شهدت الأيام القليلة الماضية ضربة هي الأولى من نوعها منذ 17 عاما، وجَّهها الناخبون اللبنانيون إلى حزب الله وحلفائه، الذين انحازوا إلى خصوم الحزب، وعلى رأسهم حزب القوات اللبنانية، كما بيَّنت النتائج النهائية الرسمية للانتخابات النيابية. وبينما ذهب البعض إلى أن النتائج بداية نهاية هيمنة حزب الله على السياسة اللبنانية، فإن آخرين زعموا أن الصندوق اللبناني لم يَعُد بتلك الأهمية للحزب الأقوى عسكريا في لبنان، الذي بات جزءا من خارطة القوة الإقليمية بشكل يصعُب معه أن تُزيحه هزيمة انتخابية بتلك السهولة. فما مآلات تلك الهزيمة الانتخابية على حزب الله في الداخل؟ وهل تُجبره على تغيير خططه وأولوياته؟
حزب الله يخسر الصندوق
لأول مرة منذ عام 2005، العام الذي عزَّز فيه حزب الله اللبناني نفوذه داخل أروقة السياسة اللبنانية رغم تصنيفه منظمة إرهابية من قِبَل دول عديدة على رأسها الولايات المتحدة، يتشكَّل مشهد سياسي جديد في لبنان بدون أكثريات في المجلس النيابي، فلا فريق قدامى 8 أيار (حزب الله وحلفاؤه) حازوا ما يكفي من مقاعد لتشكيل حكومة، ولا فريق قدامى 14 أيار (وليد جنبلاط وسمير جعجع وبقايا تيار المستقبل الذي قاطع الانتخابات رسميا) لديهم أكثرية أيضا، في ظل مزاحمة الكبار من طرف الوجوه الجديدة التي تمخَّضت عنها الاحتجاجات قبل عامين وحازت 13 مقعدا. ورغم أن حزب الله وحركة أمل حافظا على المقاعد الشيعية البالغ عددها 27 في البرلمان، فإن الانتخابات منحت خصوم الحزب 62 مقعدا مقابل حصول الحزب وحلفائه على أقل من 46 مقعدا.
رغم دور حزب الله اللبناني المتشعِّب داخل لبنان وحيازته تقديرا كبيرا منذ عام 2006، في ذروة شعبية الحزب نتيجة وقوفه بوجه الغزو الإسرائيلي، فإن ظهور الحزب وكيلا صريحا لإيران طيلة السنوات العشر الماضية وتوسُّع نشاطاته الإقليمية فتح الباب أمام تآكل شعبيته في الداخل، لا سيما في ظل عجز الحكومة اللبنانية الموالية له عن تقديم معظم الخدمات الأساسية في البلاد التي سقطت في قبضة واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها. ولذا، ليس واضحا ما الذي سيفعله حزب الله بعد أن عاقبه الناخب اللبناني على انشغاله بالخارج وتجاهله لاحتياجات الداخل، لا سيما مع احتمال أن تحاول الأطراف الإقليمية المناهضة له، وعلى رأسها السعودية، تسيير دفة تحالف لبناني جديد ينقذ الاقتصاد اللبناني ويُحجِّم نفوذ الحزب.
في النهاية، دفع حزب الله ثمن سياساته إذن، وخسر السيطرة السياسية على البرلمان في لبنان، ولم يعد يستطيع فرض رئيس جمهورية وحكومة مناسبَيْن له، وبناء على ذلك يتوقَّع الأكاديمي والمحلل السياسي اللبناني “وليد فخر الدين” أن يعمل الحزب وحليفه التيار الوطني الحر من أجل إيجاد صفقة تحفظ لهم بعضا من ماء الوجه عبر استخدام سلاح التعطيل، حيث أوضح في حديثه إلى “ميدان”: “سلاح التعطيل يعني أن رئيس الجمهورية يُمكن ألا يدعو إلى استشارات لتسمية رئيس الحكومة، ولا يقبل بهذه الاستشارات دون الاتفاق السابق على شكل الحكومة واسم رئيس الجمهورية القادم”.
