في السنوات الأخيرة المؤلمة من حرب فيتنام، كتب خبير استراتيجي يُدعى فريد إكلي أطروحة بعنوان “كل حرب يجب أن تنتهي”. وكانت ثيمته الأساسية هي أن “بدء الحروب أسهل من وقفها” -وهي رسالة تنطبق بقوة الآن على الصراع الجاري في أوكرانيا.
تجتمع روسيا وأوكرانيا لإجراء محادثات سلام أولية في تركيا هذا الأسبوع، الأمر الذي عزز الآمال في التوصل إلى تسوية بين البلدين. وقد وصف كلا الجانبين الشروط الأساسية نفسها لحل النزاع: في مقابل وقف القتال، ستوافق أوكرانيا على الالتزام بوضع عسكري محايد لا يشكل تهديداً لروسيا.
لكن هذه الصيغة تخفي تحت طياتها خيارات مؤلمة: سوف تمنح مثل هذه الاتفاقية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نصراً جزئياً على الأقل. وبالنسبة للكثيرين في أوكرانيا والغرب، يبقى هذا الحاصل غير مقبول؛ فقد شن بوتين على أوكرانيا غزواً غير مبرر وغير قانوني، وارتكب جيشه فظائع بحق المدنيين. ولا ينبغي أن يعطى مكافأة على مثل هذا السلوك.
من جهتها، ترى إدارة بايدن أن الأمر متروك للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ليقرر ما إذا كان سيقبل بالحياد أو يواصل القتال من أجل محاولة الحصول على صفقة أفضل. ويقول ستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس جورج دبليو بوش الذي يتمتع باتصال وثيق مع فريق بايدن: “سوف يتعين على الأوكرانيين أن يقرروا متى يكون الوضع على الأرض ناضجاً لتسوية”.
بعد القتال ببسالة، لن يرغب الأوكرانيون في تسوية تترك البلاد منزوعة السلاح وعرضة لهجوم في المستقبل. وقال لي كونستانتين غريشينكو، وزير خارجية أوكرانيا السابق النافذ، في مقابلة: “إن هذا قابل للتطبيق بالنسبة لي بطريقة واحدة فقط -نوع الحياد الذي تتمتع به سويسرا- مسلحة بالكامل، بجيش من المواطنين”.
في المقابل، كان أداء الجيش الروسي ضعيفًا حتى الآن، ويعتقد بعض الأوكرانيين أن المزيد من القتال سوف يجلب لهم النصر. لكن المسؤولين الأميركيين المتخصصين في الشأن الروسي يعربون عن تشككهم في هذه الإمكانية. فروسيا دولة كبيرة لديها القدرة على إعادة الإمداد وإعادة تمركز قواتها؛ وأوكرانيا دولة صغيرة نسبيًا تفتقر إلى أساسيات البقاء. وقد مضى 40 يوما فقط على بدء الحرب. فمن يستطيع أن يعرف ما قد يكون عليه الوضع في ساحة المعركة في ستة أشهر أو سنة؟
كان إكلي قد قدم تحذيرًا مفيدًا: “غالبًا ما يحدث في الحروب ألا يحاول الطرف الأضعف السعي إلى السلام بينما ما تزال قوته العسكرية قادرة على التأثير في العدو، ولكنه يقاتل حتى يفقد كل قوته للمساومة”. وأطلق على هذا الوضع اسم “المثابرة المدمرة للذات”.
وكان إكلي متشككًا بالمثل في التكتيكات العقابية مثل تصميم روسيا الواضح على شق طريقها نحو تسوية مرغوبة بالقصف والقنابل. وكتب أن “إيقاع ’العقوبة‘ على الأمة المعادية ليس استراتيجية غير فعالة لإنهاء حرب فحسب، بل إنها قد تكون لها أيضاً آثار جانبية تسرِّع في الواقع من هزيمة الجانب الذي يعتمد على تلك الاستراتيجية”.
