عام مضى على رحيل المفكر والكاتب المناضل الجسور الأستاذ محمد خليفة، وفي مثل هذه الذكريات المرّة، تختلط المشاعر وتتقاطع الأحاسيس، وتقف بجلال وهيبة أمام حضرة كثير من المواقف والمشاهدات في محطات حياة الراحل المقيم، الحافلة بالبذل والعطاء والتضحية والزهد ونكران الذات.
وهي بكل ما فيها من جهد فوق طاقة البشر العادي، وبكل ما اكتنفها من معاناة وظلم، إلّا أنها تحولت بصبر ووعي المجاهد إلى دروس وعبر يستلهمها الأحرار، ويجدوا فيها النبراس ويلتقطوا منها البوصلة المؤدية إلى الطريق السويّ.
أود فى هذه العجالة، أن أمرّ سريعًا على بعض لمحات من صفات وخصال الراحل، فهو كان مثالًا للمثقف الشامل، حيث كان عميق التجذر فى كل ضروب المعرفة الإنسانية من سياسة وتاريخ وفلسفة وأدب، وكان ملمًا بتاريخ الشعوب الغابرة والآنية، وكان عادة ما يسقطها على حال العرب لاستخلاص الدروس، لعلها تفيد في وقت عزّ المرشد والرشيد. وكانت له مقدرة تنم على بصيرة، وقيادة تستحضر تاريخ العرب الغابر بما فيه من إشراقات قليلة ونكسات كثيرة – بفعل الصراعات والتناحرات – وتربطه بحاضر العرب المزري، وكأن لسان حاله يقول: “ما أشبه الليلة بالبارحة”.
كان عروبيًا قحًا، ناصريّ المبدأ، ولكنه كان منفتحًا على كل التجارب الإشتراكية في العالم، وكانت له علاقات متينة ومتواصلة مع الكثير من المفكرين في أوروبا، جمعتهم به ساحات النضال والكفاح فى الجزائر ولبنان، ولقد كان لبعضهم تأثيرًا مهما فى تجربته النضالية، أكسبته الصمود، وصقلته أمام التحديات العظام التى واجهته في حياته، ولعل من أهمها كانت علاقته الوثيقة مع المناضل الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلا، التي أخذت حيّزا مهمًا من حياته الحافلة.
وعلى الرغم من أنه كان يحمل همّ وطنه الصغير – سورية – بين جوانحه فى حله وترحاله، إلا أنه كان لا ينفك يعمل بكل قواه فى الدفع بالعمل العربي الجمعي في الوطن من المحيط إلى الخليج، بنفس القدر من الهمة والنشاط.
وكانت آماله عريضة في ثورات الربيع العربي، وكان يقدم لي النصائح في توجيه مسار الثورة السودانية، ويحذر من تآمر النظام العربي الرسمي عليها، ويطالب أن تظل على سلميتها، وألًا تنجر إلى العنف تحت أيّ ظرف، وألّا تدخل المكوّنات السياسية في خلافات، بل تؤجلها – إن وجدت – إلى ما بعد النصر.
وهي نصائح ذات قيمة، تكتب بماء الذهب، وليت قومي استمعوا لها وعملوا بها.
كان له بعد نظر وفراسة في كثير من القضايا، وأذكر منها موقفه من الثورة الإيرانية منذ البداية، وكنا نحن فى مرحلة الشباب، مندفعين بحماس منقطع النظير فى تأييدها ودعمها، نكاية في نظام الشاه، وكان رأيه مخالفًا، ويدلل على أنها ثورة عنصرية، شعبوية، طائفية، تؤسس لنظام “ديكتاتوري” يعادي العرب والسنة، وبذل جهدًا بإقناع الرئيس بن بلا – الذى كان مؤيّدا للثورة الإيرانية – بفكرته، بعد أن بعثه إلى طهران، وقضى فترة من الزمن، وثقت له قناعته.
وبعد مرور أكثر من أربعة عقود، صدق حدسَه، فها هي إيران تتمدد فى العراق ولبنان واليمن، وتكاد تبتلع وطنه الصغير سورية، وتهدد دول الخليج جمعاء.
في باكورة شبابه، عاش حلم الوحدة العربية الجامعة للوطن العربي الكبير، تحت مظلة “الحرية والإشتراكية” وكان شعارًا براقًا، يجذب ويطرب، وانساقت إليه أفئدة الملايين من شباب الأمة، الناشد إلى مجدها وريادتها، ولكن كانت العدة هزيلة، والإعداد عشوائيًا، فسرعان ما سقطت تلك المحاولات، وآلت إلى فشل بعد فشل، فكان إيمانه برسالته قويًا، وقناعاته ثابتة بمبادئه، فكابد في زرعها وترسيخها، وعندما اشتد عليه الخناق، ترك بعض رفاقه في حلب أمناء عليها، وحمل فكرته ورؤيته إلى لبنان المجاور، والتقى برفاقه في المسعى وفي الهدف، وبدأ مسيرة نضالية ثورية مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية، قادته ارتداداتها إلى هجرة قسرية من الوطن إلى أوروبا، لتطأ قدميه أرض اليونان، وصل فى وقت كانت معظم الحركات والأحزاب السياسية مؤيدة للقضايا العربية، ومتعاطفه مع شعوبها، فوجد البيئة المناسبة والخصبة للعمل السياسي والصحافي الحرّ، فخلق علاقات وثيقة مكنته من الدخول إلى المجتمع السياسي والثقافي، ومهدت له الطريق للتواصل مع الكثير من حركات التحرر فى أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث كانت اليونان في ذاك الزمان مفتوحة لكل المناضلين من أجل الحرية والإنعتاق، ولا سيّما فى مرحلة الرئيس الإشتراكي أندرياس باباندريو.
ثم انتقل فيما بعد إلى باريس فى مهمة إعلامية لصحيفة حزب الرئيس بن بلا، وبعدها إلى السويد، ولعل ما يميّز هذه الفترة، هو ما ناله من عنت وضيق وظلم ولكنه كان صابرًا صامدًا لا تلين له قناة، حاملًا رسالته، عاضَا عليها بالنواجذ، ولم يتنازل عنها قيد أنملة، على الرغم من القرح والعذابات.
كان اندلاع الثورة السورية، محطة، هي الأهم في مسيرته المعطاءة، حيث أعطاها كل جهده وفكره وأخذت الحيز الأكبر من اهتماماته وبذله، وكان يعمل ليل نهار في التنظيم، وبناء العلاقات السياسية، والدفع بالعمل الجبهوي الثوري إلى الأمام.
وكان يحاول نقل تجربة تلك الثورة العملاقة وتضحياتها، بكل ما لها وما عليها إلى الثوار فى الوطن العربي، كالسودان كما ذكرت آنفًا.
لقد انتقل إلى رحمة الله، والأمة في أمسّ الحاجة إلى جهده وثقابة فكره ووضوح رؤيته، وإلى عمق تحليله للأحداث، وربطها بالواقع، وإلى خطابه السياسي الهادئ، الرزين، وإلى موضوعيته وعقلانيته في الجمع بين الأضداد بالسهولة واليسر والتراضي.
ولا نقول إلّا ما يُرضي الله، فالموت حق، وهو سنّة الأولين والآخرين، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والأبرار، وحسن أولئك رفيقًا.
ينشر بالاشتراك بين موقع ملتقى العروبيين وموقع المدار نت