بعض الخطاب العالمي الذي أوجده فيروس كورونا

طلال المصطفى

من يتابع حركة الخطاب العالمي، في فترة انتشار ظاهرة مرض كورونا، يجد أن مساحة جديدة برزت لاستكشاف أدواره الجديدة ووظائفه في حياة المجتمعات الإنسانية كافة، تجاه القضايا والأزمات التي تواجهها، وقد عُبّر عن الخطاب العالمي الجديد، في الكتابات الأولية التي تصدر عن المؤسسات المجتمعية كافة، أو عن العلماء والباحثين في تخصصاتهم المتعددة، أو التي تصدر عن خلفية أيديولوجية أو سياسية محددة، وتكشف عن وجهة نظر محددة إزاء قضايا سياسية اقتصادية، اجتماعية، دينية…. إلخ. وتشابك ذلك الخطاب، سلبًا وإيجابًا، مع المجتمع وقضاياه.

بالرغم من الإشكاليات التي نشأت داخل الخطاب العالمي الجديد، بفعل أزمة كورونا، ولا سيما مع تعليق النشاطات والتجمعات البشرية على الصعد كافة؛ فقد كشف الاتجاه العام لتوجهات الخطاب عن درجة عالية من الفاعلية في التعاطي مع الأزمة، عبر البحث عن قصور الإجراءات الحكومية (الصحية، الاقتصادية، التعليمية، السياسية، الاجتماعية وغيرها)، ونقدها في مواجهة تفشي الفيروس، والتفكير الجدي في ملامح الدولة سياسيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا، بعد انتهاء أزمة كورونا.

فرضت أزمة مرض كورونا على البشرية خطابًا إنسانيًا جديدًا على الصعد كافة، الشخصية والعامة، من خلال إزاحته للموضوعات السائدة ما قبل كورونا، على المستوى الفردي والأسري من جانب، حيث لم يعد هناك وقت للحديث عن ظروف العمل، الهوايات، كيفية قضاء العطل، الحب، الزواج…. إلخ. وعلى المستوى المجتمعي العام من جانب آخر، حيث ارتبطت جميع الموضوعات الجديدة في الخطاب العالمي بمرض كورونا (الأنشطة السياسية، الاقتصادية، الفكرية والثقافية، الأنشطة الترفيهية، التعليمية والبحثية، الثورات والحروب.. إلخ).

من خلال نظرة أولية وسريعة على النصوص المنتجة من قبل العلماء والباحثين من كل الاختصاصات، في المجلات والصحف الورقية والالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، نلاحظ أن هناك هيمنة مطلقة للخطاب الجديد المرتبط مباشرة بمرض كورونا، على معظم نصوص الخطابات الاقتصادية، السياسية، السوسيولوجية، الدينية، التربوية، التعليمية، الصحية، الفنية، الرياضية، الإعلامية، حتى الفكاهية الشعبية (النكت).

 الحديث عن خطاب إنساني جديد يرتبط بمرض كورونا، على الصعيد العالمي، هو حالة طبيعية، وإذا ما عدنا إلى التاريخ الحديث القريب؛ وجدنا في كل فترة تاريخية محددة هيمنةً لخطاب مرتبط بالأحداث السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، العسكرية (الحروب)، بداية من خطاب الحرب الباردة وقضايا التحرر الوطني بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في التسعينيات، إلى خطاب النظام العالمي الجديد والعولمة، على إثر انهيار المعسكر الاشتراكي، وانفراد الولايات المتحدة الأميركية في الهيمنة على العالم، وفيما بعد خطاب العالم ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وبعد 2010 في خطاب ثورات الربيع العربي ومآلتاها…إلخ.

 وبالعودة إلى هذا الخطاب الجديد المرتبط بأزمة مرض كورونا، الذي يمكن القول إن ملامحه الأولية بدأت؛ يظهر الآتي:

1- على الصعيد الاقتصادي، لوحظ البحث والحديث عن حرب بيولوجية تقودها واشنطن، لإضعاف الصعود الاقتصادي الصيني ومحاولة الهيمنة على العالم اقتصاديًا. وفي الوقت نفسه، هناك حديث مضاد عن اتهام الصين بنشر الفيروس، في محاولة منها للهيمنة الاقتصادية على العالم، حتى إن الرئيس الأميركي (ترامب) وصف فيروس كورونا بـ “الفيروس الصيني”، من خلال عدّه إرهابًا طبيًا صينيًا/ روسيًا متعمدًا، كما جاء في استقصاء جريدة الليموند الفرنسية على عينة من الفرنسيين، في 10 نيسان/ أبريل 2020. وكذلك ما كُتب عن المحاولة الأوروبية التضحية بكبار السن، لتخفيض عدد السكان وردم الفجوة بين السكان والموارد الاقتصادية.

بدأت تتبلور توجهات نظرية اقتصادية جديدة تدعو إلى إيجاد بدائل اقتصادية متوازنة، من خلال رفضها للسياسات الاقتصادية الاحتكارية، بل تحدّث وزير المالية الفرنسية (برونو لومير) بأن الحكومة مستعدة إلى اللجوء إلى كل السبل، التي من بينها “التأميم -إذا لزم الأمر- من أجل حماية الشركات الفرنسية المهددة من جراء تفشي فيروس كورونا، وخاصة الشركات الاستراتيجية”. أي الدعوة إلى ضرورة تدخل الدولة اقتصاديًا؛ بهدف إعادة التوازن وضمان عدم حدوث انهيار على المستوى المجتمعي.