حزب الله والتحالف الإيراني.. لا فكاك
حضرت إيران بوضوح في أثناء الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث شغلت حوارات عديدة في خضم الجدل السياسي الانتخابي، ويرى لبنانيون كُثُر أن الحضور الإيراني عن طريق حزب الله يلعب دورا أساسيا في الأزمات التي يُعانون منها، وأن أزمتهم الاقتصادية الطاحنة هي ضريبة فرضتها أطراف إقليمية ودولية جرَّاء الاصطفاف المتزايد مع إيران، ووكيله الرئيسي بطبيعة الحال حزب الله.
نشأت تلك العلاقة المتينة بين الحزب ورعاته في طهران مع تأسيس الحزب عام 1982، بعد ثلاثة أعوام فحسب من اندلاع الثورة الإسلامية في إيران. وسرعان ما دخل الحزب المُستثنَى من اتفاق الطائف عام 1989 (الذي نصَّ على تسريح الميليشيات الطائفية الأخرى في لبنان) إلى السياسة رسميا لأول مرة بانتخاب ثمانية نواب من أعضائه عام 1992، مع تعيين وزراء من الحزب في الوزارات اللبنانية المتعاقبة. وبالتزامن مع ذلك، أخذ الحزب يستفيد من دوره في “مقاومة” إسرائيل ومن موقعه الحكومي، وسرعان ما أصبح الحليف الإيراني الرئيسي في لبنان، وكذلك في المنطقة.
لذا، يبدو أن رغبة اللبنانيين بحل أزمات البلاد والحصول على المعونة والمساعدات للخروج من مشكلاتهم الاقتصادية مسألة وثيقة الصلة بالنفوذ الإيراني في لبنان، وكما يقول رئيس تحرير موقع “جنوبية” الصحافي “علي الأمين”، فإن “مسألة التغيير في لبنان، ببُعديها الاقتصادي والسياسي، تقودنا في الأخير باتجاه حزب الله، فعندما نتحدَّث عن الحدود أو السيادة، فأي تحقيق حقيقي لضبط الحدود وسيادة الدولة هو بالضرورة أمر يضرُّ بحزب الله الذي يستخدم حدود لبنان بحرية أو يهيمن على القوة العسكرية في البلاد. وسيحاول الحزب امتصاص هذه الهزيمة المعنوية والسياسية التي عبَّرت عنها نتائج الانتخابات واحتواءها باللعب على التناقضات الموجودة في الجبهة المُقابِلة له، فثمَّة اختلافات بين الكُتَل التي حازت مقاعد في البرلمان، وبالأخص فيما يتعلَّق بموقفها من نزع سلاح حزب الله، وهو أمر محوري بالنسبة إلى الحزب”.
يضيف الأمين في حديثه إلى “ميدان” أنه “بحكم الرابطة الأيديولوجية القوية التي تربط الحزب بإيران، لن تسنح الفرصة بسهولة لتغيير سلوكه، لا سيما والمؤشرات الإقليمية لا تُنبِئ بخسارة الحزب أيًّا من المعارك التي دخل على خطِّ المواجهة فيها مثل اليمن وسوريا والعراق. بيد أن المفتاح الوحيد قد يكون حصول اتفاق بين إيران والقوى الغربية في فيينا، ومن ثمَّ تطوُّر الأمور باتجاه يجعل إيران نفسها راغبة في التوصُّل إلى تسويات إقليمية تُفضي إلى التأثير على سياسات حزب الله، بحيث تخفِّف إيران من حضورها الأمني والعسكري ولو قليلا، ومن سلوكيات حلفائها غير المرضي عنها في الغرب”.
من جانبه، قال وليد فخر الدين إن حزب الله شريك أساسي في خارطة الحرس الثوري الإيراني الإقليمية، وهو ما يجعل تأثير نتائج الانتخابات على الحزب محدودا، فهي معركة وجولة خسر فيها مقاعد البرلمان اللبناني، لكنه لم يخسر مواقعه العسكرية الراسخة إقليميا، ولا تحالفاته التي تُبقيه رغم سخط اللبنانيين المتزايد، كما يرى فخر الدين أن تراجع حزب الله قد يصبح جزءا من مواءمات إيران الدولية على طاولة فيينا. تلك النقطة -علاوة على الرغبة الواضحة لدى اللبنانيين بحل أزماتهم الاقتصادية- قد تدفع بإيران دون غيرها إلى تعديل معادلتها في لبنان -طوعا بالطبع- بما يسمح بتعافي الاقتصاد وتمرير اتفاق دولي جديد، ولكن دون أن تفقد الدور المركزي لسلاح حزب الله في لبنان وسوريا.
