ملاحظات على مسار الغزو الروسي لأوكرانيا

د. مخلص الصيادي

وقد دخل الهجوم الروسي على أوكرانيا شهره الثاني فمما لا شك أنه سجل فشلاً ذريعاً في الوصول إلى هدفه الذي كان يتوقع إنجازه خلال أيام.

كان الهدف اكتساح أوكرانيا، والوصول إلى كييف وإسقاط شرعية الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، وتنصيب قيادة تابعة لموسكو، وترتيب سريع للأوضاع كل ذلك دون أن تقع خسائر مهمة في القوات الغازية.

ومع تأخر الوصول إلى الهدف خرجت البروباغندا المناصرة لموسكو تردد ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين أن كل ما يجري محسوب، وأن الخطة تسير على نحو ما هو مرسوم.

والحق أن هذا الادعاء بات ممجوجا، ولا قيمة له، وبات مطلوبا النظر مباشرة إلى الحقائق التي يسطرها الواقع:

 1- فقد أعطى صمود القوات الأوكرانية بعدا وطنيا عاما عند الأوكرانيين، ويمكن القول إنه ولد “وطنية اوكرانية”، ما كانت متوقعة، وذلك نتيجة العلاقات التاريخية والثقافية بين روسيا وأوكرانيا، ونتيجة عوامل تشارك كثيرة ومتشعب. وباتت “الوطنية” المتولدة عن الغزو هي الحاكمة للموقف الشعبي.

2- وأعطى صمود القيادة السياسية ممثلة بالرئيس الأوكراني شرعية شعبية أكثر عمقا وتأثيرا من شعبيته الدستورية التي نالها بالانتخابات، وكان لرفضه عروض الخروج من كييف واللجوء إلى الجوار، رغم معرفته بأنه شخصيا مستهدف، أثره المباشر في اكتساب هذه الشرعية.

3- وهذا الصمود العسكري والرئاسي أسقط فرص التغلب على الشرعية الراهنة، حتى لو تمكنت محاولات النيل من الرئيس من الوصول إلى أهدافها، فالرئاسة أصبحت جزء من الهوية الوطنية، وأي تعرض للرئيس سيعزز مكانتها، ولن يقدم أي فرصة معتبرة لرئاسة عميلة تنصبها قوات الغزو.

4- وفق أي اعتبار فإن الخسائر الروسية في هذا الغزو كبيرة جدا، وسواء اعتمدنا الرقم الرسمي الروسي او تقديرات الأوكران أو الناتو. فكل التقديرات باتت بآلاف القتلى وآلاف المصابين، وهذه خسارة لا تبدو مبررة أما الشارع الروسي، ولا أمام العسكرية الروسية التي خسرت عددا مهما من قياداتها.

5- كل حديث يتم تداوله حول دور الدعم الخارجي في صمود ومقاومة الأوكران، لا يعدو أن يكون محاولة لتغطية الفشل، لأنه لا جديد في هذا الدعم، وقد كان منتظرا بأكثر مما تم فعلا، ويجب أن يكون محسوبا لدى القيادة الروسية حينما قررت الغزو، وكذلك بأكثر مما تم فعلا.

6- كل الإعلانات بأن غرض الهجوم أصلا كان دعم استقلال الانفصاليين في دونباس، حديث تنفيه تصريحات الرئيس الروسي والقادة العسكريين والسياسيين، كما تنفيه طبيعة هذا الغزو، وتعزز هذه التصريحات ـ المعتبرة تراجعا عن تصريحاتهم بداية الغزو ـ إدراك القيادة الروسية لفداحة الخسائر، وأنها كانت مفاجئة، وكذلك شعورها بوعورة الوصول إلى الهدف الأصلي.

7- وانكشف الموقف الروسي المتردي حين ذهبت القيادة الروسية إلى الاستعانة بالمرتزقة الذين تأتي بهم من خلال شركة فاغنر، وهؤلاء وصمة عار في جبين القيادة الروسية، وجبين كل قيادة تلجأ للمرتزقة لتنفيذ أغراضها، لأن أهمية هؤلاء أنهم مأجورون، وأنهم غير مقيدين بالقوانين والقواعد القتالية التي تقيد القوات النظامية، لذلك فإن وجودهم يؤشر مباشرة ليس على عجز القوات النظامية عن تحقيق أهدافها فحسب. وإنما أيضا عن التوجه لارتكاب جرائم حرب وعمليات إرهاب ضد المدنيين على نحو ما فعل هؤلاء في سوريا.

8- الموقف الأوروبي والأطلسي الموحد لم يستطع أن يغطي حقيقة أن الناتو بات أمنيا وعسكريا حلفا فات زمنه أوربيا وعالميا، وأن أوربا هي المتضرر الرئيس من التأخر في بناء نظرية أمنية وتنموية وأخلاقية توفر لها، وللعالم وضعا أكثر استقرارا، وأكثر انسجاما مع عالم لم يستطع القطب الواحد لطبيعته أن يوفرها، ولا أن يتحمل تكاليف ذلك.

9- هذا الغزو الروسي المتعثر لم ينته بعد، وليس واضحا كيف يمكن أن ينتهي، لكن من المؤكد أن نهايته لا يمكن أن تبنى على مفهوم هزيمة روسيا، ولا على مفهوم انتصارها وهزيمة أوكرانيا أو تقسيمها، فالأمر بات أوسع من روسيا، ليمتد إلى الصين وعوالم أخرى، وأبعد مدى من أوكرانيا ليغطي دول أوروبية عديدة كانت تنحو في اتجاه الحياد، لكن الغزو الروسي أرعبها. وما عاد الحياد واقعا يمكن الاحتماء به.

10- وكشف الغزو أن العالم في حالة عري: أمنه الغذائي، والمالي، والطاقوي، والنووي، كله مكشوف. وأن نظرية حظر الانتشار النووي لم تثمر، كما ظهر عور الاستهانة بالقطاع الزراعي لحساب القطاع الصناعي، وعور الاعتماد على السياحة في قوة الاقتصاد، والاعتماد على الاستثمارات الخارجية في تحقيق التنمية، كل ذلك بات في مهب الريح التي تثيرها أية أزمة حقيقية. كما كشف نظام العقوبات الذي أحاط بروسيا أن النظم المالية والمصرفية يمكن أن تسقط في أية لحظة، وأنه سيكون لسقوطها دوي وتأثير صاخب لا يعرف مداه على العالم كله.

العالم أمام أزمة حقيقية خانقة، وليس حلاً مؤقتاً يهدئ من روع ما نحن فيه، ولن يكون الحل إلا بتصور مبدع يجعل من هذه الأزمة مدخلا لبناء عالم جديد، نحن جميعا في أمس حاجة إليه. نظام قائم على العدل والتكافل والأمن والاستقرار للجميع….. لكن ذلك حلم….. حلم لم تظهر بعد بشائره بعد، ويخشى أن تكون الإنسانية بحاجة الى دفع أثمان وتكاليف أكبر للوصول إليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى