الأنهار العابرة للحدود: تقاسم المياه، مصدر للتعاون أم سبب للصراع؟

روبي روسل

هناك دول كثيرة تتشارك في مياه الأنهار. فما تأثير قيام دولة ببناء سدود على علاقتها مع الدول المجاورة؟ وما الذي يتحكم في الواقع بإمدادات المياه؟ تم توقيع قرابة 300 اتفاقية دولية بشأن تقسيم المياه منذ العام 1948، وفقا للأمم المتحدة، غير أن هذا الموضوع نادرا ما يحظى باهتمام إعلامي مناسب. ويقول الباحث المتخصص في قضايا المياه، سكوت مور، إن هناك أمثلة على وجود تعاون دولي في مجال المياه “استنادا إلى عدد الاتفاقيات الدولية التي تتناول إدارة الموارد المائية بين الدول. ولذلك يمكن قول إن حالات التعاون تزيد على حالات النزاعات”.

* *

قبل قيامها بغزو أوكرانيا، أعلنت روسيا أنها قصفت سدًا على قناة في شمال القرم كانت أوكرانيا قد شيدته بعد قيام روسيا بضم شبه الجزيرة في العام 2014، ما أدى في حينه إلى قطع إمدادات المياه الحيوية ونقص حاد في المياه في شبه الجزيرة.

وعلى الرغم من أن إمدادات المياه في شبه جزيرة القرم لم تكن السبب الذي دفع روسيا إلى غزو أوكرانيا، إلا أن معهد المحيط الهادئ الذي يحتفظ بتسلسل زمني لنزاعات المياه، قدم أمثلة على كيفية استخدام المياه كسلاح أو كذريعة أو كسبب لاندلاع النزاعات عبر التاريخ. ويقول شوك سوين، الرئيس السابق للتعاون الدولي في مجال المياه لدى منظمة اليونسكو وأستاذ السلام والصراع بجامعة أوبسالا في السويد، إن إمدادات المياه في شبه جزيرة القرم كانت مثالا آخر على هذا الأمر.

ويضيف أن تقاسم الموارد المائية عبر الحدود وبين الدول يمكن أن يكون فرصة لتعزيز التعاون بينها. وفي ما يتعلق بقضية أزمة المياه في شبه جزيرة القرم “كان يمكن للمجتمع الدولي أن يدفع روسيا وأوكرانيا إلى حل مسألة المياه، وفي هذه الحالة سيتم منح البلدين فرصة للحوار والتفاوض لحل مشكلة المياه وغيرها من القضايا”.

التوترات بسبب المياه

تجدر الإشارة إلى أن قرابة 40 في المائة من سكان العالم يعيشون حول الأنهار التي تخترق حدود الدول. وقد أدت ظاهرة التغير المناخي إلى معاناة مناطق عدة من الجفاف، ما يدعو إلى قول إن الخلاف حول تقاسم الموارد المائية عبر الحدود كان السبب في توترات كبيرة في جميع أنحاء العالم.

في شباط (فبراير) 2022، أعلنت إثيوبيا تشغيل سد النهضة على الرغم من الاعتراضات المستمرة والشديدة من قبل دولتي مصب نهر النيل؛ مصر والسودان، وسط مخاوف الدولتين من تأثير السد الإثيوبي على حصتهما من مياه نهر النيل الذي يعد مصدر المياه الرئيسي لكلا البلدين. وتزامن هذا الحدث مع إلقاء اللوم على الصين في ما تتعرض له تايلاند وكمبوديا من جفاف جراء بناء بكين سدودًا على طول نهر الميكونغ. فيما تصاعدت التوترات بين الخصمين اللدودين؛ الهند وباكستان، بشأن المياه المشتركة بينهما في حوض نهر السند.

وكشف معهد الموارد العالمية عبر خريطة تفاعلية أطلق عليها اسم “الماء والسلام والأمن” عن أن كوكب الأرض باتت تعصف به توترات ونزاعات مائية قد تتحول إلى أعمال عنف. وعلى الرغم من ذلك، يقول سكوت مور، مؤلف كتاب “السياسات المائية المحلية: الصراع والتعاون وبناء المؤسسات في أحواض الأنهار المشتركة”، إن مثل هذه الاضطرابات تحدث بشكل أساسي داخل نطاق حدود الدول وليس بينها. ويضيف مور أنه من النادر أن تتصاعد التوترات والنزاعات الدولية بشأن المياه لتصل إلى صراع شامل. وحتى عندما تندلع الخلافات بين الدول، لا يكون الخلاف المائي سوى واجهة لخلافات أخرى.

ويوضح مور أنه “إذا ذهبنا وراء الحدس، فإن المياه تعد سببا لنشوب التوترات والصراعات. لكني أود قول إن ما يحدث في الواقع هو عكس هذا الطرح تماما؛ حيث غالباً ما تترجم التوترات الجيوسياسية أو الخلافات الاقتصادية إلى خلافات مائية”.

ويضيف أنه في قضية إنشاء السدود على طول نهر ميكونغ، يمكن التقليل من شأن العوامل المعقدة التي تؤدي إلى انخفاض مستويات المياه في دول المصب، على الرغم من حملة الصين الضخمة لبناء السدود في أعلى مجرى النهر، ويشير إلى أن “هناك قلقاً متزايداً بين الدول المجاورة بشأن تداعيات تصاعد قوة الصين، ولذلك أعتقد أننا نرى ذلك وهو ينعكس في قضايا المياه”.

السياسة والجفاف في الشرق الأوسط

في الشرق الأوسط، كان نقص المياه شرارة لانطلاق موجة من الاحتجاجات في إيران أطلق عليها اسم “انتفاضة العطش” منذ الصيف الماضي، 2021، لكن هذا تزامن مع تصاعد التوتر بين إيران وجارتها أفغانستان حول سد كمال خان على نهر هلمند.

تقول سوزان شمير، الأستاذة المشاركة في قانون المياه والدبلوماسية في معهد “ديلفت” المتخصص بالمياه في هولندا، إن إلقاء اللوم على دول الجوار في تخزين المياه يمكن أن يكون بغرض تشتيت الانتباه بعيدا عن القضايا المحلية المتعلقة بتسعير المياه والبنية التحتية غير الفعالة الخاصة بإدارة الموارد المائية.

وتضيف: “في الوقت الذي تواجه فيه إيران أزمات داخلية جراء نقص المياه، بما في ذلك احتجاجات المزارعين أو النزاعات بين المواطنين في المناطق الحضرية والمزارعين، يمكن سماع تصريحات قوية من الساسة الإيرانيين ضد أفغانستان حيث يشدد المسؤولون على الرغبة في الحصول على حصة عادلة من مياه النهر”.

وتشير الباحثة إلى أنه في الوقت الذي تتهم فيه جارتها أفغانستان بحرمانها من المياه، تقوم طهران نفسها بتشييد سدود على نهر سيروان الذي ينبع من إيران ويعد أحد روافد نهر دجلة في العراق الذي يعاني من مشاكل في نقص المياه هو الآخر، خاصة مع قلة هطول الأمطار. وكذلك ينحو العراق باللائمة في الجفاف وأزمة المياه التي يعاني منها على إيران وتركيا التي شيدت هي الأخرى سدودا على نهري الفرات ودجلة اللذين يمثلان شريان الحياة لسورية والعراق، حيث تؤكد الدولتان أن هذه السدود هي السبب الكامن وراء الجفاف في كلا البلدين.

التغير المناخي يفاقم النزاعات المائية

كانت تركيا قد وافقت في ثمانينيات القرن الماضي، عند بناء سد أتاتورك العملاق الذي انتهت من العمل به العام 1990، على إطلاق ما لا يقل عن 500 متر مكعب من المياه في الثانية إلى سورية. غير أنها تلقي باللوم على ظاهرة التغير المناخي في نقص تدفقات المياه إلى سورية إلى أقل من المعدل المتفق عليه بين البلدين بموجب اتفاقية العام 1987. وفي المقابل، يقول أكراد سورية إن تركيا تعاقبهم بسبب الخلافات السياسية.

وفيما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي، تقول سوين إن التوترات بشأن السد تعود إلى عوامل جيوسياسية ومناخية عدة، ويمكن للسد أن يصب في صالح الدول الثلاث من الناحية النظرية؛ إذ قد تستفيد دولتا المصب؛ مصر والسودان، من الطاقة الكهربائية الرخيصة الناتجة عن تشغيل السد الإثيوبي. كما يمكن أن يساعد السد السودان على تنظيم تدفقات مياه نهر النيل للحيلولة دون وقوع الفيضانات التي دمرت مناطق في السودان على مدار السنوات الأخيرة.

بيد أن التساؤل الملح يتعلق بما قد يحدث في حالة حدوث موجات جفاف في السنوات المقبلة، ما يعني أن إثيوبيا قد تحجب المياه للحفاظ على خزان السد ممتلئا بدرجة كافية لتشغيله. وحول ذلك، تقول سوين إن السبب وراء هذه المخاوف “يعود إلى ظاهرة التغير المناخي”.

مصادر المياه من منظور “غير مسيس”

في سياق متصل، قد يكون التعاون بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن مياه النيل سهلا إذا لم تكن الدول الثلاث واقفة على طرفي نقيض فيما يتعلق بالقضايا الجيوسياسية. وفي هذا السياق، تقول سوين إن العالم منقسم حيال سد النهضة إلى معسكرين: إثيوبيا “تحظى بدعم صيني-روسي، في حين أن مصر والسودان تبقيان أقرب إلى الغرب”.

وعلى الرغم من ذلك، يعتقد محمد ألتينغوز، الباحث في إدارة التعاون العابر للحدود في جامعة ديلاوير الأميركية، أن التركيز على الجوانب الإنسانية بشأن إمدادات المياه في شبه جزيرة القرم كان من الممكن أن يساعد على نزع فتيل التوترات بين روسيا وأوكرانيا، على الرغم من الانقسام العالمي.

ويشير الباحث إلى ذلك في مقال نشر مؤخرا شارك في كتابته، بقوله: “لقد أضاع الناتو والغرب فرصة لتخفيف التوترات في المنطقة، إذ كان يمكن حث أوكرانيا على إيجاد طريقة للتعاون من أجل توفير وصول المياه إلى شبه جزيرة القرم”. ويضيف في حواره مع صحيفة “دويتشه فيله”، أنه “من الأسهل التعاون حيال القضايا البيئية الأساسية”.

وركز ألتينغوز في الأبحاث التي أجراها على القضايا المائية بين تركيا وأرمينيا، وهما دولتان لا تربطهما علاقات دبلوماسية، لكنهما تشتركان في ملكية سد يعود إلى الحقبة السوفياتية ويقع على حدودهما المشتركة. ويوضح ألتينغوز أن لجنة فنية مشتركة من تركيا وأرمينيا تجتمع كل شهر لتحديد كيفية تقسيم المياه بين البلدين، ويقول: “ثمة تعاون على نطاق واسع بشأن هذا السد. وقد نجم عن ذلك إدراك بأن هذا قد يسهم في تحسين العلاقات بين البلدين”.

المياه مصدر للتعاون وليست سببا للنزاعات

يشار إلى أنه تم توقيع قرابة 300 اتفاقية دولية بشأن تقسيم المياه منذ العام 1948، وفقا للأمم المتحدة، غير أن هذا نادرا ما يحظى باهتمام إعلامي. ويقول الباحث المتخصص في قضايا المياه، سكوت مور، إن هناك أمثلة على وجود تعاون دولي في مجال المياه “استنادا إلى عدد الاتفاقيات الدولية التي تتناول إدارة الموارد المائية بين الدول، لذلك يمكن قول إن حالات التعاون تزيد عن حالات النزاعات”.

ويبدو المثال الباكستاني-الهندي أقرب إلى ذلك؛ فعلى الرغم من نشوب نزاعات مائية بين البلدين من حين لآخر، إلا أن إسلام أباد ونيودلهي استمرتا في العمل المشترك في إطار معاهدة مياه نهر السند التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي. وفي هذا السياق، تقول سوزان شمير إنه حتى في الأوقات التي شهدت فيها العلاقات بين البلدين زيادة في حدة التوترات “حيث وصل البلدان إلى حافة الهاوية النووية، إلا أنهما استمرا في عقد اللقاءات الثنائية بموجب معاهدة مياه نهر السند”.

وتشير شيمر إلى أن الأمر لم يتوقف على باكستان والهند، بل يشمل أيضاً دول البلقان، حيث ظل التعاون المائي بشأن نهر الدانوب منطلقا لتعزيز العلاقات وفقا لاتفاقية الاستقرار والمشاركة التي أبرمت في أعقاب الحرب التي دارت رحاها في تسعينيات القرن الماضي. وتضيف “أن دول البلقان دخلت في مفاوضات لإبرام اتفاقية مهدت الطريق أمام إنشاء منظمة تعنى بإدارة حوض نهر الدانوب، التي جمعت هذه الدول، ثم امتد ذلك إلى التجارة والقضايا الخاصة بإزالة مخلفات الحرب وغيرها”.

المصدر: (دويتشه فيله) /الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى