في البداية لا بدّ من توضيح سبب الاهتمام بذلك الحوار والضغط من أجل تسهيله، مع أن» الخير» لا يحتاج لسبب لمن يفعله. فالحوار بين طرفين وطنيين في سوريا الممزّقة، تأسيس لمبدأ حلّ الأمور الكثيرة الكبيرة في البلاد من خلال الحوار، ويبدو ذلك الاحتمال أقرب إلى المنطق وأسهل من غيره، مع أنه بذاته لا يسير خطوة إلى أمام إلّا ويتعثّر عائداً إلى مكان قريب من البداية، مع حرارة أعلى في المشاعر والمواقف. ومن جهة أخرى لن يستطيع عرب الشمال الشرقي وسريانه أن يتحاوروا بدورهم إلّا مع طرف متوافق ومنسجم أمامهم، حتى لا يختلط «عبّاس بدبّاس» وتشتبك التكتيكات الجانبية بعضها في بعض. وذلك أكثر لزوماً حين يأتي موعد طاولة الحوار السورية الشاملة الحقيقية.
المسألة الأكبر هي استعادة وحدة سوريا، أو البدء بمسار تلك الاستعادة على الأقل. وبتطوير طروحات كردية أكثر اعتدالاً وتشجيعاً للسوريين الآخرين، من حيث قضية اللامركزية ودورها وأهميتها في شكل سوريا المستقبل، إضافة إلى العودة إلى المسار «الوطني» وحسم النقاشات حول ذلك المستقبل أيضاً من خلال الهويّة السورية الجامعة، التي تقنع المشكّكين بالقوى الكردية الذين يتّهمونها بالانفصالية.
ثالث الأسباب لهذا الاهتمام، يكمن في طبيعة القوى الكردية بطرفيها الكبيرين، التي هي جزء مهم جداً في الصف الديمقراطي، المعادي للاستبداد من جهة، والذي يشكّل بؤرة لوحدة تلك القوى المفتقدة في السياسة السورية المعارضة، أو المتنحيّة على الأقل. تلك الوحدة حائرة وضائعة بين هذين الطرفين، ما يجعلها فريسة أسهل للقوى التي تطمح إلى استرهان المعارضة الديمقراطية رغم تشتّتها، بعد أن ارتهنت المعارضات الأخرى من خلال التطرّف والتشدّد أو بذريعتهما إلى سياقات لا تتفق مع المصلحة الوطنية السورية، في قليلٍ أو كثير.
يختلف الطرفان أولاً في الحقل الأيديولوجي ذاته، أو النواة الأكثر قوة في الطرفين. فالطرف الأول المتمركز في» المجلس الوطني الكردي» المشارك في الائتلاف الوطني السوري المعارض ـ ومركزه في إسطنبول- يعتمد الأيديولوجيا القومية التقليدية، التي يطمح أو يحلم بتوحيدها بمناطقها الجغرافية الأربع المتوزّعة بين تركيا والعراق وإيران. وبين تلك المناطق، يبدو الجزء السوري أصغرها حجماً وتبلوراً، وتبدو قواه الكردية أكثر التزاماً بوحدة سوريا ونفي شبهة وجود نيّة الانفصال. والطرف الثاني المتعدّد الأسماء والتعبيرات: حزب الاتّحاد الديمقراطي، الإدارة الذاتية، مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، وهو الجناح السياسي لسلطة الأمر الواقع الفعلية في شمال وشرق سوريا، التّي تعزّزت مكانتها بعد قيامها بدور مهم في دحر «داعش» إلى البادية خارج تلك المناطق. يؤمن هذا الطرف بمفهوم ربّما تنطبق عليه صفة «ما بعد حداثي»، مشتقّ من كتابات عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني (التركي) السجين منذ زمن طويل؛ وهو مفهوم «الأمة الديمقراطية»، الذي لا ينفي مفهوم الأمة – القومية الكردية، ولكنه يتحدث عن» الشرق الأوسط» كلّه كاحتمال أمة ديمقراطية تساوي بين مواطنيها وقومياتها معاً، وتنزل إلى المستوى الوطني السوري، ثمّ إلى شمال وشرق البلاد.
حين اتفّق المجلس الوطني الكردي مع الائتلاف الوطني وانضمّ إليه، أضاف في ذيل الاتفاقية تحفظاً لصالح مشروع الفيدرالية في سوريا. هو يرى في ذلك المفهوم ومن دون تفاصيل ما يكفي لحلّ القضية الكردية مع الإقرار دستورياً بالقومية واللغة الكردية، والعودة إلى الاسم الأصلي للبلاد» الجمهورية السورية» بحذف كلمة» العربية» طلباً للمساواة. في حين تقوم الإدارة الذاتية – وهي شكل للحوكمة فريد من نوعه، فيه تطوير خاص للسوفييتات والكومونات والكانتونات بممارسة دور السلطة التنفيذية، بوجود قوات سوريا الديمقراطية – جيشها- وقوات أمنها- الأسايش- ومجلس سورية الديمقراطية الذي يشكّل تحالفها السياسي. وتقوم حالياً بصياغة ميثاق عقد اجتماعي، يشبه دستوراً مبدئياً ـ فريداً بدوره- تقول آخر مادة منه إنه عرضة للتعديل عند إقرار الدستور السوري المقبل للانسجام معه.
ابتدأ الحوار الكردي – الكردي أكثر من مرة ثمّ تعطّل، بدعم من الولايات المتحدة غالباً. وهو متوقّف حالياً منذ ما يقارب العام تقريباً. ويجري الحديث دائماً عن اختلاف حول ما تريده قوى الإدارة الذاتية من تكريس لسلطاتها مع تنازلات متفرقة، وما يريده المجلس الوطني من مشاركة في السلطات، مع تنازلات متفرقة أيضاَ. في حين تلعب قوى من خارج الطرفين، متداخلة مع الطرفين، دوراً أكثر أهمية في عرقلة ذلك الاتّفاق الممكن.. و»قد» تكون تلك في أنقرة وجبال قنديل، الطرفين الأكثر تنافراً وعداءً، واللذين لا مصلحة لهما حتى الآن في هذا الاتفاق لدخوله عرضياً على صراعهما ومعركتهما.
ترى تركيا في وجود الإدارة الذاتية مجرّد قناع لوجود عدواني لحزب العمال الكردستاني، ومن ثمّ يشكّل هذا خطراً على أمنها القومي. ولم تستطع الإدارة الذاتية حتى الآن أن تقنع الحكومة التركية بأنها لن تكون ذلك الخطر، مع وجود تجلّيات علنية لنفوذ أيديولوجيا أوجلان من جهة، ووجود البعض ممن كانوا يحاربون سابقاً في صفوف الحزب التركي، في تركيا. لذلك لن تتخلّى عن بقاء المجلس الكردي بعيداً عن الإدارة الذاتية. في حين، يركّز حزب العمال الكردستاني من مركزه الاستراتيجي في جبال قنديل شمال شرقي العراق، على صراعه الطويل مع الخصم الرئيس في تركيا، وهو بالطبع يطمع في توظيف شركائه في الفكر في تلك الحرب، في أية لحظة تكون مناسبة، بشكل سياسي واجتماعي وعسكري أيضاً. وحتى الآن، لم تجرِ محاولة جدية للبدء في معالجة القضية الكردية في تركيا، وما زال الصراع يندفع في انفجارات متعددة بين فترة وأخرى، تبعاً لمتغيّرات شتّى، فأيّ مصلحة لجبال قنديل في الحوار الكردي- الكردي في سوريا في هذه الحال؟
يكاد المعوِّقان الأخيران أن يكونا مطلقين وباعثين على نفض الأيدي من ذلك الحوار، يشهد على ذلك النشاط التركي الأخير في المناطق الكردية داخل تركيا، وكذلك داخل الحدود السورية بشكل مباشر أو عن طريق القوى الحليفة التي نتجت عن تطورات – وتفسّخات- الجيش السوري الحر- المعارض. ومن جهة ثانية أيضاً، تشهد الاعتداءات المتكررة على مكاتب المجلس الوطني الكردي وأحزابه، «المُغْفَلة» من حيث مرتكبيها، على دور المعوِّق الثاني ودوره – بدوره- في عرقلة ذلك الحوار والتفاهم وزيادة صعوباته، التي هي ليست قليلة أساساً، إلى حد يجعل استقراره على نتيجة مطلباً بعيد المنال. لا يمكن لأية قوة أخرى أن تساعد على تمرير وتسهيل ذلك الحوار إلّا الولايات المتحدة الأمريكية، بوجودها القوي في المنطقة مع التحالف الدولي ضد الإرهاب، ولأنّ لها دالّة عضوية على قوات سوريا الديمقراطية، حليفها العسكري المباشر في مهمتها، وكذلك لها ممرّ إلى دوائر صنع القرار في أنقرة أيضاً. ومن شبه المؤكّد أن ذلك الممرّ سوف يتسّع مع الحرب الأوكراني، تلك الأطراف تستطيع أن تضيف عزماً قوياً باتّجاه حلّ القضية الكردية في سوريا، والإسهام بقسط ربّما يكون ذا تأثير فاعل في الانتهاء من الاستبداد، وتوفير فرص أفضل للحلّ وتصنيع مستقبل أفضل لسوريا، كاد يكون مستحيلاً!
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي