عن رواية “الخميادو”.. في اشتباك الأزمنة واللغات

نبيل سليمان

يبدو أن إبراهيم الجبين حريص على عنونة رواياته بما يشبه الصدمة، كما في رواية (عين الشرق: هايبرثيميسيا 21) حيث ينشب السؤال عن الشطر الثاني من العنوان، ويضاعف الجواب من الترقب. ومثل ذلك رواية (الخميادو)، وما أدراك ما الخميادو! (صدرت عن دار Farabikitap التركية، 2021).

بعد حين من الصدمة تُخبر الرواية أن من ظنهم الدون خوان من عرب الأندلس مهزومين، وحرّم عليهم لغتهم، ابتكروا لغة جديدة، فخلطوا القشتالية بالعربية باللاتينية، فكانت اللغة الجديدة (الخميادو) جسرًا يأخذهم إلى الغد، ما دام الحاضر جحيمًا. وقد ابتكروا لأنهم أدركوا أن الهزيمة مؤقتة، وأن القيم التي بحوزتهم هي النصر الحقيقي، لكن الهزيمة لم تكن مؤقتة.

تسمي الرواية شعراء كتبوا باللغة الجديدة، وتؤرخ تحريم الإمبراطور شاركان للعربية بعام 1526. وتتحدث المراجع عن هذا السلاح الثقافي لعرب الأندلس الذين أمهلهم فيليب الثاني عام 1567 ثلاث سنوات لتعلم العربية، فلجأوا إلى نسخ اللغة القشتالية بأحرف عربية، وَسُمِّي الأدب الموريسكي الذي كتب بهذه الأحرف (الخميادو)، نسبة إلى الكلمة الإسبانية الخاما Aljama، والتي تعني الحيّ الذي يقطنه الموريسكيون. أما عنوان الرواية فله مقاصد أخرى، تتتوّج في خاتمتها بكتابة الخميادو السوري، أي بهذه الرواية “كتاب اللغة السرية للمهزومين المنتصرين معًا. كتاب المجرمين والمقتولين. كتاب الملائكة والشياطين. الغابرين والآتين”. ومن قبل، في مستهل الرواية تقيم الرواية التراسل بين (الثورة الموريسكية) و(الثورة السورية) فعندما حوّل الدون خوان الثورة الموريسكية إلى “ربيع دام” فكر الموريسكيون أن ثورتهم ليست ثورة جيل واحد، بل هي ثورة للمستقبل، وللقراءة أن تتبين التراسل بين الزمن الموريسكي (الماضي/ التاريخ) والزمن السوري (الحاضر/ الراهن). وعلى القراءة من قبل ومن بعد أن تقرن ذينك الزمنين إلى الزمن الثالث – أم الأول؟ – زمن المستقبل. فالرواية تتصدر بما يعين الزمن الذي تجري فيه حوادثها بعد سنوات طويلة من ربيع عام 2011. وسوف يأتي ما يحدد تلك السنوات بربع قرن.

تبدأ الرواية بفصل (عجلة الأرواح) حيث يتحدث الراوي الذي يحمل اسم الكاتب عن تحويل لوحته إلى بناء ثلاثي الأبعاد، وقراره بالمضي في ذلك ككاتب، وليس كصحافي أو فنان. وهو واحد من الفريق الذي يضم الباحثة المعمارية آن رينيسيه، والبروفسور دورينغ، والمؤرخ الموسوعي عماد الأرمشي، وهشام الرفاعي.

سوف يعيد الفريق البيوت المدمرة إلى حالتها الأولى، فينبق السؤال عما إذا كانت مثل هذه العودة خيارًا وحيدًا أو ضروريًا؟ وماذا إذًا عن الخروج من الدمار إلى كيان آخر، يكون فيه مطرح أيضًا لـ (الترميم) كنوع من التصوف، كعبادة للمكان؟

بالطبع، يجري الحديث عن سورية، عن دمشق، فالمشروع الروائي/ التاريخي/ المستقبلي هو البحث عن الكولوسيوم السوري، كولوسيوم دمشق التي اكتنزت المسرح الروماني جنوب الشارع المستقيم (تحت سوق البزورية، جنوبي الجامع الأموي).

قبل المضيّ قُدُمًا يلحّ عليّ أن أذكر أنني عندما قرأت صفحات البداية – قرابة العشرين – حسبت أن الكاتب قد غادر استراتيجية (التشذير) التي انبنت رواية (عين الشرق: هايبرثيميسيا 21) بها وعليها، إلى بناء مركّب، يشي بالسيرية كما يشي بالبحث، وأغواني ما بدا في هذه البداية التي لا ينقصها التعقيد من سلاسة السردية والتسريد. لكن استراتيجية التشذير أسرعت بالظهور لتتولى أمر الرواية إلى منتهاها. ومع هذه العلامة الكبرى والحاسمة تتعدد وتتألق العلامات الفنية، وأولها فائض الحرية التي يتحرك بها الراوي إبراهيم، وثانيها تثنية البناء، أي بناء الرواية من متن وهامش على نحو يحيل الرواية روايتين، واحدة في المتن، والثانية – وهي رواية النازية بين ألمانيا وسورية – في الهوامش التي تمتد حتى تقترب الرواية من نهايتها، ثم تصير الهوامش شذرات من السرد السيري المتعلق بزمن الزلزال السوري 2011 وما بعد. وقد ظلّ هذا النمط من البناء نادرًا في الرواية العربية، ومن أمثلته الباهرة رواية رجاء عالم (حبّى) ورواية صنع الله إبراهيم (أمريكانلي)، كما حضر في رواية الياس فركوح (قامات الزبد)، وقاربته في روايتي (تحولات الإنسان الذهبي).

من علامات (الخميادو) الفنية أيضًا أن اللغة الروائية لا تفتأ تتلون بمقتضى الحال فتتعدد لغةً لمواطن البحث والحفر التاريخي، ولغةً للشعر في المقاطع الشعرية الغزيرة والمؤثرة الفاصلة بين شذرة وشذرة، أو بين لحظة سردية وأخرى، وفيها يحضر إبراهيم الجبين الشاعر. وثمة أيضًا لغة الحكاية الشعبية.

أما علامة الميتا رواية فمن مظانها الوفيرة مخاطبة القارئ على هذا النحو: “أنا وأنت أيها القارئ، في الغد البعيد، أبعد ما يمكن عن تلك اللحظة الفوضوية المدمرة”، وأحسب أن الإشارة إلى تلك اللحظة تعود إلى سنوات الزلزلة السورية بعد 2011. وفي موقع آخر ينفي الراوي/ الكاتب أن يكون ما يكتبه “في هذه اللحظة” ديستوبيا، وإنما هو حكايات من المستقبل الذي هو فيه “سرعان ما تتحول إلى ذكريات في أدمغة أبطالها”. وتتواتر إعلانات الكاتب (الفنية) إن صح التعبير، كأنْ ينادي أن يكون قارئه “الآن” مختلفًا، أو يعلن أنه لا يعنيه السرد الأدبي المتصنع المثير للسخرية، فما يعنيه هو سرد الحياة بحرارتها. كما يعلن أنه ما عاد يعرف بالضبط لمن يروي اليوميات التي حملت بالعواصف والنذر.

يعود الكاتب في هامش من الرواية إلى روايته (عين الشرق) واهتمام الأوساط الألمانية بها فيما اللاجئون السوريون يتدفقون. وربما كان أكبر وصل بين (عين الشرق) و(الخميادو) هو ما احتل جلّ الهوامش، وشكّل ما هو أقرب إلى أن يكون رواية ثانية عن النازيين الألمان بين ألمانيا وسورية، وقطبهم ألويس برونر القادم من (عين الشرق)، ومنهم في (الخميادو) راديماخر ووالتر راووف وبايسنر وإيميل غيلني… ولرواية الهوامش غلالة من البوليسية، تنسجها الجاسوسية وصراع أجهزة المخابرات العالمية حيث تعود قصة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين. ويتحدد ما يلحم رواية الهوامش بالرواية الأم بما كان للنازيين الألمان من دور في سورية، منذ تأسيس المخابرات السورية (المكتب الثاني أو الشعبة الثانية بعيد الاستقلال) إلى انقلابات ستينيات القرن الماضي. وقد انتهت رواية الهوامش قبيل نهاية الرواية الأم، حيث صارت الهوامش تتعلق بما يروي الراوي من سيرته في الثورة، من ألفها إلى يائها.

يعود أغلب السيري في (الخميادو) إلى زمن الماضي السوري، متساوقًا مع حياة الكاتب، وبخاصة في زمن الزلزلة /الثورة من ذلك الماضي. وبالتالي فالسيري هو تاريخي أيضًا من منظور زمن المستقبل: الكلمات التي خُطت على جدار مدرسة في الجنوب السوري “ستغير تاريخ سورية. ستغير تاريخ العالم” – مشاركة الراوي في مظاهرات نيسان 2011 مع الكاتبة الأميركية ليزا ودين ودوناتيلا – العلاقة مع مالك محي الدين الضابط المتقاعد – العلاقة مع أسعد عبد الرحمن واستضافة الراوي له في برنامجه التلفزيوني، واعتقال الراوي. وإلى ذلك، عشرات القصص الفرعية لشخصيات كثيرة أخرى، يبدو بعضها نافلًا أو عبئًا، وأغلبها من ذلك النوع الذي أدعوه بالنكرات/ المعارف، حيث يتحقق للشخصية الروائية العابرة حضور وتأثير قد تحسدها عليه شخصيات معارف، أي محورية أو كبرى.

يحفل السيري من الرواية، وغير السيري أيضًا، بتأملات الكاتب، وما يمكن دعوته بالفكري في الرواية، أو ما يرسم مواقف للراوي/ الكاتب. ومن ذلك معارضة الإخوان المسلمين، والمضارعة بين اقتحام الحرم المكي إثر حركة جهيمان، وبين اقتحام الجامع العمري في درعا. كذلك (هجاء) قادة في المعارضة السورية، وبصقة أبو داوود الطبيب الفلسطيني – المقيم في ألمانيا وصديق الراوي – على قيادات المعارضة السورية، وتعقيب الراوي على ذلك “ليس لنا قيادات”. وبالمقابل، هذا التنظير للثورة بحسبان الراوي: “ليست الثورة مشروعًا للموت، وليست حربًا من أجل الحياة الآخرة. هي معراج جديد للحياة”.

أما موقف الراوي فهو أنه أراد الحياة، ولم يرد الموت. ويبرز هنا ما كتب سلامة كيلة للراوي قبل موته عند موت مي سكاف في باريس: “مي سكاف لقيت مصيرها كما هو مصير الثورة”. أو سوق ما يشغل الراوي من القانون والثقافة والمال والآخر والحوار، ولعل غاية البديع في كل ذلك هي ما خصّ به الكاتب سورية بعامة ودمشق بخاصة. فسورية المستقبل مختلفة عن الماضي، لأن “زمن ما بعد الحرب يأتي بالغرائب، كما جاءت الحرب بغرائبها”. وسورية المستقبل عالم من الإسمنت يحل محل عالم الماضي – هي إعادة الإعمار إذًا. وسورية هي نهر العنف الذي جرف الضحية والجلاد معًا، حتى باتا روحًا واحدة. وسورية أيضًا هي أرض الدوائر الكبرى، بلاد الموتى الأحياء والأحياء الموتى في كل العصور، وليس من مسافة في سورية تفصل الموتى عن الحياة. لكن سورية أيضًا في زمن الزلزلة هي سورية الفن والثورة، سورية سميح شقير وعبد الباسط الساروت وإبراهيم القاشوش. أما دمشق فلها في رواية (الخميادو) كيان يختلف عن مألوف كياناتها الروائية التي نتأ فيها تطويب دمشق، وتقزيمها لتحرم نفسها على القادم الريفي إليها. دمشق (الخميادو) ابتداءً من البحث عن المسرح الروماني المزود بالصور، هي أسطورة/ حقيقة المدن السبع تحتها، والتي تشير إلى سبع حضارات. وهذه الدمشق هي أسرار مركبة في المدينة العتيقة، كأنما عرف العارف أن دمشق هي مركز الكون، وظلالها هي الملاذ الأخير. وقد صنع الدمشقيون حائط صمتٍ مقدس لا تنتهي أسراره.

إنه التولّه بدمشق التي يتّقد فيها السرد وصفًا ومعلومات، وحسبي أن أضرب مثلًا بساحة الميسات التي شغف اسمُها الراوي، وهي مكان ينحني نحو المدينة القديمة “لكن قبل أن يسيل متقطرًا كلون أزرق تستوقفه ثلاث شجرات من فصيلة السيلتيتز كاوكاسيا منحت هذا المكان اسمه. شجرات ميس قوقازي تعلق بها الناس، ولم يقبلوا إلا أن تكون تلك الساحة ساحة الميسات الثلاث”.

بعد انصراف طويل عما بدأت به الرواية، تعود إليه، أي تعود من زمن الحاضر إلى زمن المستقبل، حيث الراوي/ الكاتب وآن والرفاعي والبروفسور دورينغ يحفرون في ليل دمشق وفي ترابها بأدوات الآثاريين، على أن يزيحوا الصخرة، ويظهر كولوسيوم دمشق ومدينة منسية أخرى، حيث رأى الكاتب دمشق الأعمق، وقلب دمشق.

تبلغ التجريبية في رواية (الخميادو) مدى أبعد مما بلغته في رواية (عين الشرق). وكما تنادي هذه التجريبية هوامش (الكتاب) لأدونيس، تنادي رواية أخرى مضت من سنوات الزلزلة السورية إلى المستقبل القريب في الثلاثينيات القادمة، هي رواية (وادي قنديل) لنسرين أكرم الخوري. وقبل وبعد كل نداء تُدِلّ (الخميادو) بمنجزها الفني الخاص والبديع.

المصدر: ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى