الدولة والسؤال المركزي للثقافة العربية

موريس عايق

مقدمة

ممّا يلفت الانتباه خلال الربيع العربي ضعفُ انخراط الأسماء الثقافية العربية الكبيرة والمُكرَّسة في الانتفاضات العربية، وضمور حضورها، حتى الرمزي منه. غاب المثقفون الذين بزغ نجمهم في النصف الثاني من القرن الماضي وسادوا الساحة الثقافية حتى أيامنا، فقد ساد التوجس من الانتفاضات العربية لدى النخب الثقافية عامةً، الأمر الذي تراوحَ بين اختيار الصمت والعزلة في أحيان كثيرة، وصولاً في أحيان أقلّ إلى عداء صريح للانتفاضات. بالمقابل، انحاز جزء أصغر من النخب الثقافية العربية إلى تلك الانتفاضات وناصرها، وانخرط بشكل فعال في نضالها ضد الأنظمة.

سبق وقُدِّمَت عدة تفسيرات لهذا الضمور والتوجس لدى النخب الثقافية العربية، فتارة فُسِّرَت بالطائفية، تحديداً فيما يخص المشرق العربي، أو بالموالاة للسلطة. لكن هذه التفسيرات لا تفيد في الشرح أو التفسير، بقدر ما تقوم بتعمية الوضع. ذلك أن التفسير الطائفي لا يشرح مواقف نخب ثقافية عديدة تنتمي إلى الطائفة المنتفضة نفسها بحسب السردية الطائفية للثورة. يميل التفسير الطائفي إلى تطييف مواقف مترسخة في تقاليد ثقافية، وذلك بدلالة الانتماء الديني والمذهبي للمثقف. مثلاً، تطييف المواقف السلبية تجاه التقليد الإسلامي السنّي في عمومه في مقابل الانحياز إلى التقاليد الشيعية والخارجية، واعتبار أنَّ هذا الموقف طائفيٌ يُفسِّر موقفَ المثقف الآن (وهو ما أَخذه البعض على أدونيس مثلاً). يتناسى هذا التفسير أن هذا الموقف ساد منذ الستينات لدى النخب اليسارية العربية عامّة، أياً كان الأصل الديني والمذهبي للمثقف، دون اعتباره موقفاً طائفياً، إذ نجده مثلاً لدى طيب تيزيني والمؤرخ محمود اسماعيل. كذلك يصدق الحال على التفسير بموالاة السلطة، حيث تجد مثقفين أصبحوا فجأة -تبعاً لهذا التفسير- مثقفي سلطة، بعدما قضوا ردحاً من أعمارهم في السجون أو المنافي الحقيقية أو الاختيارية، مع تاريخ مُناهَضَة طويل للأنظمة العربية.

إن الفكرة التي يهتدي بها هذا المقال هي أن العلاقة الشائكة والمتوجسة، التي ظهرت بين المثقف العربي والانتفاضات العربية، ناشئةٌ عن الأسئلة المركزية التي يفكر المثقف العربي انطلاقاً منها، إذ تُشكِّل هذه الأسئلة أفق التفكير الخاص بالمثقفين والمشتغلين بالفكر في منطقةٍ وحقبةٍ ما. إن إدراك طبيعة هذه الأسئلة هو الذي يُتيح لنا فهم هذه العلاقة المتوجسة بين النخب الثقافية والانتفاضات، وهو بدوره ما قد يكشف لنا عن الحاجة إلى طرح أسئلة مغايرة ومسارات أخرى، ربما تقودنا إلى طرح معضلات مختلفة بدورها عمّا طرحته النخب الثقافية مراراً، وبالتالي تقدم لنا أفقاً جديداً للتفكير في حالنا وتساعدنا في الإمساك بمعضلاتنا بطريقة مختلفة.

الأطروحة

أطروحة المقال هي أن موقف المثقف العربي من الانتفاضة العربية يجد تفسيره في السؤال المركزي للمثقف العربي، الذي يشغله ويفكر فيه وعَبرَه: سؤال الهزيمة (وهناك صيغٌ أخرى مرتبطة بها مثل: التخلّف أو التأخّر). هكذا تصير مهمة المثقف الإجابة عن سبب هذه الوضعية أمام الآخر (التخلّف أو الهزيمة) وكيفية تجاوزها، وهي إشكالية تقوم على وجود الآخر وجوباً، فالهزيمة أو التأخّر هي وضعيات تُعرَفُ بالنسبة إلى آخر، هو في سياقنا هذا الغرب منذ القرن التاسع عشر. إن صياغة الإشكالية المركزية للسياق العربي بوصفها إشكالية هزيمة تستدعي فاعلاً مركزياً قادراً على الحشد والتعبئة لتجاوز الهزيمة، عبر التحديث مثلاً، وهذا الفاعل هو الدولة. الدولة هي أساس الفاعلية التي يُعوِّلُ عليها المثقف العربي في إنجاز المهمة، وذلك بمعزل عن الصياغة الإيديولوجية المحضة التي تغلف الإشكالية نفسها.

تتباين الصياغات الإيديولوجية للإشكالية بين ماركسية عالمثالثية وقومية وإسلامية وحتى ليبرالية. وبحسب هذه الصياغات المختلفة، يتباين تصوّرنا للنّحن (عرب، مسلمون، عمال وفلاحون) أو للآخر في مواجهتنا (غرب، صليبي، إمبريالية)، كما تختلف طبيعة إدراكنا للتخلّف (التخلّف قياساً بالغرب، أو التخلّف قياساً بابتعادنا عن الإسلام الحق وإن كنا ندركه في مرآة هزيمتنا أمام الغرب)، وتختلف حتى أسباب هذا التخلّف (الجهل، التراث، الهيمنة الطبقية، الابتعاد عن الإسلام الحقيقي، الاستعمار). لكن هذه التباينات الشديدة للصياغات المختلفة تقتصر على المحتوى العياني للمدلولات، فيما البنية القارّة للإشكالية هي ذاتها: «نحن»ُ ما، تعيشُ الهزيمة أمام آخرٍ ما لأن هذه النّحنُ بعيدةٌ عن واقعٍ معياريٍ ما، والمَّهمة هنا هي ردم الهوة التي تفصل بين هذه النّحن وهذا الواقع. 1 وهذا الردم للهوة يتم بفضل أداة قادرة على التعبئة والحشد والتربية والتغيير، بما يُمكّننا من تحقيق الشروط الضرورية لتحصيل القوة والشكيمة. هذه الأداة هي الدولة التي يُمكنها وحدها إنجاز هذه المهمة بفضل ما تملكه من وسائل القوة والسيادة في نظام الدولة الوطنية، ما يجعل من الدولة الشرط الضروري لإطلاق العملية.

التحديث كإيديولوجيا دولة

في عمله الكلاسيكي والمفصلي في تاريخ الثقافة العربية: الإيديولوجية العربية المعاصرة،2 يُقدِّمُ عبد الله العروي مجموعة المعضلات الأساسية التي يفكر فيها المثقف العربي: الأصالة والاستمرار والكونية والتعبير، التي هي تجليات مختلفة لإشكالية التخلّف في مواجهة الآخر. في مواجهة هذه المعضلات يستعرض العروي ثلاثة أنماط للمثقف العربي، هي الشيخ وداعية السياسة وداعية التقنية، بوصفهم نماذج معيارية للتعامل مع المعضلات المطروحة على المثقف العربي، وهي تفسيرُ تأخرنا وكيفية التعامل معه بما يفيد تجاوزه. إن نقد العروي لتمثّلات الإيديولوجيا العربية ليس نقداً لأسئلتها نفسها، بقدر ما هو نقد لقصور إجاباتها عن هذه الأسئلة، مقدماً مقترحه المتمثل في الماركسية الموضوعية التي تتلاقي في أوجه منها مع الدعوات الإيديولوجية السابقة عليها، بحيث تشكل الأفق الذي يصهر هذه الدعوات جميعها لتقدم برنامجاً تحديثياً للدولة القومية. فالعروي لا ينقد أو يفكك أسئلة الثقافة العربية نفسها، وهي الأسئلة التي رصدها بشكل مجرد باعتبارها تعبيراً فكرياً عن الإشكالية التاريخية التي تواجهنا. فوظيفة النقد هنا هي عملياً الإمساك أساساً بهذه الأسئلة بدقة باعتبارها أسئلة تفرضها الوضعية التاريخية، وإيصالها إلى نهايتها المنطقية، ومن ثم نقد وتفكيك الإجابات القاصرة المُقدَّمَة على هذه الأسئلة بغرض الوصول -عبر النقد- إلى البرنامج المطابق لوضعيتنا التاريخية، وبغرض تجاوز التخلّف. معضلة العروي التي ينظم تفكيره حولها لم تكن مغايرة للمعضلة التي تناولتها تيارات الإيديولوجيا العربية المرصودة، فاقتصر التباين على مستوى الإجابة وليس على مستوى بنية الإشكالية نفسها (السؤال المركزي)، باعتبار أن الإشكالية التي تفكر فيها الثقافة العربية هي إشكالية موضوعية يفرضها واقعنا التاريخي نفسه. فالعروي إذن يبقى في إشكالية الإيديولوجيا العربية نفسها، ولا يخرج عنها.

النظر إلى الثقافة العربية باعتبارها ثقافة مُتمحورة حول إشكالية التأخّر والهزيمة يجعل من الدولة جسر عبور لازم لأي مشروع تحديث، أو بشكل أدق، إن التفكير في المسألة بوصفها ضرورة التحديث وتجاوز الهزيمة يجعل من الدولة أمراً لا مفر منه، فهي المعبر الحتمي لتحويل أي برنامج إلى واقع. مركزية الدولة هي النتيجة اللازمة لإشكالية الثقافة العربية بوصفها تساؤلاً حول تجاوز الوضعية التاريخية للهزيمة والتأخّر، وهذا ما يجعل من المثقف العربي مثقفَ دولةٍ بالضرورة، ينظر إلى الدولة من خلال صورتها الذاتية عن نفسها بوصفها الفاعل الأكثر عقلانية، إن لم يكن العقلانيَ الوحيد. هذا ما يجعل من الدولة ضرورة حتمية للتجاوز، ذلك أن اقتصار التباين على منهجية الإجابة لدى العروي يحفظ مركزية الفاعل أو الأداة التي عليها أن تنقل هذه الإجابة/البرنامج إلى حيز التنفيذ، وهي الدولة القومية التي تقوم بتوحيد مجتمعها وتحديثه، وهذا طبعاً بتوسّط المثقفين أنفسهم كطليعة.

بناء على ما تَقدَّم، فإن المثقف العربي هو مثقف دولة بالمعنى المعياري للدولة، وليس مثقف دولة مُتعّينة، وهذا ما يعطيه فسحة ليكون ضد الدول الواقعية بشكل جذري، لأنها لا تتطابق مع الأُمثولة التي يحملها عن الدولة. المثقف الإسلامي ضد الدول التي تدّعي الإسلام ليس لكونها دولاً، إنما لكونها لا تحقق أمثولة الدولة الإسلامية الحقّة. المثقف القومي ضد الدول التي تدعي القومية ليس لأنها دولٌ بل لأنها لا تحقق أمثولة الدولة القومية، وكذلك فإن المثقف التاريخاني ضد كل الدول ليس لأنها دول بل لأنها لا تحقق الأمثولة الخاصة بالتحديث. يمكن للمثقف العربي، من جهة أولى، أن يكون ضد الدول العربية الواقعية، ولكن ليس ضد الدولة باعتبارها الأداة التاريخية للتحديث.