في كثير من الأحيان، لا تنتهي الحروب بمعاهدة سلام، وإنما بوقف لإطلاق النار يترك القوات في مكانها على طول “خط للسيطرة”. ويعتقد بعض المحللين أن روسيا ربما تتحرك نحو مثل هذه النتيجة من خلال ترسيخ وجود قواتها في رقعة من جنوب شرق أوكرانيا يمكن أن تمتد في النهاية من أوديسا إلى منطقة دونباس.
تبقى خطوط التقسيم من هذا النوع فوضوية، ولكنها يمكن أن تكون دائمة بشكل مدهش. ما تزال الكوريتان الشمالية والجنوبية منفصلتين من دون معاهدة سلام رسمية. ويفصل خط سيطرة متنازع عليه بين الهند وباكستان، وكذلك بين الهند والصين. كما تم تقسيم فيتنام بشكل مماثل لعقود.
يجادل غراهام أليسون من جامعة هارفارد بأن مثل هذا التقسيم يمكن أن يسمح للجزء المتحالف مع الغرب من أوكرانيا بالازدهار. وقبل الغزو الروسي، كما يؤكد، كانت أوكرانيا دولة فاشلة -واحدة من الجمهوريات النادرة في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي التي انخفض فيها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بعد العام 1991. ويقول أليسون إن أوكرانيا الغربية المستقبلية قد تصبح نسخة من كوريا الجنوبية.
بينما تتبادل روسيا وأوكرانيا مقترحات السلام، تضغط الولايات المتحدة وحلفاؤها بمهارة على روسيا من خلال استخدام أفضل أداة متاحة لديهم -الإفراج عن معلومات استخباراتية رُفعت عنها السرية. وكانت الدفعة الأخيرة منها عبارة عن سلسلة من التصريحات التي أطلقها الأسبوع الماضي مسؤولون أميركيون وبريطانيون كانوا يجادلون بأن غزو بوتين الدموي تميز بكشف أوهام الزعيم الروسي وعدم كفاءة مستشاريه. وقال جيريمي فليمينغ، مدير وكالة كسر الشفرة البريطانية GCHQ، في خطاب ألقاه يوم الخميس: “يخشى مستشارو بوتين إخباره بالحقيقة”، لكن “مدى سوء التقدير يجب أن يكون واضحًا تمامًا للنظام”.
كانت هذه الملاحظات الذكية تستهدف الكرملين مباشرة، ويمكن أن تكون لها العديد من النتائج المثيرة للاهتمام: قد يلقي بوتين باللوم على قادة الجيش والمخابرات لفشلهم في تحذيره من الكارثة المقبلة؛ وقد يزداد استياء الجنرالات والجواسيس من رئيسهم البعيد الذي شن ما وصفه فليمنغ بأنه “حربه الشخصية”. وقد لا يثق الشعب الروسي في كل من بوتين ورؤسائه الأمنيين على حد سواء.
كان التطور الأكثر بعثاً على التفائل الذي رأيته في أفكار السلام المطروحة في الأسبوع الماضي هو تصريح المفاوض الروسي فلاديمير ميدينسكي بأنه على الرغم من رفض موسكو لعضوية أوكرانيا في الناتو، فإنه “ليس لديها اعتراض على تطلعات أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي”.
ربما تكون هذه لبنة بناء مناسبة لبناء تسوية حقيقية، لأن من شأن وجود أوكرانيا أوروبية أن يشكل هزيمة عميقة لحلم بوتين بالهيمنة على كييف. وهذا مطلب أساسي للتوصل إلى اتفاق سلام، إلى جانب وقف القتل.
*ديفيد إغناتيوس David Ignatius: هو روائي وصحفي أميركي من أصل أرمني. وهو مساعد تحرير وكاتب عمود في صحيفة الواشنطن بوست. له عشر روايات أشهرها رواية “كتلة أكاذيب”، التي حولها إلى فيلم المخرج ريدلي سكوت. كان قد عمل محاضراً في كلية كينيدي بجامعة هارفارد.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Painful choices lie in the path to peace in Ukraine
المصدر: (الواشنطن بوست) / الغد الأردنية