في إطار التجاذبات السياسية الحالية بين الأطراف السودانية المختلفة، يتداول الناس مقاطع توضح تناقضات السياسيين من قوى الحرية والتغيير، التي كانت تمثل الجانب المدني في النظام السابق. وتوضح المقاطع المجمّعة، بشكل ساخر، كيف تبدّلت مواقف أولئك السياسيين وتغيرت وفق مواقعهم من السلطة، ابتداءً من المرحلة الثورية الأولى قبيل سقوط نظام عمر البشير وبعده، ومروراً بالفترة التي كانوا فيها على سدّة الحكم، ونهاية بمرحلة السقوط عقب حل الحكومة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما تلا ذلك أيضاً من تحوّلاتٍ ضمّت كثيراً من التشدّد الظاهري في البداية، قبل أن تتحوّل إلى لين ومهادنة في آخر الأيام.
كانت أبرز النقاط التي حصل فيها تغير واضح في المواقف موضوع العلاقة مع العسكريين، وخصوصا قوات “الدعم السريع” التي يقودها نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو. من سوء حظ سياسيي هذه الأيام أن التطوّر الرقمي وارتباطاته بالإعلام وبوسائل التواصل الاجتماعي جعل فضح أكاذيبهم أسهل، وأصبح من اليسير إيجاد دليل على أن هذا السياسي أو ذاك صاحب مواقف سائلة.
موضوع قوات الدعم السريع ليس الأمر الوحيد، لكنه الموضوع الذي تظهر فيه تناقضات المواقف جلية، فبعد استراتيجية خطابية اعتمدت التقليل من شأنها واعتبارها ظاهرة شاذّة تنتمي إلى إرث البشير الذي يجب كنسه ما لبث أن انتهى الأمر لكيل المديح لها ولقائدها الذي سينال كل عبارات الاحترام والتقدير في زمن حكم قوى الحرية والتغيير. لن يقتصر الأمر على الاحترام، بل إن الرجل سوف يتسلم، بطلب من حكومة “الكفاءات” في هذه القوى التي كانت تسعى إلى التقرّب منه، الملف الاقتصادي، الأهم والأكبر من بين ملفات الفترة الانتقالية.
سوف نرى في المقاطع القصيرة المتداولة، على سبيل المثال، القيادي في حزب البعث وجدي صالح بين موقفين، وهو يخاطب مجموعة من المستمعين ساخراً في الجزء الأول من قوات الدعم السريع التي تحدّث عن إجرامها وانتهاكاتها، في حين يظهر في الجزء الثاني من المقطع وهو يحاول إقناع جمهور آخر من المستمعين بأهمية هذه القوات، وكيف أنها أصبحت جزءاً من المعادلة السياسية والأمنية في السودان. كان الموقف الأول في لحظة حشد، ومحاولة لإظهار عيوب نظام البشير، في حين كان اللقاء الثاني عقب الشراكة المدنية العسكرية التي منحت أحزابا كثيرة مغمورة فرصة نادرة للظهور. المفارقة أن أولئك السياسيين كانوا يتحدّثون، حتى وقت قريب من توقيعهم على اتفاق الشراكة مع المجلس العسكري، إن قبولهم بالعمل تحت مظلة العسكريين مستحيل، كما أنهم كانوا يتبنّون، بشكل واثق، خطاباً عاطفياً راديكالياً يتركّز حول الحديث عن جرائم العسكريين، ويطالب بمحاكمتهم، بل وتفكيك المنظومة العسكرية وإعادة هيكلتها وبنائها.
أما الموقف الثاني الذي تحوّل فيه الانتقاد إلى مدح، فكان في ظل الشراكة و”التناغم” بين ائتلاف قوى الحرية والتغيير والشق العسكري. مع تبدل الحال، كان من المهم إقناع الثوار والناشطين بأهمية دور العسكريين في إنجاح الانتقال، لينتقل الطموح من وعود بفترة انتقالية مدنية كاملة إلى فترة خليط بين العسكريين وبعض الأحزاب التي سوّقت نفسها ممثلا وحيدا لكل التيارات والأحزاب.
تكرّر الكذبات جعل أناسا كثيرين لا يثقون في وعود السياسيين. ولذلك، التصريحات الغاضبة التي أطلقها أعضاء قوى الحرية والتغيير، عقب إزاحتهم عن الحكم، قالوا فيها إنهم لن يعودوا إلى الحوار أو الشراكة مع الطرف العسكري لم تؤخذ على محمل الجد، في حين فضل ناشطون أن يعملوا عوضاً عن ذلك على تأسيس كيانات سياسية بديلة وقادرة على تمثيلهم وتوصيل ما يطلبونه.
