لستُ، هُنا، بصدد تقييم موقف أدونيس السِّياسيّ، لذلكَ أتمنَّى بأنْ يكونَ حديثُنا، الآن، مُقتصِراً على الجانب الفكريّ ومُراجَعتِهِ عند أدونيس، وهوَ الأمرُ الذي أودُّ أنْ أُشيرَ إليه باقتضابٍ في هذا المنشور:
_ مُشكلة (نظَريّة أدونيس) تجاه الإسلام تقومُ على خمسة أخطاء مَعرفيّة ومَنهجيّة (ثقافويّة) في اعتقادي، ويُمكِنْ أنْ تُوضَعَ هذهِ الأخطاء (الثَّقافويّة) في إطار عربيّ وإسلاميّ واسِع يتعدَّى، فقط، فكر أدونيس، وهذهِ الأخطاء الخمسة هيَ:
1- أدونيس يرى الإسلام (وتحديداً الإسلام السُّنِّيّ الي يُسمِّيه “الإسلام السّائِد” بوصفِهِ إسلامَ السُّلطة العربيّة السّائد تاريخيّاً) كتلةً (ثقافويّة) مُتعالية، ومُغلَقة، وسُكونيّة.
وهذا أشار إليهِ الماركسيون، مثلاً، في انتقادهِم لفكرِهِ بخُصوص مسألة غِياب (الجدَل) في موقف أدونيس من الإسلام.
فالإسلامُ، عندَهُ، هوَ بِنية صمّاء ثابتة غير قابِلة للنُّموّ أو التَّطوُّر أو التَّحوُّل، وهذا خطأ مَعرفيّ ومنهجيّ خطير، و(ثقافويّة) لا تخلو من الموقف المُسَبَّق، ومن الانطلاق من (مُسلَّمات) مُنجَزة وجاهِزة وتنميطيّة أو تأطيريّة تعميميّة.
2- أدونيس يرى الإسلام بوصفِهِ إسلاماً واحداً، وهذا خطأ منهجيّ آخَر، فالإسلامُ السُّنِّيُّ نفسُهُ هو عدد هائل من البِنى المُتضادّة والمُتشاحنة والمُتفاعِلة تاريخيّاً، وهوَ (في اختلافاتِهِ الزَّمكانيّة) تيّاراتٌ كثيرة من الصِّراعات الأيديولوجيّة العقائديّة والتَّفسيريّة والمدرسيّة التي يتداخل فيها العقائديّ بالسِّياسيّ إلى حدٍّ كبير.
فضلاً عن أنَّ المُسلمين السُّنّة الآن (أي: في هذا العصر تحديداً)، لا يُشكِّلونَ (طائفة) مُتماسِكة لا عقائديّاً ولا طبقيّاً ولا ديمغرافيّاً (لا في بلدانهِم الشّاسِعة ولا في أوطانِهِم نفسِها)، كي تتمَّ مُحاكمةُ أو تفكيكُ فكرهِم وموقفهِم من الوجود والعالَم والغيب والمُستقبَل على أنَّهُ موقفٌ واحدٌ شُموليٌّ وثابتٌ ومُتجانسٌ، أو قابِلٌ للإحضار والإخضاع والتَّحكُّم المَعرفيّ الإطلاقيّ ميتافيزيقيّاً.
3-أدونيس، كذلكَ، يرى (الإسلام السُّنِّيّ) من الخارِج، انطلاقاً من التَّضادّ مع (الإسلام الشِّيعيّ)، وبتقسيمِهِ الشَّهير (الثّابت والمُتحوِّل) يُرسِّخ منطق الثُّنائيّات التَّقابُليّة التَّفاصُليّة والحدِّيّة الميتافيزيقيّة، فلا يرى البِنية الهُوِيّاتيّة الثَّقافيّة للثَّقافة العربيّة الإسلاميّة بوصفِها (كُلَّاً هُوِيّاتيّاً حضاريّاً) مُتصارِعاً ومُتنافِساً ومُتفاعلاً في الوقتِ نفسِهِ من الدّاخِل، لا من الخارِج.