بالمقابل، يحتفظ المثقف بتوجس من «المجتمع» أو «الشعب» (حاف بدون قيادة ثورية طليعية) لأن هذا الشعب هو موطن التأخر وموضوع التحديث. يقدم الراحل جورج طرابيشي مثالاً ممتازاً لمعضلة المثقف أمام اندفاعة الشعب في مقالات ثلاث كتبها خلال السنوات الأولى للانتفاضات العربية: تاريخ صغير على هامش تاريخ كبير وسوريا: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء وست محطات في حياتي. فطرابيشي «الرازح تحت وطأة الشعور بالفوات التاريخي العربي» والمتفاجئ من هذه الثورات، أَمِلَ في أن تكون الانتفاضات العربية امتداداً للثورات الديمقراطية التي عرفها العالم منذ الثمانينات، وعلى مثال ربيع الشعوب 1848. لم يكن لدى طرابيشي، بدوره، أية أوهام تجاه الأنظمة العربية وطبيعتها، وتحديداً السوري منها وهو يُذكّر بتجاربه الخاصة معه. لكن في الوقت نفسه، كانت هناك خشية وتوجس، عززتهما تجربة الثورة الايرانية ومآلاتها، من أن يكون مصير هذه الثورات هو الحرب الأهلية والرِدّة إلى الوراء (وهو يُذكّر بأحد عناوين طرابيشي: من النهضة إلى الرِدّة). الصمتُ الذي لاذ به طرابيشي لاحقاً هو تجلّ للمعضلة التي وجد طرابيشي نفسه فيها، وهي وضعية فوات تاريخي تقتضي التفكير بالتجاوز والنهوض التاريخي، والدولة أداةٌ لتحقيق هذه النهضة، لكن الدولة العربية الواقعية أبعدُ ما تكون عنها إن لم تكن خيانةً تامةً لها. وأخيراً هناك الشعب الذي ينتفض، غير أن هذا الشعب هو موطن الفوات والتأخّر، وبالتالي موضوعٌ للعلاج والتحديث، مما يستدعي التوجس من النتيجة التي قد تؤول إليها الأحداث. الصمت (والعزلة والانتظار) هو الممكن الوحيد أمام هذه المعضلة.

المسألة التي تجب الإشارة إليها هنا هي أن الأمر لا يدور حول كون طرابيشي مُحِقّاً في تحليله أم لا، ولا فيما إذا كان تطور الأحداث قد أنصف موقف طرابيشي. بل إن ما يعنينا هنا هو بنية التحليل التي فرضت الصمت على صاحبه في أفضل الأحوال، 3 فلا إمكانية أخرى تتجلى للمثقف العربي انطلاقاً من هذه المعضلة التي يؤسس تفكيره عليها.

هذا الفهم يسمح لنا برفض أشكال مبتذلة من مُقارَبة مواقف بعض المثقفين، كاتهامهم بالطائفية أو بموالاة السلطة، إذ ربما يكون المثقف في الواقع ضد الاثنين لكنه مثقفُ دولة، وبالتالي ما يعجز عنه المثقف هو النظر إلى الدولة -نظام مراكمة وتوزيع السلطة- بوصفها أصل الداء وليست الدواء، الدولة بوصفها دولة وليس لأنها شكل سيء لما يجب أن يكون. أو بتعابير الياس مرقص، ما يعجز عنه المثقف العربي هو أَشكَلةُ الدولة، وليس أَشكَلةَ صفاتها فقط.

مركزية الدولة بوصفها أداة لتغيير المجتمع تدفع أيضاً إلى تبني تصورات محددة عن شكل هذه الدولة ونظامها، وهذا ما يُفسّر التوجسَ الهائل تجاه الفيدرالية على سبيل المثال (حتى وإن وُضِعَ في إطار تخييلات غير معقولة). تجد مركزيةُ الدولة تعليلها في طبيعة المهمة الملقاة على عاتق الدولة، المهمة التي تستدعي امتلاك قوة هائلة وعظيمة، وخاصةً تجاه مجتمعها الذي يجب تغييره. بالمقابل تبدو الفيدرالية متصالحة مع المجتمع المتنوع والمنقسم على سويات متنوعة، لا تهدف إلى تغييره، بل إلى تعزيزه، وتحديداً تعزيزَ انتماءاته واختلافاته (التي قد تكون أصلاً في «تَخلُّفه») في مواجهة الدولة، وحمايتها من داخل نظام الدولة نفسه. الفيدرالية تحمي الطوائف الدينية، الأمراء، الهويات المحلية للمقاطعات، الجماعات الإثنية. الدولة المركزية تفرض التجانس والقانون الموحد، الدولة المركزية مشروعٌ تحديثي حصراً (تاريخياً تعززت الدولة المركزية بشكل منتظم مع كل الثورات والثورات المضادة، ولكنها أساساً كانت حاضرة في كل المشروع التحديثي من اليعاقبة إلى الاصلاح القانوني لنابليون وصولاً إلى دولة البلاشفة).

تُساعد مركزية سؤال الهزيمة والتأخّر في إيضاح التباين بين النسخ العربية من إيديولوجيا ما ونظيراتها الغربية. فالمثقف العربي وهو يفكر في إيديولوجيته الخاصة (ليبرالية أو اشتراكية) يبقى يدور حول معضلة التأخّر، بمعنى أنه يستخدم التنوعات الايديولوجية للإجابة عن سؤال التأخّر. فيما يغيب عن المثقف العربي السؤال المركزي الذي انتظمت عليه الإيديولوجية التي يُحيل إليها ويَنهل منها في موطنها الأصلي، لأنه خارج الإشكالية التي يواجهها المثقف العربي. فالليبرالي الغربي يفكر في الفرد وحمايته سواء من الدولة أو المجتمع، فيما يتحول الليبرالي في الحالة العربية إلى مشروع تحديثي تحمله الدولة وتفرضه على مجتمعها لحماية الأفراد، وحتى خلقهم عنوة من الجماعات الأهلية التي تشكل مادة المجتمع المحلي. فالليبرالي العربي المعاصر يستغيث بالدولة لحمايته من مجتمعه المتخلّف، ويستعين بها لفرض تربية ليبرالية على المجتمع وغرس القيم الليبرالية لدى الأفراد، وبهذا تتحول الليبرالية العربية إلى مسخ ليبرالي سلطوي، يحمل بذور تدميره في ذاته.

الربيع العربي في مواجهة الدولة

نأتي إلى الجزء الثاني من الحجة المُقدَّمة هنا، وهي أن الإشكالية التي واجهت الربيع العربي ليست في وضعية التأخر التاريخي بل في العلاقة مع السلطة، وبالتالي العلاقة مع الدولة باعتبارها دولة/سلطة. لم ينتفض العرب من أجل الأمة أو الهزيمة أو الوحدة، إنما من أجل الحرية والعدالة، أي من أجل قيم لا تجد مكاناً لها في السؤال المركزي للثقافة العربية كثقافة تفكير في وضعية التأخّر التاريخي. الحرية في مواجهة السلطة هي سؤالٌ فردي إلى حد كبير، لا يدور حول الـ «نحن» وواقعة التأخّر، إنما يتمحور حول قضية أفراد يرغبون بحياة كريمة في مواجهة دولة مستبدة. المسألة المركزية خفتت، إن لم تُلغ كليّةً، والمثقف العربي ليس لديه هنا تحديداً ما يقوله. لكن الأمر يُظهِر أن هناك مشكلة أعمق قليلاً أثارها الربيع العربي أمام المثقف، لا تتوقف عند غياب إمكانية صياغة هموم الربيع العربي من داخل سؤاله المركزي، بل إن الربيع يطرح شكّاً عميقاً حول الفاعل التحديثي الذي يبطنه المثقف العربي وإشكالية التأخر التي يفكر فيها: الدولة.

لقد شغلت الدولة العربية موقعاً مختلفاً تماماً في الوضعية التاريخية والمسألة التي واجهت الربيع العربي، فالدولة هنا صارت جزءاً من المشكلة وليست الحل أو الفاعل التحديثي. الدولة صارت سلطة مهولة تقمع وتستبد بمجتمعاتها، والتحدي المطروح على هذه المجتمعات هو لجم هذه السلطة وتقييدها وإخضاعها لشروط منبثقة عن أسئلة الحرية والكرامة والشرعية، وليست فاعلاً تحديثياً خاضعاً لشروط تجاوز وضعية التأخّر التاريخي. هذا لا يعني بالضرورة أن إشكالية الربيع العربي كانت واعية وواضحة الحضور في أدبيات وتفكير المنتفضين، لكنها ضرورية حتى وإن كانت الصياغة الواعية والواضحة للإشكالية غائبة، تماماً مثل وضعية التأخّر التاريخي، التي رصدها العروي كتأسيس لأسئلة الثقافة العربية حتى لو تُصَغ بشكل واعٍ إلى النهاية لدى المثقفين أنفسهم. ولعلّ غياب الصياغة الواضحة لإشكالية الربيع العربي في مواجهة الدولة يكون سبباً من أسباب الهزيمة (فكرة مقالي السابق)، لكنها تبقى نتيجة لازمة لطبيعة الانتفاضة كانتفاضة حرية في مقابل السلطة.4

سلبيةُ المثقف العربي ناتجةٌ عن طبيعة السؤال الذي يفكر فيه، وعن مغايرته لسؤال الانتفاضة. سؤال التأخّر (يستلزم دولة) في مواجهة سؤال الحرية (يستلزم مواجهة الدولة).

يقدم برهان غليون أحد النماذج القليلة للمثال المضاد المنخرط تماماً في الربيع العربي، والذي مارس حتى دوراً سياسياً ناشطاً في الانتفاضة السورية. إن تناول مشروع غليون الفكري يوضح بدوره هذا التباين، ويُظهِرُ بشكل جلي التمايزَ بين الإشكالية التي بنى غليون عليها مشروعه والإشكالية المركزية التي شغلت المثقفين العرب الذين جايلوا غليون.

لا ينتظم المشروع الفكري لغليون على سؤال التأخّر والهزيمة، إنما يؤسس غليون مشروعه على علاقة التضاد والإخضاع بين الدولة العربية الحديثة وشعبها.5 يشير غليون إلى الإشكالية المركزية للمجتمعات المتأخرة، دخولها إلى العصر الحديث، وانطلاقاً من هذه المهمة تظهر الدولة التحديثية بوصفها الأداة الحاسمة لتحقيق هذه المهمة. ومهمة الدولة التحديثية هي تحديث مجتمعها الذي أصبح بدوره موضوعاً لها، وصارت هذه المهمة نفسها مصدر شرعيتها وهو ما يتنافى مع التمثيل كتعبير ومصدر للشرعية. فيصير التحديث والفاعلية التاريخية، وليس التمثيل، مصدرَ الشرعية ومُسوّغَ تدخل الدولة، حتى العنيف، في مجتمعها وتغييره وإعادة قولبته. هذه المهمة التحديثية للدولة تتطلب بدورها مراكمة قدر هائل من القوة والسلطة إلى جانبها، ورفض أي تقييد لهما، بهدف تحقيق الغاية التاريخية الجسيمة الملقاة على عاتق هذه الدولة، بما يجعل منها دولة شديدةَ المركزية واستبداديةَ النزوع. غير أنه مع فشل مشاريع التحديث الحقيقية، تؤول الدولة التحديثية (بيروقراطيتها ومرتكزاتها المؤسسية العميقة) إلى قاطع طريق يعيش على انتزاع الخِراج من الشعب باسم التحديث نفسه، فتصير الدولة التحديثية حامية لسلطة النخب الطليعية الحاكمة باسم التحديث نفسه، وتصير الحداثة وقِيمُها ستاراً إيديولوجياً لتبرير تسلّط الدولة، التي لا تتورع عن استخدام العصبيات الأهلية لدعم تسلطيتها وتمزيق مجتمعها. فالتحديث، مناط الإيديولوجية العربية، انقلبَ لدى غليون إلى إيديولوجيا دولة تُشرعِنُ استبدادها باسم هذا التحديث.

في حين انطلق المثقف العربي من إشكالية الهزيمة أمام الآخر، وبالتالي كيفية تجاوزها، الأمر الذي جعل من الدولة أداة ضرورية، انقلبَ الأمر لدى غليون، ليبني إشكاليته على طبيعة العلاقة التسلطية التي تجمع الدولة بمجتمعها انطلاقاً من الحاجة إلى التحديث. فالحاجة إلى الانخراط في العالم الحديث، وإن كانت حاجة لا يُنكرها غليون، لم تَعُد هي السؤال المركزي، بل انحسر دورها في شرح مفارقة نشوء الدولة التحديثية التسلطية وتسويغ هذا التسلط على مجتمعها. هذا التحوّل في طبيعة السؤال ومسائلة «الرسول» التحديثي هو ما دفع إلى اعتبار مشروع غليون مشروعاً شعبوياً، وهو الاتهام الذي اعتاد مثقفون كُثُر على كيله لمشروع غليون، الذي لديه تقوم المواجهة بين الدولة والشعب. أي أن المثقف، غليون، الذي انخرط بحميّة في الدفاع عن الانتفاضة، هو المثقف الذي انطلق من سؤال مختلف يرى فيه أن الدولة هي المشكلة، وهو ما جعل الآخرين يعتبرونه شعبوياً. عند غليون لا تظهر إشكالية التأخّر أو التخلّف، وبالتالي لا حاجة صريحة للتحديث بوصفه تجاوزاً لواقع تاريخي إلى آخر. على العكس تظهر المسألة مقلوبة، أي أن التحديث يصبح إيديولوجية تُشرعِنُ استبداد الدولة بمجتمعها.

خاتمة

على سبيل الخلاصة، غياب المثقف لا يعود إلى سوئه، إنما إلى طبيعة السؤال المركزي الذي انتظمت حوله الثقافة العربية بوصفه سؤال التخلّف، وهذا يجعل من الدولة أداة ضرورية لا غنى عنها لتجاوز التخلّف. وبالتالي فإن المثقف العربي بالضرورة هو مثقف دولة بالمعنى المعياري للدولة. الانتفاضات العربية قدمت سؤال مغايراً هو سؤال الحرية في مواجهة الدولة، بما جعل من الدولة جزءاً من المشكلة التي تحتاج إلى حل وليست حلاً لأي شيء. من ناحية أولى، نحن نقف أمام سؤالين مختلفين وهذا يشرح الغياب، ومن ناحية ثانية -وبشكل أكثر جذرية- يختلف موقع الدولة في الصياغتين وينتقل إلى النقيض، وهو ما يشرح إلى حدّ ما التواطؤ أو التوجس الثقافي من الانتفاضات العربية. فالدولة، التي هي معقد أمل الإيديولوجيا العربية في إنجاز التحديث، تحولت إلى أساس المشكلة في سياق الربيع العربي، لتصيرَ المهمةُ مواجهتها ومنازعتها وحتى تحطيمها. سَلَبَ الربيعُ العربي المثقفَ العربي أداته التاريخية التي يُعوّل عليها من أجل تحقيق مشروعه وتحويله إلى واقع، أياً تكن الصيغة الإيديولوجية الصرفة لهذا المشروع.

ما أود التأكيد عليه، مرة أخرى، أن المحاججة هنا ليست حول صواب التحليلات العينية للربيع العربي التي قدمها هذا المثقف أو ذلك، من هذا التيار أو ذلك، ومدى صدق توقعاته أو عدمها. بل إن ما يعنينا هنا هو الكشف عن السؤال المركزي الذي ينطلق منه هذا المثقف أو ذاك لدى نظره في أحوالنا، والمنظور المترتب على هذا السؤال وما يحتويه من خيارات ومُمكنات.

هل يعني هذا أننا سنكون أمام إعادة تشكيل لأفق جديد للتفكيرانطلاقاً من تحوّلٍ في السؤال المركزي الخاص بالتخلّف إلى آخر يدور حول الحرية؟ ممكن، خاصة أنه شرط ضروري لأي تحرير وتحرر. لكن أليس واقع التأخّر والتخلّف حقيقياً وطاغياً إلى درجة تستعصي مغادرة السؤال؟ أيضاً صحيح. غير أن سؤالاً متمحوراً حول التحديث لا يقدم الحرية إلا بوصفها تفصيلاً، وربما تفصيلاً يجب تغييبه باسم الضرورة والعقل وحتى حماية هذه الحرية من الجهل. أليس هناك إمكانية لجمع سؤال التحرّر مع سؤال التأخّر في صيغة مشتركة دون غلبة لأحدهما؟ ربما، لكن هذا يعني محاولة التوفيق بين الدولة التحديثية من جهة والدولة التمثيلية من جهة أخرى، ألا يحيل هذا الجمع إلى تناقض ذاتي؟

لكن المؤكد أن دوراً للمثقف في سعي الشعوب العربية للظفر بالحرية، ومكانةً تشبه التي سبق له أن شغلها، مشروطتان بقدرته على تجاوز المعضلة التي شغل نفسه بها دوماً، التأخّر والهزيمة، وبأن يحاول البدء بتأسيس معضلة مركزية أخرى (إيديولوجيا عربية جديدة) انطلاقاً من سؤال الحرية وما يطرحه من معضلات. وهذا مهمة الجيل الجديد!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.في كتاب الإيديولوجية العربية المعاصرة، الطبعة الأولى (1995)، صفحة 141، يقول عبد الله العروي إن كليّ السؤالين: من نحن؟ من الآخر؟ يعنيان في الحقيقة سؤال: ما العمل؟

  1. مضى على هذا أكثر من نصف قرن، ولكن رغم هذا تبقى الإشكالية التي ينظر فيها معاصرةً تماماً. وهذا ما يمكن استكشافه من عناوين المشاريع الكبيرة (والمؤلفات) للمثقفين العرب خلال العقود التي تفصلنا عن عمل العروي، مثل جورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وغيرها. وحتى الأعمال الفكرية التي تناولت أسئلة الإصلاح الديني والقراءة الحديثة والمعاصرة للقرآن انطلقت بدورها من أسئلة التأخّر كوضعية تاريخية لتجاوزها، مثل أعمال نصر حامد أبو زيد وعلي مبروك.

3.في مقابل الصمت انحازَ عددٌ أقلّ إلى الأنظمة بدعوى أنها تمثل الدولة وسيادتها ومشروعها التوحيدي في مواجهة الطبيعة التفتيتية والمتأخرة للمجتمعات. مثل عبد الإله بلقزيز، وهو ما يمكن قراءته في عمل سابق زمنياً على الانتفاضات العربية هو كتاب الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، 2008. تحت غلالة مقاربة علمية ونظرية للدولة ومفهومها، يقدم بلقزيز تصوراً دولتياً للدولة، الفاعل التوحيدي والعقلاني في مواجهة المجتمع (الذي لن يصبح مجتمعاً حقاً إلا من داخل الدولة) المنقسم والمفتت والمتأخر. حتى أن عدداً من الفقرات يمكن الاستعانة بها في تأييد وتبرير ما تخوضه الدولة من حروب ضد بعض جماعاتها باسم الوحدة الوطنية. الجيد أن هذا النزوع الدولتي بقي محدوداً، وبقيت الدولة بالنسبة للمثقّف في إطار معياري ومتسق مع نموذج الحداثة التي يحملها ما سمح له بالاحتفاط بمسافة، شاسعة في أحيان كثيرة، مع الدول العربية الواقعية.

  1. في الفترة الفاصلة بين سقوط الاتحاد السوفياتي والانتفاضات العربية، ظهرت لحظة فكرية طويلة تناولت قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. بالطبع يمكن النظر إلى هذه الأدبيات على أنها تضادٌّ مع أطروحة هذا المقال، وأنها تحوّلٌ كبير حصل سلفاً في الثقافة العربية للخروج من كونها تفكيراً على هامش سؤال التأخّر التاريخي. أعتقد أن الرد هنا يحيل إلى نقطتين: الأولى أن هذا التحوّل كان مهماً إذ بفضله دخلت قيم أساسية في التمهيد للربيع العربي مثل حقوق الإنسان، حتى أن الحركات التي أطلقت الشرارة الأولى للربيع مثل «كلنا خالد سعيد» في مصر كانت تعبيراً عن هذا التحول الذي بدونه كان من المستبعد التفكير بالانتفاضات العربية أساساً. الثانية، أنه وبرغم الأهمية الكبيرة للتحولات التي طرأت خلال العقدين السابقين على الربيع، بقي الحراك سياسياً أكثر منه ثقافياً. على المستوى الثقافي، بقي التوجس من الديمقراطية وذلك بأثر من وضعية التأخّر، أو لأنها غير ممكنة الجمع مع خيارات إيديولوجية أساسية.

5.يمكن العودة إلى عدد من أعمال غليون، مثل نقد السياسة: الدولة والدين حيث يتناول إشكالية الدولة والإسلام السياسي عبر نقد مزدوج للدولة الوطنية ونخبتها المستبدة بالسلطة التي استخدمت الحداثة كإيديولوجيا لتبرير سطوتها، وأيضاً الحركات الإسلامية التي استخدمت بدورها الدين في مواجهة هذه السلطة وحوّلته بالتالي إلى أداة تنازع وتسلط في المجتمع. وأيضاً كتاب المحنة العربية: الدولة ضد الأمّة، وفيه يقدم غليون مفهوم الدولة التحديثية وعلاقة الإخضاع والتسلط مع مجتمعها، والعرض المقدم في هذا المقال يعتمد هذا العمل. وكتاب نظام الطائفية: من الدولة إلى القبيلة، الذي يتناول الطائفية بوصفها علاقة سياسية نشأت في الدولة القومية الحديثة بعدما تحولت الأخيرة إلى دولة تسلطية تمنع تداول السلطة ديمقراطياً، فصارت الطائفية أداة سياسية تساعد في تامين مدخل إلى السلطة بغياب نظام تداوليّ لها.

المصدر: الجمهورية. نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى