يحفل تاريخ الثورة السورية، كما التاريخ العالمي لثورات الشعوب بموجود مفاصل هامة، غالباً ما أحدثت منعطفات كبيرة في سيرورة نضال السوريين، سواءٌ باتجاه الصعود أو الانحدار، بل ربما أفرزت هذه المفاصل أو الانعطافات معطياتٍ جديدة تكون هي المنطلق الجديد للثورة، طالما أن عالم السياسة هو قرين التغيّر وإعادة التموضع، وذلك موازاة مع تغيّر المصالح، باعتبارها الموجّه الأهم للبوصلة السياسية بين الدول والجماعات والشعوب. ولعل هذا الأمر يفضي إلى اليقين بأن التماسك البنيوي وارتقاء الوعي الثوري والعمق السياسي لأية ثورة، إنما يُقاس بقدرة تلك الثورة على التعاطي السليم والدقيق مع الانعطافات المباغتة والمفاصل الحرجة في تاريخها.
لقد جسّد العدوان الأسدي الكيمياوي على الغوطة الشرقية في آب/أغسطس 2013 مفصلاً مبكّراً، وذلك من جهة ردّة الفعل الدولية على تلك المجزرة، وقد وصلت ردّة الفعل تلك إلى ذروتها حين أرسلت إدارة أوباما بوارجها الحربية إلى البحر المتوسط، مُعزّزةً الظن لدى الكثيرين بأن نظام الأسد لن يفلت من العقاب، إلّا أن الاندفاعة الأميركية سرعان ما تراجعت، وانتهى الأمر إلى صفقة ( روسية أميركية) تكتفي بانتزاع أداة الجريمة من يد المجرم، مقابل بقائه خارج العقاب أو المساءلة، وربما كانت تلك الصفقة بين بوتين و إدارة أوباما هي الرسالة الأبلغ التي تؤكّد للسوريين أن واشنطن غير راغبة بزوال نظام الأسد باعتباره ما يزال حريصاً ومحافظاً على دوره الفاعل والحيوي ضمن منظومة حماية أمن الكيان الصهيوني.
لعل المفصل الأكثر جذرية في سيرورة الثورة يتمثل بقرار بوتين أواخر أيلول/سبتمبر 2015، بالتدخل العسكري المباشر إلى جانب قوات الأسد، وذلك لإنجاز هدفين مباشرين: إنقاذ نظام الأسد من السقوط، ثم تمكين النظام من استعادة المناطق التي كان قد فقد السيطرة عليها. ولعل الرسالة الأميركية الأكثر بلاغة من وراء التدخل الروسي تتمثل بوضوح موقف واشنطن حيال مصير الشعب السوري الذي بات تحت مرمى طائرات بوتين وقاذفاته، إذ إن إدارة أوباما لم يكن لها أي اعتراض على جميع ما ارتكبه بوتين بحق السوريين، وكيف ستعترض وهي التي أوحت له بالاستفراد بالشأن السوري من أجل الحفاظ على نظام بشار الأسد.
ولعل المسألة الأكثر أهمية إزاء المفصلين السابقين تتمثل في كون حراك المعارضة السورية، أو ما يسمى بقوى الثورة والمعارضة – سياسياً وعسكرياً – لم تُنتج إستراتيجيات مقاومة للانعطافتين الروسيتين، كما أنها لم تفهم الرسائل الأميركية حينها، أو ربما فهمتها ولم يكن لديها أية ردة فعل، إذ اتجهت الكيانات الرسمية للمعارضة نحو التماهي مع المسعى الروسي، سواء من خلال الانخراط في مسار أستانا الذي لم يكن أكثر من عملية التفاف روسي على القرارات الأممية، لتقويضها وإفراغها من محتواها الجوهري، أو من خلال التماهي مع مخرجات سوتشي التي اختزلت القرارات الأممية بلجنة دستورية لم تكن سوى ملهاة ابتدعها الروس لترويض المعارضة السورية واحتواء مطالبة الأطراف الدولية بتطبيق قرارات الأمم المتحدة.
لعلها ليست مجرّد مصادفة عادية أن تتزامن الذكرى الحادية عشرة لانطلاقة الثورة السورية مع مفصل ثالث لا يقل نوعيةً وأهميةً من المفصلين السابقيين، أعني بذلك الحرب التي يشنّها بوتين على أوكرانيا، ولئن كان من الصحيح أن جغرافيا الحرب تتحدد ببلد يقع على التخوم الغربية لروسيا، إلّا أن المواجهة الحقيقية لا تختزلها الجغرافيا، ذلك أن بوتين لا يحارب الأوكرانيين فحسب، بل هو في مواجهة كبرى مع أميركا وأوربا، ولا غرابة إنْ انهمك السوريين بعقولهم ونفوسهم في تلك المواجهة، إذ إن مجرياتها ونتائجها ومجمل تداعياتها ستكون شديدة الأثر على القضية السورية، وربما كان هذا الهاجس هو الحافز الأكبر لدفع المعارضة السورية للتفكير مجدّدًا باستثمار الموقف الغربي المناهض لبوتين لصالح قضية الشعب السوري، وهذا ما تجسّد بالفعل من خلال الزيارة التي قام بها الإئتلاف إلى الجامعة العربية في الخامس من آذار/مارس الجاري، حيث التقى الأمين العام للجامعة، وربما يمنّي النفس بزيارة إلى واشنطن للقاء ممثلين عن الإدارة الأميركية.
لعل المفارقة المُحبِطة هي أن وفد الإئتلاف لا يملك المقوّمات الضامنة لتحقيق الحد الأدنى لنجاح حراكه الذي يقوم به، أي أنه ليس لديه مبادرات جديدة تدلّ أنه بالفعل ينوي الإستفادة من انحشار بوتين في الحرب الأوكرانية، ذلك أن الإكتفاء بمطالبة الآخرين ، سواء أكانوا عرباً أم أميركيين، بأن يكون لهم دور فاعل في القضية السورية، دون أن يكون لأصحاب القضية أنفسهم دور فاعل، لهو أمر لا يوحي بالجدية، بل يؤكّد على الطابع الوظيفي لكيان الائتلاف، إذ كان من الممكن ببساطة أن تعيد المعارضة السورية حساباتها، وتستثمر هذه الفرصة للتنصّل من كل القيود والمسارات التي قوّضت قضية السوريين، بل قزّمت تضحيات السوريين، وفرّطت بحقوقهم، إذ ما الذي يمنع قيادة الإئتلاف من أن تعلن- على سبيل المثال لا الحصر – ما يلي:
1 – عدم المشاركة في اللقاء المقبل للجنة الدستورية المقرر في الحادي والعشرين من آذار الجاري، دون قيام نظام الأسد بالإفراج عن النساء المعتقلات في سجونه، كخطوة أولى تبرهن على جدّيته بالتعاطي مع القرار 2254 .
2 – عدم الاستمرار بلقاءات اللجنة الدستورية دون إيجاد سقف أو إطار زمني محدد لكتابة الدستور.
3 – المطالبة بعودة جميع النازحين الذين شرّدهم العدوان الروسي من مدنهم وبلداتهم في شباط عام 2020 ، وتجدر الإشارة إلى أن جميع هؤلاء النازحين، ومعظمهم من سراقب وكفرنبل ومعرة النعمان والريف الشمالي لحماة، والريف الغربي لحلب، ما يزالون يعيشون في خيام لا تقيهم برداً ولا حرّاً.
4 – المطالبة بتحويل الملف السوري من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ لا يمكن الركون للفيتو الروسي الذي سيبقى معطلاً لأي قرار أممي لصالح ثورة السوريين.
ما من شك في أن أحداً من السوريين يتوهم أو يمنّي النفس بأن قيادة المعارضة السورية يمكن أن تبادر بهكذا مطالب، بل ربما ينظر الإئتلاف إلى هكذا مطالب باستخفاف تارةً، وربما بلامبالاة تارة أخرى، ليس لأنها عديمة القيمة، بل لأن الإئتلاف يدرك قبل سواه، أنه ليس فقط غير قادر على الفعل بسبب انعدام مقوّمات القوة المادية فحسب، بل لأنه لا يملك القدرة على إنتاج قراره الوطني بمعزل عن الوصاية الخارجية أيضاً، وتلك هي عقدة المنشار في القضية السورية.
المصدر: اشراق