لم تعمر سنوات التقارب والانفتاح التركي السوري التي انطلقت في مطلع الألفية الجديدة طويلاً. وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا، قابله تسليم بشار الأسد السلطة في سوريا. المحاولة كانت مشجعة للطرفين لتجاوز ملفات خلافية سياسية وتاريخية وأمنية بين عامي 2001 و2010. اندلاع ثورات الربيع العربي التي دعمتها أنقرة امتدت إلى الحراك الشعبي في المدن السورية. حاولت القيادات السياسية التركية أكثر من مرة إقناع الأسد بالاستماع إلى صوت الشارع ومطالبه لكن دون نتيجة. لم يتأخر النظام في دمشق بتحميل تركيا مسؤولية المشاركة في التدخل بشؤون سوريا. تعقدت العلاقات أكثر بعدما انتقلت إلى مرحلة أكبر من التصعيد والتوتر نتيجة اصطفافات إقليمية ودولية حيال الملف، واكبها تحول أكبر في سياسة تركيا السورية بعد موجات نزوح ولجوء بالملايين باتجاه حدودها وتطورات أمنية ميدانية دفعتها للقيام بثلاث عمليات عسكرية مباشرة في الشمال السوري.
تحالفات إقليمية عديدة تغيرت في العقد الأخير خلال سنوات الأزمة قدمت لعبة التوازنات والمصالح في سوريا إلى الصف الأول ودفعت الانتفاضة والمطالب الشعبية إلى الصف الثاني. ووجدت تركيا نفسها مرة أخرى وسط شبكة من التعقيدات وهي تحاول حماية مصالحها وأمنها من جهة وتمسكها بدعم قوى المعارضة المحسوبة عليها من جهة ثانية.
بعد مرور كل هذه السنوات على الثورة انقسم الداخل التركي اليوم حول المشهد السوري وتحول النقاش إلى قضايا لجوء وتجنيس وهاجس أمني وأعباء اقتصادية وأوراق ضغط سياسي وانتخابي ومواجهة خطط تفتيت واستهداف لوحدة سوريا يكون لها ارتداداتها على تركيا. كل شيء موجود تقريبا إلا بوادر حلحلة أو انفراجة تنهي المعاناة. آخر نقاشات القيادات السياسية التركية تمحورت حول سنعيدهم ما إن نصل إلى الحكم أو سنبقيهم إلى أن يقرروا هم المغادرة. البحث في سبل إيجاد حل للأزمة وإخراج البلاد من محنتها ليس بين الأولويات لأن الأمور تشابكت وتعقدت نتيجة تضارب المصالح الإقليمية والدولية.
هدف تركيا في المرحلة المقبلة إذاً هو صناعة سياسة تركية مغايرة في الحوار والتفاوض مع الأطراف الفاعلة وطرح رؤية جديدة لا بد منها لمساعدة السوريين على إيجاد مخرج لمحنتهم. من الذي سيقوم بذلك حزب العدالة والتنمية في الحكم أم قوى المعارضة التركية في حال وصولها إلى السلطة في حزيران 2023 أم أن أنقرة تعول على تحولات إقليمية جديدة في هذه الآونة تدفع الأمور باتجاه مغاير نتيجة تطورات سياسية وتوازنات استراتيجية محتملة تخلط الأوراق مجددا في سوريا أيضا؟
من ثورة لا بد أن تكون مكلفة لتحقيق أهدافها إلى محنة شعب وأزمة بلد حملت السوريين فوق طاقاتهم بكثير. تركيا أيضا تشارك في تقاسم الكلفة بمواردها وإمكاناتها لكن المشكلة اليوم هي ليست الأعباء وحدها، بل صناعة فرص الحل وسط هذا التخبط والاصطفاف الذي ربط قدر الثورة بقدر ملفات خلافية إقليمية ودولية متداخلة بينها الجغرافيا السياسية والأمن القومي والإقليمي وتقديم حسابات ومصالح البعض. الحل المطلوب سيحمل معه إذاً إرضاء الثوار وعموم الشعب السوري وأصحاب النفوذ والمصالح المحليين والإقليميين وهو بين المستحيلات. احتمال سقوط روسيا في مستنقع أوكرانيا وتضييق الخناق على إيران في الإقليم قد يتحول إلى فرصة لتحريك الملف السوري. المصالحة التركية الإسرائيلية قد تشمل الملف السوري أيضا باتجاه صناعة مشهد تسوية إقليمية مدعومة عربيا لكن تركيا هي من يتوسط؟
التموضع التركي في التعامل مع ملف الأزمة السورية يعطي الأولوية اليوم إلى عدم إطالة عمر الأزمة أكثر من ذلك، وضرورة إخراج الملف من غرفة الانتظار واستبعاد الحسم العسكري ورفض أي تحرك انفصالي. فما الذي يدور في ذهن أنقرة سوريا وهي تبحث مع موسكو وواشنطن وبرلين وتل أبيب وأبوظبي والدوحة فرص التعاون والتنسيق بعد قرار المراجعة الجذرية في سياساتها الإقليمية؟
أعلن النظام في دمشق عن قرار مواصلة التعبئة والتجييش لإرسال آلاف المرتزقة – المتطوعين إلى أوكرانيا للقتال إلى جانب القوات الروسية. لا يجوز لأنقرة أن تعلن أي موقف حيال هذه الخطوة. هو قرار سيادي يعود لدمشق وخياراتها وضرورة رد الجميل الروسي الذي يقدم منذ عقود.
المسألة تعني الجامعة العربية حتما واحتمال كبير أنها ما زالت تدرس نص البيان الذي ستصدره وتبحث عن صيغة تحميل تركيا مسؤولية هذا القرار الذي اتخذه بشار الأسد. أو أنها ستنتظر موعد انعقاد القمة الجديد فهي قالت ما عندها قبل أيام عندما نددت ببقاء القوات التركية داخل الأراضي السورية والعراقية والليبية ودعتها للمغادرة رغم أنها نسيت الإشارة إلى بقية القوات والمقاتلين الأجانب وتجاهلت السبب الذي تسوقه أنقرة حول تهديد أمنها الحدودي من قبل مجموعات باتت تمتلك السلاح الأميركي الثقيل للدفاع عن مشروعها الانفصالي، وأخرى تحارب بالسيوف الإيرانية وهي قادمة من لبنان والعراق واليمن ولا تعني شرعية وجودها فوق الأراضي السورية أي شيء لبعض الدول العربية.
توقيت بيان الجامعة العربية كان لافتاً طبعا. لا يمكن فصله عن محاولات الصعود التركي الإقليمي الجديدة وتحرك أنقرة النشط على خط الأزمة الأوكرانية بين استقبال وتوديع، بينما نرصد عاصمتين عربيتين فقط تتحركان وسط المشهد من بين كل هذه المنظومة التي تبنت الحياد السلبي.
صدمة البعض في الدول العربية كبيرة وستكون مخيبة للآمال إذا لم تتحرك سريعا لقطع الطريق على المناورات التركية على خط موسكو – برلين – تل أبيب – أثينا. بايدن يتخلى عن دعم ” إيست ميد” والمستشار الألماني يأتي بعد ساعات على مغادرة الرئيس الإسرائيلي ورئيس الوزراء اليوناني، وشرق المتوسط وخطوط نقل الطاقة من الشرق إلى الغرب في قلب النقاشات. الأزمة الأوكرانية قد تتحول إلى فرصة استراتيجية إقليمية لتركيا، وبعض العواصم العربية مشغولة بتحذير أنقرة من إبقاء قواتها في الشمال السوري ببيان ليس تضامنياً مع الأسد طبعا بل دفاعا عن سيادة ووحدة وتماسك سوريا.
نجاح التحرك التركي على خط الأزمة الأوكرانية صعب وبين المستحيلات، هناك من يتحرك أيضا لعرقلته في العواصم الغربية لأن من مصلحته استمرار الحرب وتشعب الأزمة لمحاصرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتضييق الخناق على نفوذه الإقليمي. وهناك من يجلس في الكواليس رافعا يديه نحو السماء يدعو لفشل الوساطة التركية لأنها ستعزز موقع أنقرة ودورها الإقليمي وتدفع واشنطن وموسكو لمراجعة سياساتهما ومواقفهما الكثيرة حيالها. اختراق تركي في ملف الأزمة الأوكرانية حتى ولو لم يكتمل ستكون ارتداداته شئنا أم أبينا كبيرة على الملف السوري. فكيف تستعد قوى المعارضة في الداخل والخارج لتجيير معادلات وتوازنات قد لا تسنح مرة أخرى؟ من الذي سيحرك المياه الراكدة ويقود السفينة لاستغلال ما يجري باسم السوريين، عندما تتحول الأزمة الأوكرانية واحتمالات تغير المعادلات والتوازنات والتحالفات وضرورات المرحلة إلى فرصة لا تعوض لسوريا وشعبها؟
الكلام منقول عن أحد الأقلام اللبنانية المعروفة بدعمها للثورة في سوريا: “أمام السوريين هذا العام فرصة ثمينة منحتها لهم روسيا، بعملياتها في أوكرانيا، حيث أصبح بمقدورهم دفع ملف قضيتهم نحو الواجهة عالمياً، من خلال تفعيل حضور المسألة السورية جنبا إلى جنب مع نظيرتها الأوكرانية، لوجود أوجه شبه كثيرة بينهما”. ونقول أيضا عن أحد الكتاب السوريين الذي ينصح بأنه: “أمام السوريين فرصة ذهبية لإطلاق حوار سوري ـ سوري، في ظل انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، وانشغال إيران بملفها النووي”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا