وظّفت إسرائيل تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا في جانبين؛ تنشيط الدبلوماسية الإسرائيلية، وسعيها إلى الوساطة بين الطرفين، على الرغم من محدودية فرص نجاحها، في هذه الأزمة الدولية المعقّدة. وتفعيل “استراتيجية التطبيع الإسرائيلية” إقليميًّا (مع تركيا ومصر والإمارات والبحرين والمغرب)، على نحو يكشف كثافة الهجوم الدبلوماسي الأميركي/ الإسرائيلي على الشرق الأوسط، والسعي الحثيث إلى توظيف تداعيات الحدث الأوكراني، لكيلا تفلت المنطقة من أيدي الفاعل الإسرائيلي (الوكيل الإقليمي الأكثر موثوقية بالنسبة لواشنطن).
وعلى الرغم من التحسّن النسبيّ في مكانة إسرائيل الإقليمية، سيما بعد موجة الثورات المضادّة والانقلابات منذ منتصف 2013، فإن ذلك لم يعكس تحسّن أوراق إسرائيل بالضرورة، بقدر ما يرجع إلى ثلاثة عوامل؛ أولها الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب (2017- 2020)، خصوصًا في صيغة “صفقة القرن”. ثانيها تزايد ضعف “الإطار العربي”، بسبب تغييب قضيته المحورية (فلسطين)، وبروز أولويات أخرى (مثل “التصدّي للخطر الإيراني”، أو “مكافحة الإرهاب”) بالتوازي مع تفاقم الصراعات العربية العربية، وهيمنة تأثير العامل الخارجي وتوظيفه اشتداد الصراعات الأهلية العربية (في العراق وسورية واليمن والسودان وليبيا). ثالثها نجاح الدبلوماسيتيْن، الأميركية والإسرائيلية، في توظيف أخطاء النظم العربية “المنهكة” في “الهرولة” نحو التطبيع، سيما بعد جائحة كورونا التي كشفت مقدار “الانكشاف” أمام الضغوط الخارجية والداخلية، خصوصًا في حالات السودان ولبنان ومصر والمغرب.
وبغية تحليل تفاعلات/ مستجدّات الشرق الأوسط بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، تستعرض هذه المطالعة أهم ركائز النظام الإقليمي الجديد، بدايةً من محورية العلاقات الإسرائيلية المصرية، ومرورًا بتطور العلاقات الخليجية الإسرائيلية، وانتهاءً بالتحديات أمام استكمال “الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية”.
الشراكة المصرية الإسرائيلية: ركيزة النظام الإقليمي
على الرغم من توالي التطورات في عملية التسوية مع إسرائيل منذ عقود، تبقى التداعيات الاستراتيجية لمعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية (مارس/ آذار 1979)، محورًا أساسيًّا في أية ترتيبات أمنية إقليمية؛ إذ كرّست المعاهدة ثلاث نتائج متداخلة؛ إنهاء حالة الحرب بين إسرائيل ومصر، وتحييدها عسكريًّا في الصراع العربي – الإسرائيلي، وتحويل الجيش المصري إلى مهام أخرى، تنموية واقتصادية، بما يشغله بالمهام الداخلية، ويبعده عن مواجهة “الخطر الخارجي”. إقامة نظام استراتيجي أميركي في المنطقة، أو حلف استراتيجي يشمل مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، ويمكن أن يتوسّع وظيفيًّا ليضم دولًا أخرى، حسب حاجات واشنطن وتل أبيب. تدعيم الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وتكثيف التدخل في منطقتي الخليج والمشرق العربييْن خصوصًا[1].
ولئن كان بعضهم لا يزال يجادل في أن مصر استطاعت الحفاظ على دورها الإقليمي، وأبقت علاقتها بإسرائيل، في عهد حسني مبارك (1981- 2011)، ضمن “السلام البارد”، فإن انقلاب 3 يوليو (2013) أوجد نمطًا مختلفًا من العلاقات؛ إذ جرى “التوافق على استراتيجية موحدة وتشكيل فرق عمل مشتركة لتنسيق سياسات الطرفين تجاه التحوّلات في الشرق الأوسط، وتحديدًا تجاه “الإسلام المتطرّف”؛ إذ تفاخر رئيس وزراء إسرائيل السابق، بنيامين نتنياهو، بأن التحالف الإقليمي الذي بات يربط بلاده بمصر وعدد من الدول العربية يرتكز إلى المصلحة المشتركة في الحرب على “الإسلام المتطرّف”، بعد أن أدرك العرب حجم إسهام إسرائيل في “الحرب على الإرهاب”. كما أشار وزير الخارجية والدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه أرينز، إلى أن التزام نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في مواجهة الحركات الإسلامية يتقدّم على التزام مصر بتأييد قضية فلسطين. وقد أفضت هذه التطوّرات إلى تسريع وتيرة التطبيع؛ بحيث إن مصر ودولًا عربية أخرى لم تعد تشترط للتعاون مع إسرائيل، إحداث تقدّم على مسار حل القضية الفلسطينية[2].
وعلى الرغم من ارتباط مصر اقتصاديًّا بدول الخليج، خصوصًا السعودية والإمارات، فإن أجندة القاهرة للأمن الإقليمي لا تتطابق مع الأجندة الخليجية، سيما أن الدور الإيراني لا يهدّد، على نحو جوهري، المصالح المصرية، باستثناء أمرين؛ أحدهما التأثير على التوازنات الإقليمية انطلاقًا من تزايد الدور/ النفوذ الإيراني في أغلب دول المشرق العربي (العراق وسورية ولبنان وفلسطين)، بيد أن ذلك لا يمثّل مشكلة كبيرة في ظل ثلاثة متغيرات: غياب الرؤية الاستراتيجية المصرية، وغلبة منطق ردود الفعل على سياستها الخارجية إجمالًا، وتواضع الطموح في لعب أي دور إقليمي مبادِر، (حتى في مناطق جوارها المباشر فلسطين وليبيا والسودان، وهي سمة موروثة عن عهد مبارك). والآخر احتمال تطور توظيف طهران، حركة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن لتهديد أمن البحر الأحمر؛ إذ تخشى مصر من تهديد الحوثيين حركة الملاحة في باب المندب، فضلًا عن إمكانية إمدادهم الجماعات المسلّحة في سيناء بطائرات مسيّرة.
وثمّة من يرى أن مصر تردّدت في “المشاركة في اجتماع النقب (27 – 28/ 3/ 2022)، لأنه يمنح إسرائيل دورًا قياديًّا في المنطقة على حسابها؛ فالقاهرة تتحفظ على المقترحات الإسرائيلية لبناء منظومة دفاع جوي في عدد من الدول العربية، لمواجهة الطائرات المسيّرة والصواريخ البالستية التي يمكن أن تستهدف إسرائيل، وكذلك إقامة نقاط ومكاتب لأجهزتها الأمنية في دول عربية، تحت غطاء التنسيق الأمني والاستخباري”[3].
بيد أن ثمة اعتباريْن، سياسي واقتصادي، دفعا مصر إلى المشاركة؛ أحدهما يتعلق بـ “الحصول على دعم من الإمارات وإسرائيل للضغط على إثيوبيا في قضية سد النهضة؛ من أجل التجاوب مع المقترحات المصرية بشأن هذه القضية”. ويتعلق الدافع الآخر بأربعة مجالات: أولها “الحصول على مساعدات مالية من دول الخليج والولايات المتحدة، بهدف مواجهة الأزمة المالية التي تعانيها مصر جرّاء ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية الأساسية، بعد أزمة أوكرانيا”[4]. الثاني، زيادة حصّة مصر من مشروعات إعادة إعمار ليبيا؛ إذ اجتمع وزير القوى العاملة المصري، محمد سعفان، مع ممثلي تحالف الشركات المصرية العاملة في ليبيا، (أوراسكوم للإنشاءات، وحسن علام للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة)، بهدف تسهيل سفر العمالة وشحن المعدّات بعد انتهاء شهر رمضان، لتنفيذ المشروعات في ليبيا[5]. الثالث التفاهم بين مصر والإمارات وإسرائيل على إقامة مدينة صناعية في شمال سيناء، بالقرب من الحدود مع قطاع غزة، تمهيدًا لتهدئة طويلة المدى بين إسرائيل والقطاع. وأخيرا تنشيط السياحة الإسرائيلية في سيناء، لتعويض تراجع السياحة الأوكرانية والروسية، ومنح شركات الطيران الإسرائيلية، التصاريح لتسيير خط الطيران الجديد بين مطاري اللد (بن غوريون) وشرم الشيخ، فضلًا عن سماح المخابرات العامة المصرية لشركات السياحة بتنظيم رحلات حج الأقباط إلى مدينة القدس المحتلة[6].
السعودية والتطبيع الخليجي الإسرائيلي
على الرغم من أن الأزمة الأوكرانية يمكن أن تفيد الرياض، فإن موقع السعودية في النظام الإقليمي الجديد قد يكون من أهم القضايا “المسكوت عنها”، سيما مع تحوّل سياساتها الإقليمية إلى التقارب مع الثلاثي المصري الإماراتي الإسرائيلي، وإعادة ضبط علاقتها بالثنائي التركي الإيراني، رغبةً في دفعهما إلى الاعتراف الصريح بمكانة السعودية عربيا وإقليميا.
وعلى الرغم من الغياب السعودي عن قمة شرم الشيخ (22 مارس/ آذار الماضي) واجتماع النقب، فإنها تبقى “الحاضر الغائب”، بحكم التقارب الواضح مع إسرائيل، وبروز فرصة أمام الرياض بسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية على أمن الطاقة العالمي، ورغبتها في استثمار ذلك لتصحيح مسار العلاقة مع واشنطن في عهد الرئيس بايدن، سيما التواصل المباشر مع ولي العهد محمد بن سلمان، بوصفه الحاكم الفعلي للسعودية.
وثمّة من يرى أن السياسة السعودية انتقلت بعد تولي الملك سلمان عام 2015 من “الدبلوماسية الحذِرة والمناورة” إلى سياسة “تدخلية”؛ إذ تحاول الرياض تحت قيادة محمد بن سلمان أن تصبح قوة عربية إقليمية، حتى لو تطلّب ذلك إجراء تحولاتٍ كبيرة في تحالفاتها، عبر تعاون أو شراكة أوثق مع إسرائيل[7]؛ إذ أصبح مطروحًا حل مشكلات العلاقات السعودية الأميركية عبر تسوية تتضمن: إنهاء الحرب في اليمن، والاعتراف بإسرائيل، وتحمّل السعودية مسؤولية أوضح في قضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي.
وربما يمكن فهم موقع السعودية من التطبيع الخليجي الإسرائيلي، بصورة أفضل، عبر مفهوم “أنظمة الأمن الضِمْنيّة” (Tacit Security Regimes)؛ فالعلاقات الإسرائيلية (مع السعودية) والإمارات والبحرين ليست “تحالفات رسمية”، تستند إلى اتفاقات أو وثائق مكتوبة، وإنما هي مظهر لـ “نظام أمني غير معلن”، ما يسمح بالتعاون بين هذه الأطراف، سيما بشأن إيران، من دون تأجيج معارضة داخلية خليجية، بسبب رفض سياسات اليمين الإسرائيلي في القدس والضفة الغربية[8].
وفي هذا السياق، ثمّة أربعة معالم للأنظمة الأمنية الضمنية؛ أولها عدم تحكّم عنصر التباعد الجغرافي في أنماط التبادل والتفاعل بين أطراف النظام؛ إذ تحدّد المصالح الأمنية والاقتصادية نطاق التفاعل ومستواه بين إسرائيل وهذه الدول الخليجية الثلاث. ثانيها توفّر تصور مشترك، بين أطراف النظام الأمني، للتهديد الإيراني. ثالثها النظام الأمني الضمني هو انعكاس للتصورات الأميركية، بخصوص التزاماتها تجاه أطراف النظام. رابعها تنوّع العلاقات بين أطراف النظام؛ إذ توظّف إسرائيل تفوقها التقني في مجال “الأمن السيبراني” (Cybersecurity)، خصوصًا مع الإمارات، التي أدمجته فعلا في أنظمتها للمراقبة، لتعزيز الأمن الداخلي[9].
وبعيدًا عن سياق الحالات الخليجية، يمكن القول إن تسارع خطوات التطبيع العربي مع إسرائيل، سيما بعد جائحة كورونا، يعبّر عن “علاقاتٍ إقليمية آنية”، أكثر من كونها “نظامًا أمنيًّا ضِمْنيًّا”؛ إذ يتجلّى غياب الرؤية الاستراتيجية عن أغلب السياسات الخارجية العربية التي تغلب عليها أربع سمات؛ هيمنة الأبعاد التكتيكية/ الجزئية/ البراغماتية. والعجز عن بناء شبكة تحالفات إقليمية سليمة (مع تركيا وإيران وباكستان وإثيوبيا). والتقصير العربي في تنويع العلاقات الخارجية (توطيد الصلات مع الصين وروسيا والهند). ضيق/ محدودية الخيارات والبدائل العربية، على نحو يدفع النظم الرسمية، إلى التحالف والتطبيع مع الفاعل الإسرائيلي على الرغم من خطورته، وتجاهل خبرات عملية التسوية على مدار أكثر من خمسين عامًا، التي تشير بوضوح إلى أن إسرائيل هي الرابح الأكبر من التسوية، التي يسيطر عليها مفهوم “الأمن الإسرائيلي” الذي يشكّل محور أية تفاهمات مع الأطراف العربية كافة.
لقد نجحت إسرائيل، إلى حدٍّ كبير، في حصر الصراع العربي الإسرائيلي كله في مسألة “أمن إسرائيل”؛ إذ أدّت التسوية إلى تشتيت الطاقات العربية واستنزافها والانتقاص من شرعية “الإطار العربي”، عبر فرض أربعة شروط إسرائيلية: تجزئة التسوية، وتحييد الأطراف العربية القوية عسكريًّا. تحصيل إسرائيل مزيدًا من “الشرعية الإقليمية” ونزع الشرعية عن قضية فلسطين والمقاومة. تغيير مكونات وقيم العقل الجماعي العربي، ليرضخ للتفسير الصهيوني للتاريخ ويبتعد عن ثقافة المقاومة والكرامة، لكي يحصل العرب على “التنمية والازدهار والسلام” ويتبنّوا “ثقافة السلام”. رفض إسرائيل التعامل مع أي نظام إقليمي في المنطقة، ما لم تكن عضوًا أصيلًا في تفاعلاته؛ بمعنى تغيير خريطة التفاعلات العربية عبر إدماج إسرائيل في نسيجها، وفرض “السلام الإسرائيلي”، الذي يعني سلام المنتصرين على المنهزمين[10].
تداعيات هيمنة إسرائيل على “الإطار العربي”
1- بعد انعقاد القمّة الثلاثية الإسرائيلية/ المصرية/ الإماراتية، في شرم الشيخ، ثم اجتماع النقب، الذي ضمّ وزراء خارجية أميركا وإسرائيل ومصر والمغرب والإمارات والبحرين (27 – 28 مارس/ آذار)، اتضح سعي واشنطن وتل أبيب إلى الاستفادة من تداعيات الأزمة الأوكرانية، خصوصًا في ظل احتمال أن تواجه إسرائيل تصاعد الهبّات الشعبية الفلسطينية، ما يطرح تساؤلًا مركَّبًا: ما هي مآلات “الإطار العربي” (وهيكله الأساسي المتمثل في جامعة الدول العربية) بعد تصاعد الاختراق الإسرائيلي عبر التطبيع والتحالفات الأمنية؟ وماذا بقي من تماسك “الإطار العربي”، بعد تغيير قضيته المحورية (فلسطين)، إلى بروز أولويات أخرى (مثل “التصدّي للخطر الإيراني”، أو “مكافحة الإرهاب”)، وتغيير هوية الإطار العربي وقيمه وحدوده وتفاعلاته وتحالفاته الخارجية، وانتهاءً باحتمال ذوبان/ اندماج هذا الإطار، في المحصلة النهائية، في نظام إقليمي شرق أوسطي، بقيادة إسرائيلية؟
2- تطوّر الاختراق الإسرائيلي للإطار العربي من الاتفاقيات السياسية/ الأمنية في معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، إلى التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني معها بعد اتفاقات أوسلو 1993، ثم جاءت المؤتمرات الاقتصادية الشرق أوسطية (الدار البيضاء 1994، عمّان 1995، القاهرة 1996، الدوحة 1997)، وصولًا إلى الشراكة الاستراتيجية والأمنية (في موجة التطبيع بعد جائحة كورونا، التي شملت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان)، ما يعطي مؤشّراتٍ قويةً بنهاية الصلاحية التفسيرية لمفهوم “النظام العربي”، الذي طبّقه جميل مطر وعلي الدين هلال في كتابهما “النظام الإقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية”.
3- بعد أكثر من أربعة عقود على التسويات والتطبيع مع إسرائيل، تفاقمت أزمة الدبلوماسيات العربية (باستثناء الجزائر والكويت وقطر)، بعد غياب “الرسالية” عنها وتخليها عن فلسطين، ما يؤكّد أن المبادرة العربية للسلام 2002 جاءت خالية من أوراق ضغط، وضمن دينامية ضعف؛ “فمن يتقدّم بمبادرة سلام عادة هو إما طرف محايد يرغب في التوسط بمبادرة يحافظ إزاءها كل طرف على موقفه إلى أن يتفق الطرفان، أو يعرضها طرف منتصر كجزء من ترجمة انتصاره سياسيا، أو طرف قادر على فرضها. أما طرف الصراع الذي يتقدم بها من دون أن يكون قادرا على فرضها، فحتى لو تقدم بها نظرياً، لا بد من أن تفسّر خطوته كتغيّر في الموقف ناجم عن ضعف يفتح الشهية لتغيّرات أخرى[11].
4- يعبّر تسارع التطبيع العربي مع إسرائيل، عن “تصاعد أزمة الشرعية الداخلية” في أغلب النظم السياسية العربية؛ فهو يوسّع الفجوة بين الشارع العربي والنظم الرسمية، ولا يحل أية مشكلة اقتصادية أو اجتماعية، بل قد يشكّل مصدرًا لأزمات اجتماعية وسياسية، كما ثبت في حالات مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
وبعيدًا عن ادعاءات/ مقولات مؤيدي التطبيع (من قبيل: أن “المواطنين العرب يتذمرون من عبء قضية فلسطين”، أو أن مواطني بلد ما “ليس لديهم مشكلة مع إسرائيل”، أو أنهم “يريدون الاهتمام بشؤونهم وقضاياهم الخاصة”، أو أن “ثمة تغيرا جذريا في الرأي العام العربي تجاه فلسطين”.. إلخ)، فإن نتائج “المؤشّر العربي” تكشف “شبه إجماع لدى المستجيبين عن أسئلة المؤشّر على رفض اعتراف بلدانهم بإسرائيل، وبنسب شبه ثابتة منذ استطلاع المؤشر الأول في عام 2011 وحتى عام 2020، وتصل النسبة إلى نحو 87% في الحد الأعلى، في مقابل 9% فقط وافقوا على أن تعترف بلدانهم بإسرائيل. ويتسق ذلك مع معارضة المواطنين العرب اتفاقيات السلام التي عقدت بين إسرائيل وأطراف عربية، وتقديرهم أن إسرائيل هي الدولة الأكثر تهديدا لأمن الوطن العربي”[12].
5- يؤجّج استمرار التطبيع الاستراتيجي مع إسرائيل صراعات عربية بينية، إما بسبب التنافس على التقرّب من دولة الاحتلال (كما يحدث في حالة الإمارات مع مصر)، أو قلق الجزائر، من تداعيات التطبيع بين المغرب وإسرائيل، بما يدخلها لاعبًا مؤثرًا في إقليم المغرب العربي، ويرفع من مستويات الخلاف القديم بين الجزائر والرباط[13]، ناهيك عن تعزيز وضع إسرائيل في القارّة الأفريقية، مع احتمال حصولها على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي[14].
تحدّيات الدور الإسرائيلي
على الرغم من التداعيات السلبية لهيمنة إسرائيل على “الإطار العربي”، ونشاطها الدبلوماسي وسعيها الحثيث إلى توظيف الأزمات الإقليمية والدولية، تعزيزا لمكانتها الدولية وشرعيتها الإقليمية، تبقى ثلاثة تحدّيات سوف تعجز إسرائيل عن مواجهتها؛ أولها تصاعد المقاومة الشعبية والحراك الفلسطيني، وعودة نمط “العمليات الفردية”، داخل “الخط الأخضر”، بعد تنفيذ الأسير المحرَّر، محمد أبو القيعان، عملية دهس وطعن، في بئر السبع بالنقب 22 مارس/ آذار الماضي، (مقتل أربعة إسرائيليين)، والتي تؤشّر على غضب فلسطيني متصاعد، لدى جيل الشباب خصوصًا، وقدرته على إعادة رسم “خريطة الاحتجاج المتنقل” بين النقب والقدس ومدن الضفة الغربية وتل أبيب، على نحوٍ يُظهر وحدة الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال، وعودة الحراك إلى المسجد الأقصى والتصدّي لاقتحامات المستوطنين المكثّفة في شهر رمضان، فضلًا عن عودة مدينة جنين ومخيمها إلى بؤرة المواجهات مع قوات الاحتلال، الراغبة في ترميم “الردع الإسرائيلي”، والتغطية على الفشل الاستخباري المتكرّر. وعلى الرغم من استمرارية مسعى إسرائيل إلى دمغ النضال الفلسطيني بـ”الإرهاب”، أو ربطه بنشاط تنظيم داعش .. إلخ، فليس متوقعا أن تحرز نجاحا كبيرا، سيما إذا تطوّر الحراك الفلسطيني إلى انتفاضة شعبية شاملة.
يتعلق التحدّي الثاني باحتمال عودة الحراك الشعبي العربي، بسبب تفاقم الأزمات المعيشية والاقتصادية والسياسية، وارتباك/ انكشاف أغلب النظم العربية في معالجتها، سيما بعد تداعيات الأزمة الأوكرانية على صعيدي الأمن الغذائي وأمن الطاقة العالمي.
ويتعلق التحدّي الثالث أمام هيمنة إسرائيل على الشرق الأوسط، بصعوبة تهميش دوريْ تركيا وإيران في النظام الإقليمي الجديد؛ إذ أدركت أنقرة أبعاد التحول الإقليمي بعد الأزمة الأوكرانية، وفضلت الانخراط بكثافة في مسار التطبيع مع إسرائيل (زيارة الرئيس الصهيوني، إسحاق هرتسوغ، تركيا 9 و10 مارس/ آذار الماضي)؛ إذ ترفض أنقرة وطهران المسّ بمكانتيهما الإقليميتين، وتريدان توظيف عزلة روسيا الاقتصادية؛ لأنّ الأخيرة ستضطر إلى الشراكة التجارية معهما، وستضطر أيضًا إلى التسوية معهما في مناطق النزاع التي تتشارك فيها هذه الدول. ومع توقّف مشروع “نورد ستريم 2” (يربط الغاز الروسي بألمانيا عبر أوكرانيا، بسبب العقوبات الأميركية)، تحاول تركيا ضمان سيناريو عبور غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، عبر تركيا بدلًا من اليونان[15].
على صعيد آخر، يبدو أن الصراع بين طهران وتل أبيب، على تبوء موقع القوة الإقليمية الأولى في الشرق الأوسط، سوف يتحوّل إلى مساحةٍ جديدةٍ من “الحرب السيبرانية” أو “الحروب غير التقليدية” عموما، من دون التخلي عن مساحات الصراع التقليدية، وذلك في سياق سعي كلا الطرفين إلى تأكيد قدراته ومكانته الإقليمية؛ إذ تعدّدت الهجمات المتبادلة (الهجوم على منشأة نطنز النووية الإيرانية 11/4/2021، الهجوم الإيراني على السفينة الإسرائيلية “ميرسر ستريت” 29/7/2021، الهجوم الصاروخي الإيراني على مواقع في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق 13/3/2022، الذي كان بمثابة رسالة متعدّدة الجوانب لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، بهدف عرقلة خطة لضخ الغاز الكردي إلى تركيا وأوروبا بمشاركة إسرائيل).
وفي هذا الإطار، ثمّة من يرى أن طهران باتت تميل إلى التصعيد ضد إسرائيل، وتحاول إيجاد معادلة ردع جديدة، استنادًا إلى انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط؛ إذ تبحث إيران عن دور إقليمي مهيمِن، يكون أكثر فاعليةً وتأثيرًا[16].
وإجمالًا لما تقدّم، ثمّة متغيران جوهريان في عملية إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، أحدهما تشكيل نظام دفاعي/ أمني جديد، يعكس مسعى واشنطن إلى إنشاء “تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي (Middle East Strategic Alliance)؛ إذ تقلّص أميركا وجودها العسكري المباشر في الخليج تدريجيا، وتحيل أمن الدول الخليجية إلى تقوية نفسها، والاكتفاء بتزويدها ببعض الأسلحة الدفاعية الأميركية، مع تحويل إسرائيل إلى قائد النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، خصوصًا بعد قرار الرئيس ترامب توسيع القيادة العسكرية الأميركية الوسطى (U.S. Central Command) في الشرق الأوسط، لتشمل إسرائيل، لتعزيز التعاون بينها وبين الدول العربية ضد إيران، كما نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” في 14/1/2021[17].
ويتعلق المتغير الآخر بتأسيس نظام طاقة جديد، يحاول توظيف الثروات النفطية والغازية العربية لخدمة المصالح الأميركية والأوروبية في الضغط على موسكو، عبر إيجاد بدائل عن النفط والغاز الروسيين.
وهو سيناريو يضع دولا عربية عديدة مصدِّرة للطاقة في موقف سياسي ملتبس، لكنه يعزّز مركزيتها في اقتصاد الطاقة العالمي، وربما يؤدي إلى مكاسب سياسية واقتصادية، خصوصًا في المديين، القصير والمتوسط. وهذا يتيح فرصة للسعودية والإمارات (حيث تتركز الطاقة الإنتاجية البترولية الفائضة في دول منظمة أوبك)، إضافةً إلى استفادة الدول العربية المصدِّرة للغاز، مثل قطر والجزائر ومصر وربما ليبيا[18].
[1] – رياض الأشقر، “المعاهدة المصرية-الإسرائيلية وأبعادها الاستراتيجية والعسكرية”، أوراق مؤسسة الدراسات الفلسطينية (2)، بيروت، ط2، 1986؛ عبد المنعم المشاط، “الأبعاد الاستراتيجية لاتفاقيات كامب ديفيد”، الفكر الاستراتيجي العربي، العددان 13 و14، ابريل-يوليو 1985، ص 55-72.
[2] – صالح النعامي، العلاقات المصرية- الإسرائيلية بعد ثورة 25 يناير، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2017، ص 141- 143.
[3] – وحدة الدراسات السياسية، “اجتماع النقب: دوافعه وخلفياته ومؤشرات فشله”، تقدير موقف، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات 3/4/2022. على الرابط:
https://bit.ly/35CmCm9
[4] – المصدر نفسه.
[5] – “مكافآت النقب” لمصر… زيادة حصة إعادة الإعمار في ليبيا ومشروعات مع إسرائيل”، العربي الجديد 8/4/2022. على الرابط:
https://bit.ly/3uOxp6F
[6] – “مصر: المخابرات توافق على حج الأقباط إلى القدس المحتلة”، العربي الجديد 10/4/2022. على الرابط:
https://bit.ly/3v0BWS0
[7] – Madawi Al-Rasheed, “King Salman and His Son: Winning the USA, Losing the Rest”, in: Madawi Al-Rasheed, (Editor), Salman’s Legacy: The Dilemmas of a New Era in Saudi Arabia, Oxford University Press, 2018, p. 250
[8] – Clive Jones and Yoel Guzansky, Fraternal Enemies: Israel and the Gulf Monarchies, Oxford University Press, 2019, pp. 10-11.
[9] – Ibid, pp. 18-19.
[10] – مجدي حماد، السادات وإسرائيل: صراع الأساطير والأوهام، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2019، ص 551- 555.
[11] – عزمي بشارة، أن تكون عربيًّا في أيامنا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص 158.
[12] – عزمي بشارة، “صفقة ترامب – نتنياهو.. الطريق إلى النص ومنه الإجابة عن سؤال ما العمل؟”، دفاتر سياسات عربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2020، ص 125- 129.
[13] – وحدة الدراسات السياسية، “خلفيات قرار الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب وتداعياته”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2/9/2021. على الرابط:
https://bit.ly/3yNFiaQ
[14] – وحدة الدراسات السياسية، “قبول طلب إسرائيل الحصول على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي: كيف حصل الاختراق؟”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 5/8/2021. على الرابط:
https://bit.ly/3rVPah4
[15] – جو معكرون، “تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على الشرق الأوسط”، تقييم حالة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 9/3/2022. على الرابط:
https://bit.ly/3I5u4n4
[16] – محمود البازي، “هل تتحول حرب الظل بين إيران وإسرائيل إلى حرب تقليدية؟ سيناريوهات الاشتباك: المقومات والنتائج”، ورقات تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات 24/8/2021. على الرابط:
https://bit.ly/3yktKfl
[17] – Michael R. Gordon and Gordon Lubold, “Trump Orders Military Shift to Spur Israeli-Arab Cooperation Against Iran”, The Wall Street Journal, Jan. 14, 2021. https://on.wsj.com/35IV3Ex
[18] – ناصر التميمي، “تداعيات الحرب الأوكرانية على الدول العربية المصدِّرة للطاقة”، ورقات تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات 19/4/2022. على الرابط:
https://bit.ly/3vH2Ajp
المصدر: العربي الجديد