من حق السوريين أن يجأروا بمظلوميتهم المحقة في أيامهم القاسية هذه، ويصبوا غضبهم على العالم الذي يتجاهل كارثتهم ومأساتهم، ويشتكوا من ظلم ذوي القربى، جيرانًا وعربًا ومسلمين كافة.
والواقع أنه ليس من السهل على غالبية السوريين فهم أسباب ما ينالهم، ولماذا يعاقبون بالإبادة الجماعية، ويهجرون، وتدمر بلادهم بهذه الوحشية والهمجية، دون تدخل دولي فاعل لوقف المجزرة المستمرة منذ تسع سنوات، أو ردود أفعال سياسية وحقوقية مناسبة من منظمات الشرعية الدولية والقوى المدنية والحقوقية والديمقراطية.
لقد تحولت سورية واديًا من وديان جهنم، وسكانها أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة، يحاولون النجاة، فيجدون أبواب العالم موصده في وجوههم من الأقربين والأبعدين. حتى أوروبا التي فتحت أبوابها عام 2016 تتركز جهودها اليوم على وضع استراتيجيات مشتركة لمنع خروجهم من وادي جهنم الذي يسعره الروس وحلفاؤهم الإيرانيون والأسديون. ولأنهم يعون نذالة سياستهم فهم يتجاهلون ما يحدث لكي لا يتنبه الرأي العام لها، ويتواطؤون مع المجرمين ويحثونهم على إنجاز المقتلة بسرعة، وبأي طريقة، لأن المهم الآن بالنسبة لهم، هي إخماد الثورة السورية ولو بإبادة السوريين، وبوتين وحلفاؤه يقرأون بنات أفكار الأوروبيين فيمعنون في مجازرهم مطمئنين.
فك طلاسم الموقف الدولي ليس سهلًا على السوريين، ولكنه ليس عسيرًا على المحللين المتخصصين. فتهمة التواطؤ الدولي ثابتة على كل الأطراف في مسرح الجريمة وفي قمة الهرم الدولي، فالجميع شارك في القضاء على الثورة السورية، والجميع شارك في تحويل سورية ساحة لتصفية الحسابات بين الدول الكبرى والاقليمية، ولا براءة لأي منها. ومادامت لم تتوصل لاتفاق على المقاسات والمحاصصات فسيستمر القتل والقتال بلا اكتراث بأرواح السوريين أطفالاً ونساء وشيوخًا.
أما على صعيد المجتمعات المدنية والنخب السياسية والثقافية في العالم، فالمواقف ليست أفضل. فلا الإعلام نزيه ومهني في نقل الحقيقة، ولا الأحزاب عادت تمارس دورًا شعبيًا وأخلاقيًا مؤثرًا في السياسة العالمية، ولا حتى للنخب الليبرالية واليسارية والحقوقية دور فاعل. ولذلك لم نعد نرى قوى سياسية وفكرية وحقوقية تدافع عن فاجعة بحجم الفاجعة السورية. السبب الرئيسي هو أن الحلف المعادي نجح في وصم الثورة السورية بالتطرف الإسلامي وتصنيفها كحرب دينية وأهلية بين متطرفين متوحشين يقاتلون ديكتاتورًا علمانيًا، ويكفي الوصول لهذه النتيجة، حتى نرى أي خدمة عظيمة قدمتها الحركات الاسلاموية لعصابة الأسد وحلفائه ولنعلم من أنشأها ومن مولها ولماذا سلحها.
لقد انصرف العالم عن الإنشغال بنا وتساهل مع أعدائنا إلا في بعض حالات جد استثنائية، لأن الحالة لم تعد ثورة شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية من نظام استبدادي بربري، بل تحولت حالة مستنسخة من أفغانستان، وحربًا أهلية ودينية بين متطرفين وإرهابيين، ونظام علماني يدافع عن العلمانية ولو زورًا!
بناء عليه صار لسان حال القوى الديمقراطية في الغرب: لا يعنينا ما يجري بين قوى متوحشة وأنظمة شرقية استبدادية، من إيران الى روسيا، ومن سورية الى تركيا، فكلهم مسلمون وبرابرة ومعادون للديمقراطية، وللغرب. ولم يظهر من يحاول دحض هذه التصنيفات والمقولات المعلبة والجاهزة كما يسميها المرحوم ادوارد سعيد. وغاب أحرار الفكر والضمير الذين رأيناهم قبل نصف قرن. أولئك الذين حركتهم ضمائرهم النقية للدفاع عن حقوق الشعوب المضطهدة في وجه حكومات دولهم. برتراند راسل (البريطاني) أنشأ في الستينيات محكمة عالمية لأميركا، بسبب عدوانها الظالم على فيتنام، وأطلق تيارًا عالميًا مؤيدًا له امتد إلى الداخل الأميركي لوقف الحرب، استطاع حشد وتحريك الرأي العام ضد الإدارة. وفي نفس الفترة استطاع جان بول سارتر وزوجته سيمون دو بوفوار تأليب الرأي العام الفرنسي والعالمي ضد حكومة بلاده لحربها الاستعمارية في الجزائر. وكان هناك نزعات تحررية وتقدمية وإنسانية قوية ضد الحرب والعنف والعدوان تضم الاشتراكيين والشيوعيين ومن الليبراليين الديمقراطيين، وكان اليسار الإيطالي والفرنسي والسويدي شكلوا جبهة عالمية لإنهاء الأبارتيد في جنوب إفريقيا، لكن هذه التيارات والقوى اضمحلت تحت زحف اليمين العنصري، وتحت تأثير الانعزالية التي تجتاح أميركا وبريطانيا ودول كثيرة في أوروبا، وهي بالطبع تنعكس سلبًا على القضية السورية، وبالعكس تنعكس ايجابًا على إيران وروسيا.
تحولات الغرب الداخلية لا تقتصر على ما سبق، ولا ينبغي أن ننسى للحظة أن الأيدولوجيا العالمية من الغرب الى أقصى الشرق منذ نهاية الحرب الباردة، اعتبرت الاسلام الأصولي السني العدو الأول والمشترك بعد الشيوعية، ولا بد أن يتحد العالم لمحاربته، خصوصًا بعد أن شن غزواته المدمرة على نيويورك ولندن وباريس وبرلين ومدريد، وعشرات الدول في أوروبا وآسيا وأميركا الجنوبية وافريقيا. مما سمح لعدد من كبار المفكرين المعادين للإسلام والعرب لتسويق نظرياتهم وأفكارهم المشوهة التي وصلت إلى حد أن برنار هنري ليفي صاغ مفهوم الفاشية الإسلامية وحذر منها وطالب الدول الغربية بالتصدي له، وهو مفهوم تلقفه المحافظون الجدد في أميركا وكان مرجعهم في طرح الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة، ولحقه بول ريتشارد الذي صور المسلمين باعتبارهم البرابرة المعاصرين، وأنهم مصدر الإرهاب في العالم، ولا شك أن هؤلاء المفكرين خلقوا بيئة عالمية معبأة بالعداء للمسلمين والعرب، تحرمنا من تعاطف الرأي العام في الغرب خصوصًا، وكنا نحن كثورة ومعارضة بفضل أخطائنا الفادحة نزودهم بالبراهين على أكاذيبهم وعنصريتهم، لا سيما عندما طرحت غالبية فصائلنا أطروحات تعود إلى أزمنة الحروب الصليبية، وتعادي الغرب لأنه كافر، وأن الديمقراطية دين الغرب الكافر ولا ينبغي التبشير بها أو تبنيها.
خلال الحرب الباردة كان هناك عالم متعدد الأقطاب والكتل الدولية والمذاهب العقائدية: كتلة اشتراكية وكتلة ديمقراطية، وكتلة عدم انحياز، وبجانبها كتلة تضامن أفرو – آسيوي، وكتلة أفريقية، وكتلة عربية، وكتلة إسلامية. ولعبت هذه الكتل دور بيضة القبان في الساحة العالمية، ولكنها اختفت كلها تدريجيًا أو فقدت تأثيرها، ولم يبق في الميدان سوى القطب الأميركي الذي يزداد جنوحًا نحو الانعزالية والعنصرية. ويحاول فرض عقيدته على العالم. وروسيا البوتينية أكثر ارثوذوكسية وقيصرية وعداء للإسلام بسبب هزائمها في أفغانستان والقوقاز، وهي في سورية تصفي حسابها مع الاسلام السني بعد أن تسبب بانهيار الامبراطورية السوفياتية، وكاد أن يمزق روسيا.
لا يجب أن ننتظر من أميركا والغرب تدخلاً جديًا للدفاع عنا، بينما ثورتنا محسوبة على الاسلام السني المتطرف، وكثيرون منا ما زالوا يصطفون في خنادق (النصرة والجماعات الاسلاموية المتطرفة).
شعبنا بدأ ثورة عظيمة، ونبيلة وسامية، ثورة حرية وديمقراطية، ولكنها افتقرت للقيادة الرشيدة، الحكيمة، الناضجة. وسلمت أوراقها للدول الأجنبية، تلعب بها وتقايض عليها، وفي مثل هذه الحال لا يجب أن نندهش للنهايات التي وصلنا اليها. ولم يعد لنا من بديل سوى التعلم من دروس التجربة، لنخطط لثورة جديدة تستوعب حقائق العالم، وتستلهم خبرات الثورات المدنية السلمية الديمقراطية بما فيها العربية، فليس لنا محيص ومناص سوى تكرار الثورة، ثم الثورة، ثم الثورة.