وهوَ بهذا التَّرسيخ لمنطق الثُّنائيّات يُخفقُ (هوَ نفسُهُ) مَعرفيّاً ومَنهجيّاً في الخُروج من عباءة الموقف الميتافيزيقيّ المُبطَّن بالتَّديُّن والأُحاديّة (وهُنا لا أقصد التَّديُّن بمَعنى العبادات والعقائد؛ إنَّما التَّديُّن بمَعنى المُنطلَقات الفكريّة)، حيثُ أعتقدُ أنَّ المَثالِب التي تنطوي عليها (العقائد السُّنِّيّة: ولا أقولُ العقيدة) تكادُ تتطابَقُ (إذا قبلنا بمنطق التَّعميم جدَلاً) مع المَثالِب التي تنطوي عليها (العقائد الشِّيعيّة).
5- يُعيدُ أدونيس إنتاج خطأ مَعرفيّ ومَنهجيّ آخَر وَقَعَ فيهِ الأيديولوجيون العرب منذُ بداية ما دُعيَ بـِ (عصر النَّهضة العربيّة)، كُلٌّ من زاويةِ انتمائِهِ الأيديولوجيّ، فألحقَ كثيرٌ من الإسلاميّين العُروبةَ بالمركزيّة الإسلاميّة، مُطابِقِينَ بينهُما، وألحقَ كثيرٌ من القوميِّين العرب الإسلامَ بمركزيّة العُروبة، وأيضاً، مُطابِقِينَ بينهُما، ونجَمَ عن هذا الخطأ المَعرفيّ والمَنهجيّ، وإسقاطاتِهِ الأيديولوجيّة والعقائديّة كوارثَ كبيرة في الفضاء السِّياسيّ والاجتماعيّ والثَّقافيّ العربيّ، ذلكَ أنَّ من أُولى خُطوات (وعي الهُوِيّة) هو التَّمييز بينَ العُروبة والإسلام بوصفِهِما فضاءَيْن مُتفاعليْن يتقاطَعان في مَواضِعَ، وينفصِلان في مَواضِعَ أُخرى، وأدونيس لم يخرجْ في مَساراتٍ كثيرة في فكرِهِ وتنظيرِهِ من هذهِ المُطابَقة المَعرفيّة الكارثيّة التي تُعيدُ إنتاج الأُحاديّة الأيديولوجيّة الجوهرانيّة.
5-أخيراً: أدونيس يكتفي بالتَّفكيك والتَّشريح والوصف، ويُوظِّف مفهوم النَّقد بمَعناه السَّلبيّ، لا بمَعناه البنّاء والخلّاق (نقَدَهُ المالَ في المُعجَم العربيّ يعني أعطاهُ حقَّهُ)، فهوَ يقفُ كالمُستشرِق الغريب مُتطلِّعاً (إلينا) من بعيدٍ، ومُنظِّراً (علينا) من علٍ، كأنَّهُ يُصفِّي حساباً عدائيّاً مع ثقافتِهِ العربيّة الإسلاميّة، أو كأنَّهُ يتلذَّذُ بجَلْدِ الذّاتِ العربيّة الفرديّة والجَمعيّة من دون أنْ يشعُرَ قارِؤهُ بأنَّهُ مَهمومٌ بكوارث هذهِ الشُّعوب العربيّة الإسلاميّة، ومُتعاطِفٌ معها، أو مَشغولٌ بها بحقّ، في أقلّ تقدير، ولا سيما إذا كانَ عاجزاً منهجيّاً ومعرفيّاً عن اقتراح حلول ومَخارِج لأزمات الواقع العربيّ والإسلاميّ الحالي.
_ مُلاحظة ضروريّة على هامش هذا المدخل الأوَّليّ:
أتمنَّى عدم شخصنةِ الموضوع، والاكتفاء بمُناقشةِ الأفكار المعروضة هُنا، وأيُّ تعليقٍ يلجأ إلى الشَّتائِم والإساءة لأدونيس سأعدُّهُ إساءةً إلى صفحتي وإليَّ شخصيّاً، وسأضطرُّ إلى حذفِهِ، ليسَ لتعصُّبي لأدونيس، فالمسألةُ ليسَتْ لا تقديساً ولا شيطنةً، ومُعظَمُ الأصدقاء والصَّديقات يعرفونَ رأيي الصَّريح والمُعلَن بخُصوص مواقف أدونيس السِّياسيّة التي لا أُناقِشُها الآن في هذا المنشور.
المصدر : صفحة مازن أكثم سليمان