منذ سنوات نقَّبت في رفوف المكتبة الوطنية بحلب لمدة عام. تتالت الأيام فيه بطيئةً ثقيلةً. قلّبتُ خلالها جرائد صفراء مغبرةً. صدرت في النصف الأول من القرن العشرين. كنت أبحث في قسم الأرشيف عما كتبه الكاتب والشاعر (سعيد زهور عدي ) في جرائد قديمةٍ مهملةٍ. كلما أدركني التعب والسأم أنفض عني الخمول بترديد جملةٍ للشاعر زهور يقول فيها: (حمداً لمن جعل العلم سبباً للنجاح ) . أثناء بحثي المضني قارئاً ومدوناً في دفتر لا يفارقني، وجدت صورةً لوزير داخليةٍ تتصدر الصفحة الأولى من تلك الجرائد. ظننت أنه الوزير الوحيد في تلك الحكومات المتعاقبة، قرأت ما كُتب عنه بخطٍ عريضٍ: -وزير الداخلية أسعد قنبر يكرِّم ضباط الدرك. -أسعد قنبر يزور سجن الشيخ حسن في دمشق. -قنبر يتفقد سجن القلعة. -الوزير أسعد يوقف إضراب عمال النسيج بحمص. بأمرٍ من وزير الداخلية يُنقل المساجين السياسيون إلى سجن تدمر. واكب هذا الوزير وصورته أعمال بحثي، فاختلط عليَّ الأمر بين الوزير أسعد والشاعر سعيد. نطَّتْ صورته بين أبيات الشعر وقبعت بين كلمات النقد الأدبي. طاردتني إلى السقيفة التي أسكنها والمطلةِ على مقبرة ( (مقهى الشعار). تخيلتُ الوزير قنبر رجلاً طويل القامة عريض المنكبين. يسدُّ بجثته مدخل قلعة حلب. يضع على رأسه طربوشاً تبرز تحته عينا نسرٍ وحاجبا بومةٍ. يحمل بيده سوطاً جلدياً أسود. تتراكض حوله حاشيةٌ غلاظٌ، بينما صورة الشاعر زهور انسحبت بهدوءٍ إلى ركنٍ قصيٍّ من الذاكرة. عدتُ أدراجي إلى الجامعة. اعتذرت عن متابعة بحثي من أستاذي الذي يشرف على رسالة تخرجي. لكنني لم أبح له بأسباب اعتذاري. أصرَّ على البحث، فرجعت إلى المكتبة مهزوماً. أجرُّ خلفي روحاً محطمةً. ترافقني شماتة صورة الوزير. كانت شخصية الكاتب والشاعر زهور تشدني إلى متابعة البحث. لازمني بجسمه الضئيل في المكتبة. شعرتُ بوجوده، سمعت صوته قارئاً ما دونه من شواهد من الشعر الجاهلي والإسلامي، أحسست بأنفاسه حولي، كنت أراه في أحلامي يمسك بيدي، نمشي على ضفاف (العاصي) بين الورود في ظلال أشجار الجوز والصفصاف. يردد أبياتاً من نظمه. يقطِّع أخرى. يسمي بحورها على شدوٍ حزينٍ من نواعير حماة. لكن هذه الأحلام كانت تنتزع بالقوة من أمام عينيَّ، فيبتعد الكاتب زهور بوجهه الملائكي جامعاً أوراقه العتيقة لتبرز صورةُ الوزير قنبر. إلى الآن لا أعرف ماذا أصابني، ولا أجد تفسيراً لما حدث معي. إذ كنت أشعر بقشعريرة تداهمني. بثقلٍ يطبق على صدري كلما طالعتني عينا قنبر ونظراته الحادة. أصبحت أمام نفسي متهماً يطاردني ذلك الوزير وعناصر أجهزته. تقصيتُ أخبار الوزير والشاعر، علمتُ أن الكاتب زهور توفي منذ سنوات طوال، فحزنت عليه حزن من فقد أباً أو صديقاً، وتمنيت أن يكون الوزير هو الآخر في عداد الأموات، ثم تركت أمري مع قول الشاعر: ستبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويأتيكَ بالأخبارِ مَنْ لم تُزَوِّدِ في رحاب ما كتبه زهور كنتُ بجلسة أنسٍ مع (الحجاج) و(الفرزدق) و(جرير) وبيننا جاريةٌ مليحة الوجه والقد. قال الحجاج للشاعرين: أيكما مدحني ببيتٍ فضّل فيه فهذه الجارية له. في تلك الساعة تمنيت أن أكون شاعراً. فقال الفرزدق: مَنْ يأمنِ الحجاجَ والطيرُ تتقي عقوبتَه إلا ضعيفَ العزائمِ -وقال جرير: مَنْ يأمنِ الحجاجَ أما عقابُه فمرٌّ وأما عهدُه فوثيقُ -صرختُ بدوري: -بمن أتقي الوزير قنبر؟.. تلفت حولي، رأيت عيون مَن كان في قاعة المكتبة تأكلني فكتبت في دفتري: لكل زمانٍ حجاجه. قرأت بعد أيام ) موازنةً) كتبها الشاعر زهور بين (امرؤ القيس) و(النابغة) في وصفهما طول الليل: -)كان الشعراء يشكون طول الليل لتضاعف بلائهم به). تذكرت طول ليلي وبلائي، وأنا أتقلب على فراشي متوسداً الخوف، منتظراً قدوم الوزير ورجاله. مجاوراً مدينة الأموات. تابعت القراءة: -)وشدة كلفهم لقلة المساعد وفقد المجيب، ولتقييد للحظ عن أقصى مرامي النظر الذي لا بد أن يؤدي إلى القلب بتأمله سبباً يخفف عنه.( تساءلت: -مَنْ يجيب قلبي ويحمي لحظي من رؤية أسعد؟.. بدأت أخاطب أصحابي: -نعم سيدي الوزير. .. أهلاً قنبر بك. -ألا يعجبك اسم قنبر؟ فقد كان أقوى وأعظم الوزراء في زمانه. أتدارك أمري بالضحك.. أضحك حتى تنفر الدموع من عينيَّ. في تلك الأيام تعمقت صداقةٌ بيني وبين زميلةٍ فاتنة الجمال ذات عينين خضراوين. نمى الحب بيننا. اتخذنا الحديقة العامة ومن جوار تمثال (أبي فراس الحمداني) عش لقاء. أُسمعها فيه شعراً عذرياً. تقرأ لي بعضاً من رسائل (مي زيادة) ورسائل عشاقها الكتاب. أكبرنا فيها أنها فتحت ذراعي صالونها للأدباء والشعراء. كنت أهرب إلى هذه الصديقة من شقائي في المكتبة الوطنية. أشعر بالدفء والطمأنينة بقربها. لكن الوزير بمكره ودهائه تتبع خطاي إلى الحديقة العامة. تعرف على هذه الفتاة. تسلل إلى وجهها الجميل وأطلّ منه، فنفرت منها. تحاشيت لقاءها وأنا أبكي اغتيال حبي.. -كتبتُ في دفتري: قال الأديب زهور تحت عنوان (معاني النابغة -بدأ كلامه بخطاب محبوبته (أميمة) على عادة العرب ببدء قصائدهم بذلك. فقال: اتركيني لهم متعب أيتها المحبوبة ولليلٍ أقاسي فيه المصاعب، بطيء الكواكب تطاول عليّ حتى قلت ليس بمنقضِ). أشرفت دراستي لأعمال الكاتب والشاعر سعيد زهور على الانتهاء. فرحت لتحرري من دار الكتب الوطنية، وكان آخر ما كتبته في دفتري: -(أظن أن السبب في إجادة أبي الطيب أنه شجاعٌ صنديد لاقى الأهوال والمعارك العظيمة، لذلك كان تصويره لمواقف الأبطال أصدق من تصوير البحتري الذي لا يعرف تلك المواقف إلا بالسماع). -في هذه اللحظة سمعت حركةً خلف ظهري. رفعت نظري. رأيت الوزير قنبر يقف فوق رأسي. صدمتني المفاجأة. سحقت قلبي أقدامٌ همجيةٌ، فتوقف عن الدق، قلَّبت صفحات الجريدة التي بين يدي. فتحت على الصفحة الأولى. قارنت بين الصورة والوجه وبين الوجه والصورة. قرأت ما كُتب تحتها: -وزير الداخلية أسعد قنبر يلقي القبض على آخر المجرمين في مدينة حلب.. حدثت نفسي: إذن اختارني من دون الموجودين في قاعة المكتبة. جاء خلفي إلى أرشيف الصحف وأنا متلبسٌ أتتبع أخباره.. نظرت إلى الرجل الذي تطاول حتى وصل إلى أعلى رفوف الكتب. وقفت. خبأت خوفي في صدري. سألته: -أأنت أسعد قنبر؟ نعم.. اصفر وجهه المتغضن. أغمض عينيه. احتضن قلبه بيده اليمنى كأنه خشي عليه من السقوط. -أأنت وزير الداخلية؟ -نعم.. استند على حافة الطاولة. تأمل الجريدة بنظارتيه. قال بصوتٍ مخنوقٍ: -بعد ثلاثين عاماً وما تزال الأجهزة تنقب خلفي.. تراجع إلى الخلف، حمل عكازته. استجمع شيخوخة قواه الجسدية وخرج مذعوراً
سعيد زهور: هو الشيخ سعيد زهور عدي الأديب والكاتب والشاعر /1887/ 1980