يرى أولئك الناشطون أنه لا ضمان، إن سلموا أنفسهم مرّة أخرى للتحالف القديم، أن لا يجري التنكّر لمطالبهم، فخلال أكثر من عامين من السيطرة على مقاليد الأمور، لم تبد قوى الحرية والتغيير جادّة لا في تأسيس حكم مدني خالص، ولا في التحضير لانتخابات نزيهة، ولا حتى في تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة، كما أنها لم تكن جادّة في إيجاد أوعية مناسبة للتشاور الشعبي، سواء عبر تشكيل برلمان أو اللجوء للتصويت أو الاستفتاء، فكانت قرارات مصيرية تتخذ ضمن دوائر ضيقة نافذة. ويدرك معظم السودانيين اليوم أن المسألة بالنسبة لغالب السياسيين التقليديين هي مصلحة شخصية أو حزبية، وأن الصوت الثوري عندهم يتلاشى بمجرّد الحصول على نصيب في السلطة، وحينها لن يكون أسهل من نسيان جميع من جعلوا ذلك الوصول ممكناً.
للإنصاف، ليست مسألة التلوّن وفق الظرف السياسي مقتصرة على جماعة سياسية دون أخرى، فإن كان السياق تركيزا على نقد تجربة تكتل قوى الحرية والتغيير، إلا أن ذلك لا يعني أن منافسيها من الأحزاب والتيارات الأخرى كانوا صادقين على الدوام، أو أن مسيرتهم خلت من ممارسة ما يمكن تسميته الخداع الانتخابي الذي يُستخدم من أجل جمع أكبر قدر من الناس، وإقناعهم بالطرح المقدّم. يصعُب أن نجد سياسياً لم يلجأ إلى ممارسة خدع تكتيكية يستخدم فيها ما يدغدغ مشاعر المستمع من طموحات مطلبية، من دون أن يكون جادّا في تطبيقها حينما تتاح له الفرصة. في هذا، تخبر التجربة أن أغلب الشعارات التي ترفع في لحظات التحشيد لا تستخدم سوى للمتاجرة. شبيهة بهذا الصورة الكلاسيكية للبرلماني الذي يحاول الحصول على أصوات الناس من خلال وعود بتحسين حياتهم، ثم لا يراه أولئك الناخبون إلا بعد سنواتٍ حين يترشّح لدورة جديدة.
في العام 2013 أصدر أستاذ العلوم السياسية الأميركي جون ميرشيمير كتابه الطريف “لماذا يكذب القادة؟” (استوحي منه عنوان هذا المقال). بحكم اهتمام كاتبه بالدراسات الاستراتيجية، ركّز الكتاب على النطاق الدولي للكذب، كما ينبئ بذلك عنوانه الجانبي “حقيقة الكذب في السياسة الدولية”. وبالتركيز على المثال الأميركي، يضرب ميرشيمير مثالًا بحالة غزو العراق التي اعتمد فيها جورج بوش الابن سياسة الكذب على الجميع: المواطنين الأميركيين والدول الأخرى، وحتى العراقيين أنفسهم، والذين بدا كثيرون منهم مقتنعين بأن صدّام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل.
لم تتعلق الكذبة الأميركية فقط بامتلاك صدّام حسين سلاحاً نووياً، وإنما بشراكته مع أسامة بن لادن ومساندته له في هجمات سبتمبر/ أيلول. كانت تلك من أكثر الكذبات السياسية كارثيةً في التاريخ الأميركي الحديث، بحيث يمكن وضعها جنباً إلى جنب مع كذبة كل من الرئيس فرانكلين روزفلت الذي تذرّع بالتعرّض لهجوم من أجل دخول الحرب العالمية الثانية والرئيس ليندون جونسون الذي ورّط الأميركيين في حرب فيتنام بناء على كذبة مماثلة.
بالمقارنة مع “الكذبات المحلية” التي يكون طموح أصحابها منحصراً في الوصول إلى السلطة أو التمسّك بها، والتي يلجأ إليها أغلب السياسيين في دول العالم الثالث، تبقى الكذبات الأميركية ذات الصدى العالمي أكثر مأساوية. يرى ميرشيمير أن دافع الكذبات الأميركية كان المصلحة الوطنية، وليس الشخصية لصاحبها، لكنه دعا، في الوقت ذاته، إلى ضرورة التفريق بين الكذب بين الدول وكذب السياسيين على شعوبهم.
المصدر: العربي الجديد