“على قلق كأن الريح تحتي”

حسن النيفي

لم يكن القلق (الكوروني) الذي اخترق دوائر السلطة في إيران باكراً، حائلاً دون أن يتوجّه جواد ظريف، ملثّماً بكمامته، قاصداً دمشق، ذلك أن ثمة قلقاً آخر، لا يقل خطورة عن وباء الطبيعة، يوجب على ظريف أن يتخلّى عن ظرافته، ويرتدي درعاً آخر يليق بمهامّه المستجدّة، كيف لا، وقد بدا الوقت مواتياً للوزير الإيراني أن يؤكد للجميع أن جدارته بإدارة السياسة الإيرانية في سورية لن تكون أقل من قاسم سليماني، الذي طالما أزعجت سطوته وجبروته الخارجية الإيرانية خلال السنوات السابقة.

لعلّ التحدّيات التي باتت تواجهها طهران في سوريا، بلغت حدّاً من التعقيد الذي يوجب إعادة النظر في الاستراتيجية التقليدية المتمثلة بالحضور العسكري المباشر، والإمساك بمفاصل قيادات جيش الأسد، وضمان ولائها، والسعي الدائم إلى التحكّم بالقرار العسكري، فضلاً عن الاحتواء الاقتصادي، والنشاط الدعوي الإيديولوجي على المستوى الشعبي، ذلك أن هذه الاستراتيجية كانت تمليها طبيعة المواجهة التي يخوضها نظام الأسد وحلفاؤه في مواجهة ثورة السوريين، أمّا اليوم، فربما بدت إرهاصات عديدة تؤذن ببروز مواجهة أخرى، ينبغي لطهران التحضير لها، ولعل هذا ما دفع جواد ظريف ليخرق عزلته الكورونية، معلناً رغبته في أن يكون الموجه الحقيقي لليد الإيرانية في سوريا، وليس إسماعيل قاآني، القائد الجديد لفيلق القدس.

حليفا الأمس، اللذان جمعت بينهما مصالح مشتركة عديدة، وعلى رأسها الحفاظ على نظام بشار في سوريا، يخوضان اليوم مواجهةً غير معلنة، إلّا أن إرهاصات هذه المواجهة لم تعد خافية، كما أنها لا تنذر بصدام مباشر بين الطرفين، بل ما نشهده هو نوع من التدافع غير المباشر، بدأته روسيا قبل عام، حين رحّبت باستهداف إسرائيل لمواقع ميليشيات إيران داخل سوريا، بالتنسيق مع موسكو، وربّما أبدت طهران تفهمّها – آنذاك – للتنسيق بين روسيا وإسرائيل، يقيناً منها أن درجة العداء الإيراني الإسرائيلي لن تصل إلى حدّها الأقصى، بل يمكن القول: إن الوجود الإيراني في سوريا، سواء على المستوى الرسمي، أو الميليشياوي، لم يكن بعيداً عن أنظار إسرائيل.

ولكنّ ما يستفز تل أبيب هو الخلاف حول تموضعات إيران ومشتقاتها على مناطق محددة في الجغرافية السورية، ولعل هذا التفاهم المشترك بين الأطراف الثلاثة – إسرائيل وإيران وروسيا – كان مبعث اطمئنان لطهران، على الرغم من الاستهداف الإسرائيلي المتكرر لتموضعات قواتها في سوريا.

أمّا أن يصبح نظام بشار الأسد مستَهدفاً من جانب الصحافة الروسية طيلة أيام متوالية، وعلى مستويات وجوانب عديدة، فذلك ما لا يبعث على الاطمئنان بالنسبة إلى طهران، علماً أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها بشار الأسد لتوبيخ الصحافة الروسية، إذ سبق للروس أنْ نعتوه بـ ( ذيل الكلب)، ولكن لا غضاضة في ذلك، طالما أن التوبيخ الروسي لم يكن سوى لسعات، أو نوع من فركة الأذن، إلّا أن الأمر قد تجاوز ذلك على ما يبدو، ذلك أن حديث الصحافة الروسية أراد التركيز على الفساد المالي لبشار وحاشيته المقربة، مؤكّدا أن الهمّ الحقيقي للطغمة الحاكمة هو اللصوصية والانتفاع الشخصي، الأمر الذي يظهر عجز نظام الأسد عن إدارته للبلاد، بل إن صحيفة البرافدا المعروفة بقربها من الحكومة، ذهبت أبعد من ذلك، حين وصفت رأس النظام بأنه كاذب في ادعائه محاربة داعش في البادية السورية.

لعله من الصحيح، أن كل ما صدر عن الصحافة الروسية حيال بشار الأسد، لم يكن يعبر عن موقف رسمي لروسيا، وأنه يبقى رأي الصحافة، ولكن ما يمكن تأكيده أيضاً، أن الصحافة الروسية ليست تلك الصحافة الحرّة التي يمكن أن تعكس آراء ومواقف مباينة جذرياً لمواقف الحكومة، وبالتالي ألا يمكن أن يكون مضمون ما روّجته الصحافة الروسية هو بإيحاء حكومي؟ يمكن ذلك، وكذلك ألا يمكن أن تكون مجمل هذه المواقف الروسية الناقدة لنظام الأسد هي مجرّد ضغوط يُراد منها ابتزاز النظام والضغط عليه لا أكثر؟ يمكن – أيضاً – أن يكون ذلك صحيحاً، ولكن بكلتا الحالتين، تبقى النتيجة واحدة بالنسبة إلى طهران، وهي أن الضغوط الروسية على نظام الأسد باتت باعثة للقلق، ولعل هذا ما حمل جواد ظريف إلى القيام بزيارة خاطفة لم تستغرق أكثر من يوم واحد، ليفصح في دمشق عن هواجس إيران التي تتمحور في أمور ثلاثة:

1 – تدرك إيران، كما سواها، أن حرص الروس على نظام الأسد، هو حرصهم على مصالحهم ذات الأشكال المتعددة، واستمرارهم بالحفاظ على رأس النظام إنما هو مرهون بحماية تلك المصالح، وحين يجدون أن بشار الأسد لم يعد قادراً على أداء مهامه (الوظيفية) بالنسبة إليهم، فعندئذٍ ليس ثمة ما يمنع أن يضعوه في بازار المقايضات، أمّا بالنسبة إلى طهران، فالأمر مختلف، ذلك أن الوجود الإيراني في سوريا لم يكن قائماً في الأصل وفقاً لمعايير المصالح الاقتصادية أو الجيوسياسية فحسب، بل فضلاً عن ذلك، هو قائم لاعتبارات طائفية أيضاً، جعلت ارتباط نظام الأسد بإيران – على مدى عقود من الزمن – ارتباطاً عضوياً، إذ يصحّ القول: إن زوال نظام الأسد الطائفي من سدّة الحكم، هو النذير المباشر لزوال النفوذ الإيراني من سوريا.

2 – لم يعد خافياً امتعاض طهران من التفاهمات التركية الروسية التي بدأت تُظهِر انزياحاً تدريجياً للدور الإيراني وخاصة حول ما يجري في الشمال السوري، لقد استُبعِدَت إيران من اتفاق سوتشي في أيلول 2018 ، وكذلك لم تكن حاضرة في اتفاق الخامس من آذار الماضي بين الأتراك والروس، وما عزّز هذا الامتعاض هو تخلّي الروس عن توفير الحماية الجوية لميليشيات إيران إبان الحملة العسكرية التركية التي استهدفت قوات النظام في أواخر شباط الماضي، وقد لوحظ – آنذاك – ردّة الفعل الإيرانية من خلال حشد مزيد من ميليشياتها في مدينة سراقب ومحيطها، وكذلك في بلدة كفرنبل، ما يعني أن طهران تسعى لأن يكون حضورها الميداني في الشمال السوري مقروناً بحضور سياسي، تخشى أن يستحوذ عليه الروس وحدهم.

3 – لقد أشادت التقارير العسكرية الأميركية الصادرة عن البنتاغون في بداية نيسان الجاري، باستهداف سلاح الجو الإسرائيلي للمقارّ العسكرية الإيرانية وتوابعها داخل سوريا، واعتبرت تلك التقارير أن هذا الاستهداف يمكن أن يكون استراتيجية ناجحة للحد من تمدد إيران في سوريا، ولم تستبعد تلك التقارير قيام الولايات المتحدة باستهداف مماثل للقوات الإيرانية إذا اقتضى الأمر ذلك، على ضوء التوتر الحاصل بين واشنطن وطهران، ولعلّ هذا ما يدفع إيران نحو التفكير بآليات دفاعية جديدة ، تحسّباً لأي استهداف أميركي لقواتها الموجودة في سوريا، وهذا ما يريد جواد ظريف مناقشته مع الأسد، خاصة أن الروس لن يكونوا حليفاً فاعلاً ومخلصاً لإيران في مواجهة مفترضة كهذه.

هل يمكن أن يكون هجوم الصحافة الروسية على الأسد سبباً في تحويل التدافع الإيراني الروسي الخفي، إلى مجاهرة عدائية في المدى القريب؟ لعله من المستَبعد ذلك، طالما أن الصراع في سوريا ما يزال قائماً، ولا توجد معطيات ملموسة تشير إلى اقتراب توافق دولي على إنهاء الحرب، وليس ثمة ما يدعو إلى الاستعجال نحو التعارك لاقتسام الكعكة السورية، ولكن ألا يمكن للتوقعات التي توحي بتغيير الموقف الروسي حيال نظام الأسد – ولو كانت مجرّد توقعات – أن تكون مبعث قلق دائم لإيران؟ الجواب: نعم، وبكل تأكيد.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى