لم يكن المرحوم ياسين الحافظ رجل سياسة فحسب، بل هو مُنتِج ومُحدِّث في ثقافة العصر ومفاهيمها الحداثية، وناقد ثاقب الرؤية بعيد النظر، مرتبط بقضايا الإنسان الكونية مفهوميًا وفكريًا وقانونيًا وسياسيًا، أيضًا. ولسنا بوارد الكتابة عن تاريخه السياسي ومنشوراته الكثيرة اليوم، على استحقاق الرجل، فقد نشر الكاتب السوري عبد الحفيظ الحافظ -أمين عام حزب العمال الثوري، الذي أسسه المرحوم الحافظ- مقالًا سياسيًا مفصلًا عن سيرته السياسة والفكرية في شبكة (جيرون) الإعلامية في ذكرى وفاته قبل يومين.
المفارقة الرائعة في هذا أن عبد الحفيظ الحافظ لازال لليوم، وهو المحاصر في حي الوعر الحمصي، يناله ما ينال الآخرين من جوع وقهر، لازال أحد الأمناء على قضية الشعب السوري، مدافعًا عن حيه ومن خلفه ثورة شعب، بالكلمة والتفاعل في لجان تفاوضه مع نظام لا يعرف إلا الغايات تبررها الوسائل، مهما بلغت من بطش ودمار؛ حتى لو استحالة البلد خراب ودمار.
لربما تكون مسألة التلازم بين الموقف السياسي والمضمون الفكري والثقافي قضية إشكالية تمس العمق المعرفي والقيمة المبدئية أخلاقيًا وإنسانيًا بالعام، فكيف هي من قضية شعب يُجتث من جذوره ويُقتلع من مدنه، ولازالت مواقف الكثيرين المعلنة اليوم تنوس في فراغ الكلمة ونحت معانيها المجافية للحق بأبسط صوره، وهو موقف من الحياة والموت! وما استعارة ذكرى ياسين الحافظ في موقعة “تأخر تاريخي” للفكر والثقافة العربية عامة والسورية خاصة، سوى دلالة على استمرارية الجملة المفهومية والنقدية لذكرى الرجل، فما بتنا نعيشه اليوم من تأخر وتقهقر على مستوى المشروع الوطني وبروز المحليات والمشاريع الطائفية “ما قبل دولة” من جانب، وإفصاح عقل البعض عن نفسه كعقل نظري محض يغوص في أوهام “ماركسيته” الباردة أو شعارات “قومجيته” الفضة أو ممارسته المراوغة لممانعته ومقاومته بتحرير القدس عبر تدمير المدن السورية والتهليل لها، هذا العقل ذاته من قال الحافظ عنه ذات يوم: “برميل بلا قعر لا يُراكم”، ولعله بات منظرًا لمحليته وعصبيته الطائفية!
لم يكن مطلوب من “المثقف” السوري وحتى العربي اليوم، أن ينحت في نظريات الثقافة ومفاهيمها لينتج نظرية لم يسبقه إليها أحد، سواء وقف على أحد شطري معادلة الثورة: إما مساندًا لها أو معاديًا. بقدر ما كان على الأول أن يعيد صياغة أدواته المعرفية بعيدًا عن التشنج وعن عليّةَ أفكاره ومفاهيمه بغية تجسيرها والعمل على وصولها للشرائح الأوسع للمجتمع، ففكرة العقل والعقلانية، والرؤية والبصيرة، وتتبع مسارات الحقوق المدنية وعدالة القانون والهوية الوطنية الجامعة هي المبحث الرئيس المكنون في نفوس الغالبية العظمى من السوريين. السوريون الذين تخلى العالم كله عنهم ولم يتصوروا يومًا أن يُخذلوا من محيطهم النخبوي والثقافي، ليقعوا فريسة اهتراء ثقافات الماضي وصبغها المحلية والتأويلية، حتى باتت مهاترة الأيديولوجيات وعفنها الطافح مرآة تعكس وتُلخّص اليوم صراع دم عدمي، نتاجه الكارثي لا يُختزل في دمار المدن السورية وتهجير سكانها وحسب، بل في دمار البنية السيكولوجية والمعرفية للترابط المجتمعي والهوية الوطنية.
لم يكن على الطرف الآخر، موالي السلطة، أن يذهبوا بعيدًا كما فعل ياسين الحافظ يومًا حين ذهب بـ “رأسـه” للقدس وهزيمة حزيران المريرة فيها، وبقيت أقدامه وحواسه ويداه وقلبه منغمستان في واقع الأمة وتأخرها التاريخي، فحلب ليست بعيدة عن مرمى ناظر، ولم تكن حمص من قبلها كذلك، ولا داريا ولا دوما والغوطتين، ولم يكن عمران ابن الخامسة، ولا إيلان ولا هاجر ولا حمزة الخطيب، ولا أطفال مدرسة حاس في إدلب قبل أيام، ولا الأطباء في مستشفيات حلب، ولا غرقى البحر في مراكب الموت بعيدة عن مرمى عين… لم يكن على “مثقفـي” السلطات ومنظري بلاطاتها، أن يبرعوا في نحت مفاهيم العَلمانية المزيفة والمنقطعة عن جذرها المعرفي والإنساني للترويج والدفاع عن حرب نظام ونظم على شعب يبحث عن أبسط حقوقه في الحياة والكرامة بحجة محاربة الإرهاب المزعوم ونقد الفكر الماضوي والسلفي، ليتخذوا منه مبررًا للقتل والدمار العام الذي تمارسه سطوة عسكرية أقل ما توصف به أنها ساقت أمة نحو الخراب، بقدر ما كان مطلوبًا كلمة حق واحدة تختزل مأساة شعب في كلمة بسيطة، لن يُحمل وزرها أمنيًا كما يبررون مرارًا، وستفنيهم عن بضع عشرات الآلاف من الليرات في وظائفهم وبدلات سفرهم مقابل صمت مطبق عن جريمة عصر من جانب وانفلاش تهكمي على بساطة شعب وأحلامه في الطرف الآخر.
ربما لم يخطئ الشعور العربي بمصطلح النكسة ذات يوم في عام 1967، فقد كانت كل آماله مُعلّقة على وعود العسكر في رمي اليهود في البحر وتحرير تراب فلسطين من رجسهم، لتنبري بعدها مؤسسات وشخوص التبعية للسلطات العربية وقتها لوضع جمل لانهائية من مبررات الهزيمة تلك، من مؤامرة وغيرها مما يرضي طفح الشعور القومي آنذاك ويسكن أوجاعه. وربما ذات الشعور اليوم الذي ينتاب مشاعر الغالبية العظمى من السوريين في مواجهة مصائرهم المتنوعة، وهم لا حول ولا قوة لهم سوى التمسك بحبائل نجاتهم القريبة منها والبعيدة، متعشمين مرة بحلول عسكرية جذرية وبسياسية أخرى تنقذ البقية الباقية من سوريتهم وسورييهم الباقين على قيد الحياة وصراع موتهم المطبق. بينما لازال مثقفيهم ونخبتهم السياسية بعيدون عن مفهوم الهزيمة الذي نقده الحافظ حينها، ولازالت تنتابهم موجات صراع الأيديولوجيات ومغالبة الكلمات منغمسين حتى أرنبة أذنيهم فيما اعتادوه من سياسة الممارسات السرية، وتبادل الأحكام القيمية والالتفاف من البوابات الخلفية للعملية السياسية بديلًا عن مواجهة حقيقة الواقع المر والمأساوي والذهاب مباشرة للبحث عن حد لأوهامنا من جهة وشططنا من جهة أخرى.
أن تخرج رأسك من الواقع وتبقى ما دونه من جسد منغمسًا به، يعني أنك تبقى عيناك مفتوحة على فضاء الكون والإنسانية تعقله ذهنيًا بتجرد، لتوظف مفاهيمه منطقيًا وتبسطها لتندرج في الواقع وبناه المجتمعية كافة، وليس فقط، بل أن تبقى مرتبطًا حسيًا في آلام البشر ومعاناتهم اليومية، في مظالمهم في أحاسيسهم، في جوعهم المضني، تتبع حركة الواقع وتنبسط مع معطياته وتترنم لإمكاناته المنفتحة فيرقص عقلك قبل قلبك حين تنتصر لمظلوم فكرًا فكيف وان انتصرت له في مظلمة واقعًا وحسًا، خاصة وإن كان يطبق عليه حصار الجوع والقتل فيذهب بعقله عن الاستماع، أو يرضخ لشروط تهجير أشد ألمًا من موت؟ فإما أن يقتلع من مدينته أو يُدفن تحت أنقاضها، ونبقى نحن وثقافتنا لليوم رهن النقد والاتهام إلى أن نتخذ منها مبدأً أخلاقيًا وموقفًا سياسيًا، ربما حينها نضع لبنة في طريق تجاوز تأخرنا التاريخي.
المصدر: جيرون