بعض الشخصيات، أو القامات، الفكرية والسياسية، كما الزعماء ورجال التاريخ، يبقون أحياءً في ذاكرة شعوبهم حتى لو غابوا جسداً، وكثير من هذه الشخصيات عادة ما يتم الاستدلال بمواقفها، والاستلهام من أفكارها، عند كل منعطف أو تحول في حياة شعوبها، وكثيراً من هؤلاء تزداد أهميتهم بعد رحيلهم وغيابهم بسنوات، كما أن البعض يعاد الاعتبار لهم بعد رحيلهم عند اكتشاف أهمية ماكانوا يقولون ويطرحون أو يكتبون.
الدكتور جمال الأتاسي أحد هؤلاء وينطبق عليهم مانقول، فرغم أهمية الرجل الفكرية والسياسية، لماقدمه من إنتاج معرفي، خصب وثري، ومساهمته في صناعة أحداث كبرى غيرت في تاريخ سورية الحديث، أو كانت محطات بارزة ومفصلية في تاريخها، فاني أعتقد أن أهمية الراحل الكبير اليوم، مع ماتعرضت وتتعرض له سورية، لا يقل أهمية وقيمة عن ماقدمه وساهم به أثناء حياته، ولعلي لا أجافي الحقيقة، إن قلت أن العودة إلى ماقدمه بالأمس من مفاهيم وتلازم ذلك مع سلوكه النضالي والسياسي نحن بأمس الحاجة إليه اليوم، ما يعني ضرورة “إعادة الاعتبار” لفكره وماجسده من قيم ومفاهيم لتشكل لنا محددات وطنية، مثل غيابها، أو تغييبها، كارثة وطنية أودت بنا إلى هذا المأزق الوطني والاستعصاء الذي لا نعرف مخرجا له ومنه.!
يسجل للراحل الكبير حرصه وإيمانه بضرورة (العمل الوطني الجبهوي)، إيمانا منه بأن حجم التحديات التاريخية، والمعوقات الوطنية، لايمكن تجاوزها والتغلب عليها دون “وحدة” أدوات العمل الوطني، وترابطها، بما يمكن أن تشكله من حامل وطني، تستطيع الوفاء بمتطلبات كل مرحلة، وهي هنا أطر جبهوية وصيغ عمل تشاركية، وفقا لطبيعة كل مرحلة، ونحن اليوم، مع حالة فرقتنا وتبعثرنا، وبالتالي ضعفنا، كم نحن بحاجة الى تمثل ذلك وعلى أسس وطنية صلبة وراسخة، بعد أن بهرنا شعبنا والعالم معه بتعدد قوانا وقابليتنا للقسمة الى ما لا نهاية، ذلك بعد فشل من احتكر تمثيلنا وتمثيل ثورتنا وعجزنا عن خلق البديل الوطني الوفي لأحلامنا وتطلعاتنا.؟!
وعندما شدد على (العمل الوطني أولاً)، وسابقا لأي طموحات تتجاوز الحدود الوطنية، أو تعبرها، فما ذلك إلا إيماناً منه بأنه لا بد من أرض راسخة وصلبة تشاد عليها العمارة الوطنية بما تعنيه من نهضة وحرية وعدالة ودولة قانون وحقوق مواطنة سابقاً لأي تطلعات أخرى نحو المحيط القومي، والجوار الاقليمي، والفضاء العالمي الإنساني.
واليوم مع غلبة النزعات الايديولوجية العابرة لوطننا، والتي أضرت بثورتنا وتضحياتنا، كم نحن بحاجة ماسة للعودة إلى وطنيتنا السورية الصرفة وأبجدياتها الأولى للخلاص مما انتهى إليه حالنا بعد أن ظن البعض أنه أوان تحقيق أوهامهم وخيالاتهم المريضة…؟!
وعندما تحدث الراحل عن (الحرية أولا) كان يدرك، عن وعي عميق وفهم تاريخي أصيل، حاجتنا للحرية لبناء أوطاننا على أسس متينة أولها بناء الانسان_ الفرد قبل الحديث عن أي مشاريع تحمل صبغات فكرية متأثرة بهذا الاتجاه العالمي أو ذاك، باعتبار الحرية، وحدها، بما تتيحه من فضاءات واسعة قادرة على استيعاب وتنمية كل احتياجاتنا الوطنية والقومية والإنسانية.
وأظن أننا اليوم بحاجة قصوى إلى العودة إلى هذا المفهوم العميق الدلالة والمعنى، على بساطة طرحه واختزاله، أمام الاحتلالات المتعددة تحت مسميات مختلفة، وحجم الاتباع والالحاق والاستلاب الذي حل بنا، وحولنا إلى مجرد بيادق وأدوات في مشاريع متصارعة على أرضنا وفقا لمصالحها وأطماعها، خصوصا اذا ما اقترن هذا المفهوم بالديمقراطية التي شدد عليها داخل المجتمع وقواه وفي العلاقات البينية بين مكوناته وداخل أطر القوى الاجتماعية والسياسية والمدنية.
يمكن قول الكثير عن شخص جمال الأتاسي وتاريخه وسيرة حياته وعطائه لكننا في هذه العجالة أشرنا إلى ثلاثة عناوين رئيسة تخصنا اليوم وتحرضنا على التمسك بها والعمل من خلالها ولأجلها.
بعد 22 عاماً على رحيل الدكتور جمال الأتاسي، أزعم أن أهمية الرجل، وماقدمه، تزداد ولا تنقص، ومعها يزداد حضوره وليس غيابه، وإن كان البعض يرى أن ماقدمه جاء في سياقات تاريخية مختلفة ومغايرة أصبحت من الماضي، كما أن العودة إلى إنتاجه الفكري والمعرفي وقراءة مساره السياسي يوضح بجلاء صلاحيته لحاضرنا ومستقبلنا، لما فيه من معالجات لواقعنا وحالنا.
بهذا المعنى أهمية جمال الأتاسي اليوم لا تقل عن الأمس، وحاجتنا كبيرة لإعادة الاعتبار لماقدمه، هو وآخرون، باعتبار أن ذلك هو جزءً من “صناعة المستقبل”، وذلك عمل وطني ضخم وكبير قصرت فيه المؤسسات المعنية من مراكز دراسات وأبحاث، وتعاملت معه بانتقائية تعكس مزاجها وهواها غير النزيه، والمخالف لأصول البحث العلمي والوطني المحايد.
جمال الأتاسي أكثر حضورا في واقعنا رغم رحيله عنا قبل عقدين ونيف في 30 آذار/ مارس 2000.