تحيّي إيران روسيا بكلتا يديها .. لكنها تتابع فشلها بحزن شديد

سمير التقي

لطالما أثارت دعوات روسيا إلى تفكيك النظام الديموقراطي الليبرالي العالمي غرائز إيران. ولقد تطلع حكام إيران بحماسة وإعجاب كبيرين إلى الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي كان يفترض أن يفتح أفق هذا المشروع المشترك.

بعد الحرب الباردة، أثارت حقبة القطب الواحد في الولايات المتحدة خوفاً عميقاً في إيران من التطويق الوشيك، في وقت كانت تنظر فيه إلى نفسها على أنها حضارة منفصلة تتطلع إلى تشكيل منظومة سياسية دولية ناشزة، تقوم على تحالف بين دول تحكمها العصبيات القومية والدينية، وتتقاسم فيها الأنظمة الشمولية مناطق النفوذ والمنافع، من خلال الهيمنة على الأقاليم المحيطة بها، وذلك بمعزل عن سيادة الدول والقانون الدولي وحقوق الإنسان.

في هذا السياق، عملت روسيا وإيران على تقاسم النفوذ ورسم خطوطه بوضوح، إذ تشكل الأراضي التي شغلتها الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي النطاق الجغرافي للهيمنة الروسية، ويشكل الجوار العربي لإيران في الخليج وبلاد الشام، وصولاً إلى المتوسط، ساحة الهيمنة الإيرانية، مع الاحتفاظ بإمكان توسعها نحو المضائق البحرية في المتوسط والأحمر والخليج العربي، في سياق عملية مشتركة لإعادة لتشكيل منظومة الهيمنة على طرق التجارة العالمية تمتد من جنوب القفقاس إلى البحر المتوسط والبلقان.

في الشرق الأوسط، تظهر التجربة كيف تلطت إيران خلف روسيا في سعيها إلى التأسيس لترسيخ “السلم البوتيني” في الإقليم، كنطاق هيمنة وإكراه تديره المصالح المشتركة.

يفسر هذا التوافق موقف إيران الملتزم الخط الروسي في تبرير العدوان، إذ تحدثت عن الدوافع المشروعة للغزو. وبحسب المرشد الأعلى، فإن “جذر الأزمة في أوكرانيا هو سياسات الولايات المتحدة التي تخلق الأزمة”. وبالطبع، فقد سبق أن كان بين أوكرانيا وإيران ما صنع الحدّاد، بعد إسقاط إيران طائرة ركاب الأوكرانية “عن طريق الخطأ” في كانون الثاني (يناير) 2020، ما أسفر عن مقتل 176 شخصاً. وفيما أنكر النظام مسؤوليته في البداية، سرعان ما ألقى اللوم على الخطأ البشري.

مثل العديد من حلفاء روسيا، كانت إيران تتطلع إلى سيناريو حرب روسية صاعقة تنتهي بإسقاط الحكومة في كييف وتنصيب حكومة دمية مكانها، بما يفتح الباب للكرملين لزعزعة الأطلسي وإضعاف الاتحاد الأوروبي، ويمهد لإخراج الأطلسي من شرق أوروبا.

ولكن هيهات!

فلقد ألقى الفشل الاستراتيجي للجيش الروسي، بظلاله على مراهنات طهران. وبعدما كانت الرهانات الاستراتيجية على التراخي الأميركي تسود العقل الإيراني لعقود، نشهد اليوم تلاحماً منقطع النظير في صفوف الحلف.

وبدل توسع الجبهة المعادية للغرب، تتسابق قوى الغرب السياسي من اليابان إلى أستراليا إلى كندا للتلاحم في دعمها أوكرانيا. وتقيم الولايات المتحدة جداراً استراتيجياً وسط أوروبا وعلى حدود روسيا، تدعمه عقوبات تاريخية ستمتد لسنين.

والأهم من ذلك، أدى انكشاف عناصر الضعف في القدرات العسكرية الروسية التقليدية واستدامة الحرب لشهور، وربما لسنوات، إلى زعزعة الأساس الاستراتيجي للتوسع الإيراني الإقليمي.

لكن ما لم يلتقطه منظار طهران العقائدي، أن هذا التراخي الغربي كان موقتاً، ويعبر عن افتقاد الشعور بالخطر بعد نهاية الحرب الباردة. فمنذ نهايات عهد أوباما بدأت مراكز القرار الاستراتيجية تعيد ترتيب أولوياتها وتحدد تعريفاً جديداً لخصومها ومنافسيها، بدءاً من روسيا والصين، ووصولاً إلى مكافحة الإرهاب التي أصبحت في أسفل القائمة.

وبعكس الأوهام الدارجة في طهران، أظهرت الحرب الروسية الفاشلة أن الغرب الجماعي لا يزال يتمتع بقوة كبيرة جداً. وأنه قادر، رغم الاختلافات، على التلاحم بسرعة. والأسوأ من ذلك بالنسبة إلى طهران، أن العقوبات المفروضة على روسيا تذهب إلى أبعد بكثير من مجرد إظهار قدرات الغرب على تقديم تضحيات اقتصادية كبيرة لجعل غضبه مؤلماً. لقد دعم الغرب رده بحشد عسكري مهول في أوروبا.

بعبارة أخرى، فإن ما تغصّ له إيران هو حقيقة أن فشل روسيا قد أدى إلى تعزيز الهيبة والموقع الاستراتيجي للنظام العالمي الذي يرعاه الغرب. فآخر ما كانت تريده إيران، هو استعادة المنظومة الديموقراطية الليبرالية العالمية حيوتها ومبادرتها. وما من شك في أن مسار الغزو الروسي لأوكرانيا سينعكس بقوة على مآلات مفاوضات الاتفاق النووي. وإذ تتعلم إيران الكثير من شدة الرد على روسيا، فإنها تخشى الآن أن تقوم روسيا المهزومة والغاضبة بتعريض هذه المحادثات للخطر، وهو أمر حيوي لرفع العقوبات الغربية الخانقة.

كما سيعني تداعي القدرات المالية الروسية، بفضل سباق التسلح وبفضل العقوبات الغربية، تراجع القدرات الاقتصادية العسكرية والمدنية الكلية لروسيا. والأهم من ذلك، أنه سيعني انهيار المشاريع المشتركة لخطوط الطاقة الممتدة من وسط آسيا وصولاً للمتوسط وأوروبا.

صحيح أن أزمة الطاقة الدولية الراهنة قد تفيد الاقتصاد الإيراني المحاصر، لكن قرار أوروبا بالتدرج نحو الاستغناء عن نفط الخليج سينعكس على الاقتصاد الإيراني وعلى حاجة الغرب لنفط إيران. وما قد يقلق إيران أكثر بكثير، هو تداعيات عدم استقرار الاقتصاد الروسي، وما يستتبعه من أوضاع داخلية.

وفيما تعاني إيران من صراعاتها ضد النزعة الانفصالية المحتملة في أطراف البلاد، سيصعب عليها دعم روسيا علناً في عملية إلحاقها للكيانات الانفصالية في أوكرانيا، الأمر الذي يشكل منذ الآن موضوعاً شديد الاستقطاب داخل إيران.

كما يتعاطف العديد من الإيرانيين أيضاً مع محنة أوكرانيا، والتي تستحضر بالنسبة إلى البعض هزائم إيران في حروب أوائل القرن الـ19 عندما اضطر القاجاريون للتنازل عن الجزء الشرقي من جنوب القوقاز لروسيا. ويشكل الحذر التاريخي الشديد من روسيا جزءاً من المشاعر الاستقلالية المتجذرة في إيران.

واقع الامر أن الأداء العسكري الضعيف لروسيا، وقدرة الغرب على التصرف الجماعي، خلقا شعوراً بالانكشاف الاستراتيجي في طهران. ويفترض أن يشكل ذلك تحذيراً للجمهورية الإسلامية من ألا تستسهل المغامرة.

وإذ تدرك إيران حالة انعدام الوزن التي تمر بها، نجد مواقفها تنوس وتضطرب. لا شك بأن إيران تتقن اللعب من تحت الطاولة، لكنها تعلم أن مستوى الاستقطاب الراهن لم يعد يترك الكثير من هوامش المناورة لا فوق الطاولة ولا تحتها.

من المثير جداً أن نراقب إيران الآن وهي تحول اختلاس الاستقطاب الدولي لتحقيق مكاسب في الإقليم. لكن أي مغامرة في هذا الوقت الدقيق، ستكون أم الأخطاء التي قد ترتكبها إيران وأكثرها كارثية عليها.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى