث مرعب، حيث قام بلد بتشويه الواقع حتى العبث، أنجب شراً زلقاً عميماً يدمر النور والمحبة، يُكره الناس على التصديق بأن الموت أفضل من الحياة.
نصوص الإعلام الرسمي لا تؤكد كلام الموقع السابق عن حظر ذكر مدة الحرب. فقد نشرت وكالة نوفوستي نصاً بعنوان “مئة يوم على العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا: متى ينتهي كل ذلك”. كتب النص بيتر أكوبوف الذي شملته الرزمة السادسة من العقوبات الأوروبية، والتي أعلنها الإتحاد الأووبي يوم مئوية الحرب بالذات. يقول الكاتب بأنه مر مئة يوم على العملية العسكرية في أوكرانيا، ولا أحد يعرف كم ستطول بعد. لكن العملية الخاصة لم تصبح حرباً لروسيا: فلا تعبئة عامة، لا تغيرات مهمة في نمط الحياة اليومية (بإستثناء الوضع في بعض المناطق المحاذية للجبهة وإقفال المطارات في جنوب البلاد)، لم يًرفع شعار “كل شيئ من أجل الجبهة، كل شيئ من أجل النصر”. وحتى توقف الرحلات الجوية مع الغرب لم يؤثر على الغالبية العظمى، ولم يؤثر سوى على نسبة ضئيلة “من مواطنينا”.
بعد الحديث عن هذه التأثيرات “البسيطة” للحرب على حياة الروس، يقول الكاتب بأن هذا لا يعني أن روسيا لا تتغير، بل تجري عمليات بالغة الجدية وتجري تحولات زلزالية في الوعي وفي نمط الحياة الروسي. لكن لم يتبلور معظمها بعد، ناهيك عن إضفاء الطابع الرسمي عليها في شكل توجيهات أو قرارات، غير أن حتميتها موجودة بالتأكيد، ويشعر بها المزيد من الروس.
“التحولات الزلزالية” التي يتحدث عنها أكوبوف ـــــــ التضامن والعدالة، الخدمة والمسؤولية، الإستقلالية والتركيز ـــــــ يرى أنها لم تصبح بعد الشعارات الرئيسية في حياة الروس، لكنها هي بالذات ستشكل المكون الرئيسي لنمط حياتهم الجديد. وهم لن يبلوروها “بعد النصر”، بل ستكون شرطه الرئيسي، لأن “العملية الخاصة” لا تمس فقط أوكرانيا والعلاقات مع الغرب، بل تمس روسيا نفسها أيضاً. ويستدرك بأنه لا يعني بكلامه القمع وتسكير البلاد، كما يقول “مناضلونا ضد النظام”، بل يقصد تشكيل نخبة جديدة، هيكل إجتماعي إقتصادي جديد، سلم قيم جديد. ونعت كل هذا بالجديد لا يعني إختراعه من الصفر، بل تاريخ روسيا “يمنحنا” خبرة هائلة “نستطيع” في حال إستيعابها الصحيح، صياغة ،معادلة روسيا” تلك التي ستكون على أقصى توافق مع “قيم حضارتنا، وتكشف عن إمكاناتها، وتجمع بين فرادتها والفعالية، والقدرة على الحشد مع الإبداع”.
الفرادة الروسية والتحولات الزلزالية في الوعي ونمط الحياة الروسي التي يتحدث عنها أكوبوف ويربطها ب”العملية الخاصة” في أوكرانيا، تمتد في جذورها إلى عالم الفاشيين الروس. فقد سبق أكوبوف بأشواط الدكتور في العلوم الفلسفية، مدير معهد Dynamic Conservatism فيتالي أفيريانوف في الحديث عن عمق التأثيرات الزلزالية للعملية، ليس في الوعي ونمط الحياة الروسي فحسب، بل وفي تاريخ روسيا أيضاً. فقد نشرت صحيفة الفاشيين الروس Zavtra في5 نيسان/أبريل المنصرم مقابلة مطولة ( أكثر من 8 آلاف كلمة) مع الرجل بعنوان “أوكرانيا ذريعة فحسب لحدث جلل”.
للرجل تهويمات “فلسفية تاريخية” عديدة، كما لكل أصحاب الفكر القومي الفاشي، سيما وأنه، إضافة لكونه مدير المعهد المذكور، هو نائب رئيس نادٍ يضم زبدة الإمبراطوريين الفاشيين الروس، بمن فيهم رئيس تحرير الصحيفة عينها. وليست أقل تهويماته إعتبار حرب بوتين على أوكرانيا حدثاً تاريخياً جللاً، و”الأخوة” الأوكران جزء من نواة “العالم الروسي”، وليسوا مجرد إمتداد خارجي له وأمة سلافية خارج عالم بوتين الروسي.
بعد الحديث عن قرار بوتين بالغزو أوكرانيا، رغم تردد كبار قادة روسيا من محيطه، وجه له مندوب الصحيفة سؤالاً ما إن كان يعتبر أن بوتين يعمل وفق منطق الأحداث التاريخية والإرادة الإلهية، وما إن كان قرار “العملية الخاصة” حتمية فرضها الرد على تحديات ما. رد أفيريانوف بأن جميع الأسباب المعلنة للقرار مثل الدفاع عن الدونباس، توسع الناتو، القنبلة النووية القذرة والكثير سواها، لا يشكل أي منها عاملا محدِداً بذاته. إنها الحالة (إتخاذ القرار بالعملية العسكرية) التي يجري فيها حدث تاريخي جلل يمكن أن نعثر على عشرات الأسباب له، لكن أياً منها ليس هو المحدد، لأن السبب الرئيسي يقع “وراء حدود المنطق العقلاني”، يكمن في مسار التاريخ.
يرى أفيريانوف أن إستعادة الأوكران إلى حضن “العالم الروسي” ليس سوى البعد الخارجي لما يجري في أوكرانيا. فهناك اتجاه أعمق بكثير يكمن وراء هذا، يتمثل في أن روسيا قبل العام 2022 كانت لا تزال أسيرة إعتماد شبه إستعماري على حضارة أخرى، وليست دولة قومية منفصلة. ويتعلق الأمر بالدرجة الأولى بالأموال ـــــ حبل السرة الذي يربط المستعمرة بالمتروبول. وقطع حبل السرة هو ثورة، هو تغير زلزالي هائل في السياسة الدولية، والأهم بالنسبة لروسيا هو إنطلاق عملية تطهيرها، وهي ستبدأ قريباً جداً تتغير بشكل حاسم. وأوكرانيا ليست هنا سوى ذريعة للحدث الجلل. إلا أنه يستدرك بأن أوكرانيا الذريعة (للحرب عليها) هامة للغاية، فهي عشرات الملايين من البشر”إخوتنا”.
المصدر: المدن