وماذا عن واشنطن؟
“لمواجهة النفوذ الخبيث لحزب الله، ولضمان دعم القادة اللبنانيين لهذه الحكومة واتخاذ قرارات ملموسة، يجب أن يكون هناك خطوات لمعالجة العديد من التحديات التي يواجهها لبنان”، بهذه الكلمات عقَّبت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على العقوبات الأميركية الجديدة لمكافحة فساد الشخصيات اللبنانية، في محاولة منها لحث إدارة بايدن على إصدار عقوبات إضافية لمواجهة الحزب.
على مدار سنوات عديدة، كان حزب الله، تلك المنظمة شبه العسكرية المدعومة من إيران، الخصم الرئيسي للولايات المتحدة في لبنان، حيث ركَّزت واشنطن سياساتها لمواجهة نفوذه عبر تقديم الدعم الإنساني، والأهم تمويل القوات المسلحة اللبنانية، العاجزة حتى الآن عن لعب الدور المرجو منها داخليا وإقليميا. ولا يزال الدافع الأول لصراع واشنطن مع حزب الله هو ما يُمثِّله الحزب من تهديد على حليفها الإسرائيلي، فيما تأتي المقام الثاني علاقات الحزب مع إيران والتدخلات السياسية والعسكرية للحزب في المنطقة بشكل مناهض للدور الأميركي وحلفائه في اليمن والعراق.
ورغم أن مخاوف واشنطن من الحزب لا ترتبط بالوضع الداخلي اللبناني مباشرة، فإن الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها ألقت بظلالها على آمال واشنطن في لبنان. وبالعودة إلى الوراء، يمكن القول إن سلاح الحزب الذي ظهر من أجل محاربة إسرائيل ثم صُوِّب نحو صدور اللبنانيين عام 2007، ثم نحو سوريا واليمن والعراق بعد عام 2011، لم يَعُد يُرضي اللبنانيين. ورغم صمت الرأي العام اللبناني حيال دور الحزب، فإن الشعب سرعان ما خرج عن صمته عام 2019 حين فاض الكيل وخرج في احتجاجات عنيفة ضد الطبقة الحاكمة بما فيها حزب الله.
لم يرَ المجتمع الدولي في التطورات السابقة إلا نقاط ضعف لحزب الله وقبضته ما انفكت تتزايد، تبعها تفاؤل دولي بأن يؤدي العقاب الاقتصادي الدولي على إيران إلى المزيد من تقليص مصادر تمويل الحزب الذي عمل لتعويض المال الإيراني على تهريب مُخدِّر الكبتاغون من سوريا، وتهريب البضائع وسحب الإيرادات من خزائن الحكومة اللبنانية، وغيرها من سياسات لدرِّ الأموال كي تُموِّل آلته العسكرية المتشعِّبة، متجاهلا في غضون ذلك دوره الداخلي وقاعدته الاقتصادية في صفوف المجتمع الشيعي، الذي خرج بعض أفراده أثناء احتجاجات 2019 معترضا على سياسات الحزب بنفسه في سابقة لا تحدث إلا نادرا.
فيينا والمعادلة الإيرانية
وفَّر الاستياء الشيعي من الحزب لواضعي السياسات الأميركية بعض الفرص هُنا، فبينما اتخذت إدارة ترامب خطوات ضد الحزب مثل حرمانه من التمويل من خلال ممارسة ضغوطاتها على إيران، وملاحقة ممولي الحزب من رجال أعمال ومؤسسات، ركَّزت إدارة بايدن بدورها تركيزا أكبر على المفاوضات النووية الجديدة، التي ظهرت معها الإدارة الديمقراطية الجديدة بعيدة كُل البعد عن مرونة إدارة أوباما، مع رغبة أكبر في ربط الاتفاق الجديد بتقليص البصمة العسكرية للإيرانيين على خريطة الشرق الأوسط.
إذا نظرنا قليلا في الظروف السياسية داخل الدول التي تدخَّل فيها حزب الله، فسنجد أنها باتت غير مستقرة في الآونة الأخيرة، وقد تُفضي في فترة وجيزة إلى تآكل مكتسبات الحزب العسكرية والسياسية هناك. ففي العراق، وبعد الانتخابات العراقية التي تمخَّض عنها صعود الكاظمي، أضحت الحكومة في بغداد أقل ارتياحا حيال الميليشيات الشيعية، وأكثر رغبة في تشكيل قوة نظامية حقيقية تضبط بها الأوضاع بمعزل عن طهران. وفي سوريا، ورغم الاستقرار النسبي لصالح الأسد وحلفائه، فإن الوضع الروسي المُعقَّد الآن في أوكرانيا قد يؤثر على الخارطة عاجلا أم آجلا، لا سيما الإخفاقات المتزايدة للروس في الساحة الأوكرانية والعقوبات الشديدة على روسيا وحلفائها.
من جهته، يعتقد فخر الدين أن حزب الله اليوم غير مستعد للدخول في حرب مع إسرائيل، بل يُمكن أن يدخل في مناوشات ليس إلا، فهو يسعى إلى التسوية أكثر مما يسعى إلى الصراع، وبالأخص مع اهتمام إيران بمسار مفاوضاتها الدولية. يبقى أن نقول إن الحزب قادر على استخدام ما تبقى من فترة رئاسة ميشال عون، بل وربما ما بعد ذلك إذا ما سلك طريق تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية على غرار ما جرى في الانتخابات الماضية، ومن ثمَّ أخذ البلد إلى فراغ تام بدلا من الرضوخ لهزيمة سياسية جديدة. يضيف فخر الدين: “تحريك الجبهات في فلسطين المحتلة على الحدود اللبنانية أمور لا أظن أنها تصب اليوم في المصلحة العامة لحزب الله، التي تقتضي محاولة الإمساك بالورقة اللبنانية والانتظار لما ستُسفر عنه المفاوضات في فيينا مع تطورات الحرب الروسية-الأوكرانية”.
فيما يتعلق بدعم الفصائل الفلسطينية والمواجهة مع إسرائيل، وهي منبع شعبيته الأزلي الذي يستطيع نظريا أن يُشعله في أي وقت، وخاصة في ظل اشتعال الساحة الفلسطينية في العامين الماضيين، يرى علي الأمين أنه يُمكن أن يكون هناك تأثير ما. بيد أن البُعد الإيراني يُحجِّم الدرجة التي سيُسمح بها للحزب بتعكير صفو المفاوضات عبر مواجهة مع إسرائيل، وخصوصا أن إيران تملك علاقاتها المستقلة بالفعل مع بعض الفصائل الفلسطينية النشطة التي ليست في حاجة بالضرورة إلى حزب الله، وكذلك لم تَعُد ترغب بتشتيت دور حزب الله الإقليمي في معارك جديدة.
في النهاية، يمكن القول إنه رغم التغيير الإيجابي المصاحب لنتائج هذه الانتخابات، فإن الساحة السياسية في لبنان تبقى محل نزاع شديد يتجاوز حدوده، ومن غير المُرجَّح في المستقبل القريب أن يظهر إجماع سياسي جديد كافٍ أو تحالف قوي بما يكفي لإجراء الإصلاحات الرئيسية اللازمة. فتسمية رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة قد لا تؤتي ثمارها بسهولة قبل أشهر من الآن، لا سيما مع انتظار الانتخابات الرئاسية المُهمة التي يجب أن تتم قبل نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل. ومع ذلك، تعطينا الانتخابات في الأخير أملا بأن التغيير مُمكِن في السنوات المُقبِلة، وأن الحراك الذي هزَّ لبنان قبل عامين، وأنتج 13 نائبا برلمانيا بالنيابة عنه، قد يُنتِج جيلا سياسيا جديدا يحمل معه حلولا أكثر جذرية لمُعضلات لبنان.
المصدر: الجزيرة. نت