مع كل يوم يمر نبتعد أكثر فأكثر عن الاستراتيجية الأصلية لحرب روسيا على أوكرانيا , تلك الاستراتيجية التي بنيت على أساس الدفع بقوى عسكرية فائقة الضخامة مع سيطرة جوية تامة لانهاء احتلال اوكرانيا خلال أيام بالتقدم السريع في عدة محاور أهمها التي تطوق العاصمة كييف . وحده سقوط كييف كان سيحسم الحرب , وهناك كان بالامكان فرض الأمر الواقع على الأوكرانيين أولاً والعالم ثانياً . وسيظهر الأمر وكأنه تصحيح لمسار سياسي خاطىء لفئة أوكرانية لاتمثل غالبية الشعب الأوكراني تحاول فصم الروابط التاريخية مع روسيا وحسم توجه أوكرانيا نحو الاتحاد الأوربي ومن ثم الناتو . ربما ستقبل روسيا بعد ذلك اعادة الانتخابات التي ستعيد للسلطة بدون شك التيار السياسي لفيكتور يانوكوفيتش وأنصاره , وتقصي بطريقة حاسمة من جاء على ظهر الثورة البرتقالية المتهمة بالعمالة للغرب . لكن الحلم باحتلال كييف أصبح بعيد المنال اليوم . فما هو البديل لدى روسيا ؟ حرب الاستنزاف التي تستخدم فيها روسيا أسلحتها المدمرة كما اعتادت سابقا على استخدامها في غروزني وحلب . تقول الاستراتيجية الروسية الجديدة : سوف ندمر كل يوم حيا من أحيائكم , ومصنعا من مصانعكم ,ومستشفى من مستشفياتكم , وننشر الموت والخوف في أوكرانيا كلها فهل ستحتملون ذلك طويلا ؟ لكن هذه الاستراتيجية التي تعود في الأصل لجنكيز خان والذي ينسب إليه القول : ” الأرض التي تطأها سنابك خيلي لاينبت فيها العشب ” وهي التي تسمى أيضا بلغة العصر باستراتيجية الأرض المحروقة , وقد طبقها سابقا بوتين في غروزني ثم في حلب تجد أمامها حرب استنزاف من الجهة الأخرى ليست بأقل منها . فالجيش الروسي ليس مؤهلا للبقاء بأعداد كبيرة وسط بلاد واسعة تنتشر فيها الغابات والمستنقعات , ويجد الجنود الروس أنهم محاطون بسكان ينظرون اليهم كمحتلين . ومعنويات الجيش الروسي سوف تتراجع مع تحول حربه لحرب استنزاف لاتبدو في الأفق نهاية لها . والجيش الأوكراني الذي لم يتفكك بالضربة القاضية كما كان يحلم الكرملين يقاتل اليوم قتالا مستميتا في كل مكان , ويتم اصطياد الدبابات والطائرات الروسية بفضل صواريخ ستينغر وجافلين ومسيرات بيرقدار التي انهمرت على اوكرانيا حتى تكاد أن تصبح خبز المقاومة الأوكرانية . ولاشيء يدل على أن تلك المقاومة ستتلاشى قريبا , والأرجح أنها مهيئة لتتحول الى حرب استنزاف مضادة لحرب الاستنزاف الروسية . إذن نحن بين حربي استنزاف ومن ينتصر هو من يتحمل الاستنزاف لفترة أطول وليس من لديه دبابات وطائرات أكثر . فمن سيتحمل الاستنزاف أطول من الآخر ؟ روسيا قوة الاحتلال التي تعاني اليوم العقوبات الاقتصادية والعزل السياسي ويقف الرأي العام العالمي بغالبيته الساحقة ضد غزوها لأوكرانيا والتي فشلت في حملتها العسكرية وتكبدت خسائر كبيرة حتى الآن ؟ أم أوكرانيا المدافعة عن وجودها والتي أظهر شعبها وجيشها الوحدة والتماسك والعزيمة الأكيدة للمقاومة وكسب تأييد معظم الرأي العام العالمي في دفاعه المشروع عن بلاده بوجه الاحتلال . مع كل صاروخ يستهدف مجمعا سكنيا أو مستشفى أو سوقا , مع كل ضحية بريئة امرأة أو طفلة أو شيخ , تزداد عزلة روسيا وتزداد صورتها الوحشية سوادا , ويتعمق تورطها في المستنقع الأوكراني . في حرب الاستنزاف لايعود مهما كم كيلومترا تقدم الجيش الروسي بل كم فقد من الجنود والضباط والآليات , وبقدر ما توقع المقاومة الأوكرانية فيه من الخسائر بقدر ما تقترب من النصر . وبخلاف الحرب الخاطفة , تحتاج حروب الاستنزاف للتفوق المعنوي والأخلاقي , واليوم لم يعد بالامكان سوق آلاف الجنود الشباب للموت دون سبب يمس وجدانهم ويشعرهم بعدالة قضيتهم وأن تضحيتهم تبررها أهداف سامية عظيمة . والجندي الروسي الذي ذهب لأوكرانيا وهو لايعرف تماما لماذا يحارب الاوكرانيين لن يبقى جاهلا بما يدور حوله , وسيكتشف أنه هو أيضا ضحية البروباغندا الرسمية الروسية وأن تلك الحرب الوحشية لم تكن ضرورية لروسيا في أي وقت . حرب الاستنزاف ليست لمصلحة روسيا ويبقى أمامها الافراط في استعمال القوة , أو اللجوء لأسلحة غير تقليدية لارهاب الاوكرانيين وحلفائهم ودفعهم للاستسلام . لكن استعمال هذه الورقة سيكون باهظ الثمن على سمعة روسيا وقد يهدد بتوسيع الحرب بدلا من حسمها , وربما تكون له نتائج كارثية تخرج الحرب عن السيطرة الى ابعاد غير معروفة . لكن روسيا محشورة اليوم في الزاوية , وربما تحتاج لمن يخرجها من ورطتها الكبرى , ِواذا تذكرنا ماذا قال الخميني حين وافق على وقف اطلاق النار مع العراق من أنه وقع قرار وقف اطلاق النار وكأنه يشرب السم , فلن يكون قرار بوتين بوقف الحرب سوى كأس سم آخر فهل يتجرعه بوتين ؟