2- على الصعيد السياسي، حديث العاملين في الحقل السياسي عن صعود أزمة الأنظمة الرأسمالية اقتصاديًا، وخاصة على صعيد توفير الخدمات الرئيسية للمواطنين، من صحة وطبابة وتعليم وغذاء، وإذا ما تصاعدت هذه الأزمة أكثر في المستقبل؛ فهناك إمكانية للعودة إلى بروز التيارات اليسارية الاشتراكية، بعد أن خمدت على إثر انهيار الأنظمة الاشتراكية في العالم. بل وجد البعض في ظاهرة أزمة كورونا أنها وضعت حدًا لنظام العولمة، ورأى أن هناك إمكانية للعودة إلى الدولة القومية/ الوطنية.

أما أنصار الحرية والديمقراطية، فقد عبّروا عن هواجسهم وتخوفهم من إمكانية تعزيز هيمنة الأنظمة الاستبدادية على شعوبها، وعودة التيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا، وإمكانية مصادرة حقوق المواطنين، لوجود أوجه تشابه كبيرة بين الإجراءات (القمعية) المطبقة على المواطنين التي فرضتها معظم دول العالم للوقاية من فيروس كورونا، والإجراءات التي تمارسها الأنظمة الاستبدادية.

.

3- على الصعيد العلمي والبحثي، برزت الدعوة إلى إعادة الاعتبار للبحث العلمي عمومًا، والطبي خصوصًا، بل مورست هذه الدعوات من خلال العمل الحثيث في المختبرات، حيث تقدم البحث الطبي المختبري، في الأشهر الأخيرة، تقدّمًا لم يتقدمه في العشر سنوات الأخيرة، من أجل الوصول إلى لقاح لهذا الفيروس في أقرب وقت ممكن، بهدف تقليل الخسائر الاقتصادية والبشرية، وما زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى المختبر المتخصص بالبحث عن اللقاح المناسب، إلا مؤشر على إعادة الاعتبار للقطاع الطبي والصحي، بعد أن أُهمل لصالح قطاعات صناعة الأسلحة والحروب، والمجالات الترفيهية (الرياضة، الغناء والرقص.. إلخ).

وليست العلوم التجريبية وحدها التي ركزت على هذه الظاهرة لمرض كورونا، حيث إن العلوم الإنسانية والاجتماعية أيضًا بدأت بالاهتمام، وقد تصدى معظم علماء الاجتماع للبحث السوسيولوجي، في ما يتعلق بالآثار الاجتماعية المستقبلية، وعبّر عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين، عن حالة ما يسمى بالحجر الصحي “البقاء في البيوت”، بأن الناس تعيش حالة “اللامعنى” في الوقت الحالي، وكذلك كان رأي الباحثين في الحقول الإنسانية، وقريبًا سنقرأ نصوصًا أدبية تتعلق بزمن كورونا وما بعده.

4- على الصعيد الديني، برز الموضوع القديم الجديد للبحث والمناقشة، حول العلاقة بين الدين والعلم، وهي واحدة من القضايا الإشكالية الأزلية في الخطاب الإنساني، وربما تكون أزمة كورونا قد أعادت هذا الموضوع إلى الواجهة مجددًا. ففي الوقت الذي كانت الأكاديميات الطبية والصحية تؤكد أن فيروس كورونا ينتشر بوتيرة متسارعة عبر التجمعات البشرية، كان الخطاب الديني يشهد تباينات داخلية حول طريقة التعامل مع الشعائر الدينية الجماعية.

 صحيح أن الخطاب الديني الرسمي عبّر عن درجة من التوافق مع العلم، باتباع الإجراءات والسياسات الصحية اللازمة لمواجهة الفيروس، وبمطالبة الأفراد بالالتزام بها؛ بيد أن ثمة اتجاهًا دينيًّا آخر لم يلتفت كثيرًا إلى هذه السياسات، وقدّم خطابًا منعزلًا عن العلم. وكان لهذا الاتجاه الديني المنعزل عن العلم تأثيرات عكسية.

برز من يتحدث عن الانتقام الإلهي، ضد غير المؤمنين الذين اقترفوا انحرافات أخلاقية وقيمية (المثلية الجنسية نموذجًا) باعتبار أن مرض كورونا عقابٌ. وفي الوقت نفسه هناك اتجاه مضاد تحدث عن إمكانية انحسار الخطاب الديني المتطرف الحاضن للإرهاب، والعودة إلى الدين الشعبي الأخلاقي المتسامح، أي حدوث انحسار لدور المؤسسات الدينية الرسمية، في الحقل السياسي والاجتماعي وغيرهما.

أخيرًا، أعتقد أننا أمام خطاب إنساني عالمي جديد، في أثناء كورونا وما بعده، وفي كل التخصصات العلمية والإنسانية، سوف يتبلور أكثر في المستقبل لدرجة أنه سيحتاج إلى دراسات علمية متعددة الاختصاصات (الطب والصحة، علم السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، النفس..)، لرصد موضوعاته وغاياته واستراتيجياته.

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى