من دروس التاريخ المستفادة والتي لا جدال عليها، أن كل المكوّنات البشرية تمرّ بحالات صعود وهبوط، بفعل عدة عوامل مختلفة ومتنوعة من حيث الشكل والمضمون، وهذا ينسحب بالضرورة على منطقتنا العربية، المتمددة في آسيا وأفريقيا، وصولا إلى مواطئها السالفة في الأندلس وصقلية وكريت وقبرص والساحل الجنوبي لأوروبا والبحر الأبيض المتوسط.
كانت الحضارة العربية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالقيم والمبادئ والمفاهيم الإسلامية، والتي تلاقَحَت وتمازجت مع الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية، وأنتجت فكراً وعلماً نيراً في كل مناحي العلوم، من طبّ وفلك ورياضيات وفلسفة وصيدلة، وخلّفت أدباً راقياً لا يزال صامداً وينهل منه العالم، على الرغم من مرور العصور، ويعتبر مرجعاً وأساسا لكل جديد ومبتكر.
ومسيرة الصعود والهبوط العربية، عاشتها الدولة الأموية والعباسية، ودولة الأندلس، وغيرها من أنظمة الحكم العربي المتتالية فى المغرب العربي. وكان القاسم المشترك فى انهيار تلك الدول، الخلافات والصراعات الداخلية، والتي كان لها المفعول الأكثر تأثيراً من المهددات الخارجية.
وهي حالة تشكل المزاج العربي السائد، منذ عصر الجاهلية، والمتحكم فيها حتى هذه اللحظة، والمفسد لأيّ محاولة جمع أو إصلاح.
وهذا بالضرورة، يفرض معالجة هذا الخلل بطريقة منهجية وعلمية راشدة، عند أي محاولة جديدة جادة في سبيل الوحدة العربية المنشودة.
كانت محاولات ومبادرات الوحدة العربية، فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين، تصطدم بالقوى الإستعمارية وأدواتها المعلنة والخفية في المنطقة، وكانت تقمع أكثر من غيرها، لمعرفة تلك القوى بمدى التأثير القومي والديني فى استنهاض الشعور الوطنى، والدفع به من أجل التضحية، والإقدام والثبات والإيثار.
وقد أجهضت كثير من تلك الحركات العربية والإسلامية في مهدها، وكثير منها لم ترَ النور، وظلت مجرّد فكرة حبيسة تدرس في كتب التاريخ.
وإذا عبرنا سريعا تلك المراحل، إلى مرحلة ما بعد تحرير أو استقلال الدول العربية، تبرز تجربة الحزب الوطني الاتحادي في السودان، وحزبا “البعث العربي الاشتراكي” في سوريا والعراق، والإتحاد الاشتراكي العربي” في مصر، وتوابعه في اليمن ولبنان وفلسطين وبعض الدول العربية الأخرى، وتجربة “جبهة التحرير الوطني الجزائرية”، وأخيرا تجربة “اللجان الثورية” في ليبيا، والتى تحوّرت وصارت نظرية عالمية ثالثة، وتحوّل العقيد القذافي من زعيم وحدوي، إلى ملك ملوك إفريقيا!
إذا درسنا هذه التجارب، كلاً على حِدة، لن نجد فيها فكراً شاملاً جامعاً، يؤسس لوحدة عربية، تقوم على رؤية واضحة المعالم، تراعي التنوع الثقافي والإثني، وخصوصيات كل دولة، وتحليل العناصر السلبية، والتى تقف عائقاً أمام اتمام الوحدة. ولا يوجد تصور متكامل لعناصر القوة الجامعة، من اقتصاد قوى وموقع جغرافي مميز وأراضي زراعية شاسعة وثروة حيوانية هائلة، وأنهار ومياه جوفية ومعادن متعددة، من الذهب حتى اليورانيوم، وكثافة سكانية لا يستهان بها، وفوق كل هذا لغة واحدة، وشعور قومي طاغي من الخليج إلى المحيط.
لا يوجد تصور مرحلي لتحقيق الوحدة، بين دول العالم العربى عند تلك المدارس المتباينة.
إذا استثنينا تجربة “الحزب الوطني الاتحادي” في السودان، والتي كانت تنادي بالوحدة مع مصر، توقفت مبكراً بعد استيلاء الجيش على السلطة في مصر، ولم تتطور إلى توجه عربي عام، وتراجعت إلى حركة وطنية داخل إطارها القطري.
نجد أن التجارب العربية الأخرى فشلت، لأنها لم تقرأ الواقع العربي قراءة صحيحة، وارتكزت على أعمدة واهية من الطغيان، وأسست لحكم الفرد بنظرة ذاتية ضيقة، عبر ماكينة إعلامية مضللة، وأهملت الحريات العامة وحكم القانون، واعتبرت الديموقراطية جريمة، ومن يبشر بها مكانه السجن، ويمارس عليه التشهير والذلة. وساد الظلم والاستبداد، وتحوّلت تلك الأنظمة إلى سلطة ديكتاتورية مستبدة، تتحكم في رقاب الناس بالحديد والنار.
وحتى داخل تلك الأحزاب الوحدوية، كان الصراع على أشدّه بين الرفاق، ووصل إلى حدّ فصل ميشيل عفلق من حزب البعث، وهو مؤسّسه، بتهمة الانحراف عن مبادئ الحزب، وعاش عفلق ومات منفياً في العراق!
ولم تقدم حلولا عاجلة وملحة لأزمات ومشكلات الدول العربية، ناهيك عن القضايا في الحرية والتحرير، ومواجهة القوى الاستعمارية الجديدة بأدوات وسبل علمية، وبعضها انكفأ منغلقاً تحت عباءة الطائفية أو القبلية.
ونسبة لغياب المنهج الصحيح، والفكر القويم، تبعثرت تلك الأحزاب، وتقسّمت إلى مجموعات صغيرة لا تسمّن ولا تغني من جوع.
وفى السودان مثلاً، توجد أكثر من أربعة أحزاب بعثية، وأكثر من حزبين ناصريين، ولا يستطيع أحد أن يفرق بينهم.
كانت فترة اعتقال المناضل الكبير الرئيس أحمد (بن بلة) لفترة طويلة، سانحة أتاحت له مراجعة تجربة حكمه، وما تلاها من تطورات وأحداث، وأنتجت فكراً متقدماً، مازج فيه بين العروبة والإسلام والتجارب الديموقراطية في العالم الحرّ، وصدرت هذه الأفكار في كتاب حوى حواراً معرفياً قيماً، أجراه الكاتب والصحفي القدير محمد خليفة، وهو جدير بالقراءة والتمعن، ويمكن أن يشكل قاعدة لأيّ رؤية مستقبلية لعالم عربي جديد وموحد أو مُتحد.
أغلبنا يدرك، أن فشل تجارب الوحدة العربية المتعددة، كانت نتيجة قرارات فوقية ومتسرعة، وغير مدروسة، ولم تستند الى دراسات، حتى لو كانت هامشية أو سطحية، وخلفت حالة من الهزائم والانتكاسات العميقة، وأدت إلى حالة من الاحباط، أعلت روح الانهزامية، وهزّت الثقة في كثير من النفوس. يضاف إليها الواقع العربى الممزق، والمتناحر والمبالغ فى الفجور في الخصومة .
ويقينى، أن هذه حالة وقتية زائلة لا محالة، وأن المستقبل هو لأمة العرب، ومهما طال السير والمسير، لأن هذه الأمة تملك كل عناصر القوة كما أسلفت، وسادت في عصور كثيرة، ولها تجربة تراكمية حضارية مهمة، قادرة أن تستوعبها مرة أخرى فى الحاضر والمستقبل، تقدمها وتقودها إلى الموقع الذي يليق بها.
إن التاريخ علّمنا من تجارب الشعوب، أن أي أمل قابل للتحقيق، فأوروبا التى أنهكتها الحروب الداخلية ودمرتها، وخلفت الملايين من القتلى والجرحى، وهي تتحدث عشرات اللغات المختلفة، وبينها كثير من الفوارق الثقافية والاجتماعية العميقة، هي الآن موحدة تحت سقف واحد، واقتصاد واحد، وعملة واحدة، ومفوضية واحدة وبرلمان واحد .
لقد توحدت ألمانيا، وتفكك الاتحاد السوفياتي في لمح البصر. ما نراه بعيداً اليوم، هو قريباً غداً، إذا صدقت النية في القول والفعل، وتوحدت الإرادة.
إذن ما هو المطلوب؟ المطلوب هو فعل جاد وصادق وأمين، لكل من يؤمن بمستقبل هذه الأمة، ودورها في الحياة الكريمة، ولدورها في القيادة والريادة فى العالم ، وأن تكون هناك مبادرة قومية عربية، تضم كل التيارات السياسية العربية الوحدوية بلا إقصاء، وأن تتفق على إطار عام يقدم رؤية فكرية وسياسية وعملية، عبر دراسات عميقة تخصّصية في كل مناحي الحياة، من إقتصاد وتعليم وثقافة ومعلومات عن كل قطر عربي، وتحميل ذلك فى وعاء جامع، يستوعب عناصر القوى، ودراسة وتحليل مواقع الضعف، ووضع خطط العلاج والتصويب. رؤية تعلّي من شأن حقوق الإنسان العربي، فى أن يعيش تحت الفضاء العربي، حراً، وأن يتوسّد الطمأنينة والسلام وأن يتنفس نسيم العدالة والشفافية، فى عالم أصبحت فيه هذه أمور من البديهيات.
هذا العمل ليس بالهيّن، وقد يأخذ سنوات عديدة في ظل الظروف الحالية المسيطرة على مجمل الدول العربية، وينبغي نزع اليأس والاحباط من النفوس، فلتكن البداية جدية وعملية. أما العواطف والمشاعر، فهي أمور مقدرة ومحمودة، لكنها لا تصنع فعلاً لوحدها، فلتكن الخطوة التالية عملية لكل من يحمل جينات وتطلعات الوحدة العربية، لكل من يؤمن بهذا الهدف، له الدعوة والطلب، لنتحرك سوياً من أجل بناء وطن عربي واحد، يكون قائداً ورائداً، ويعيش فيه أبناؤنا في أمن وسلام وعدالة ورفاهية.
المصدر: المدار نت