ما حصل في أوكرانيا، بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي وإعلان استقلالها، ونزعُ أهم رادع كان بحوزتها، إرضاءً للغير أو اعتماداً على ضمانات خارجية لا قيمة لها في العلاقات الدولية، يجب أن يُعطينا نحن العرب قبل غيرنا إن كنا ندرك تشابكات المصالح بين الدول الكبرى الممسكة بتلابيب القرار الدولي، من الدروس التي تجنبنا المهالك في حسابات الاستراتيجية الإقليمية والدولية، ذلك أن العرب في نظر كثير من الأطراف الإقليمية والدولية، خاصرة رخوة يمكن اختراقها بيسر وبتضحيات محدودة جدا، لأن البلاد العربية تمتلك من الثروات الطبيعية والإطلالات البحرية على أهم ممرات الملاحة الدولية، ومن المستعدين للانخراط في مخططات خارجية مع توفير إغراء محدود ومؤقت، ما يُغري المغامرين القدامى والجدد للتوسع على حساب الأراضي العربية، من دون خشية من تبعات مثل هذه المغامرات، أو بسبب التواطؤ الدولي وما يوفره لأي طرف يمتلك الرغبة والقدرة للتوسع على حساب الأراضي العربية.
الدول العربية وبسبب اتساع رقعتها الجغرافية، وضخامة الثروات الطبيعية فيها وقلة السكان، وتخلف أدوات التطوير الاقتصادي والعلمي، هي أكثر دول العالم اعتمادا على الضمانات الدولية، التي تأكد زيفها في أكثر من واقعة، ومع ذلك لم تنفع في تحصين العرب من هذه الغفلة، بل مضت فيه مع أن أصوات كانت ترتفع هنا أو هناك مُحذِرةً من تداعياته، ولم تحاول تفعيل قدراتها التي تمتلكها فعلا، بل لم تتمكن من اكتشاف الكثير من عناصر القوة التي تمتلكها حتى الآن، وكي أخرج من التعميم وأدخل في صلب التخصيص، أقول في الوقت الذي تتسابق الدول لامتلاك القوة الروحية والمادية التي تستطيع بها لجم القوى الأخرى عن أية نوايا عدوانية تجاهها، نرى العرب يتخلون عما يمتلكون من أدوات يعرفون تأثيرها منذ زمن بعيد.
ويمكن تحديد أهم الأسلحة التي حيّدها العرب أو نزعوها من تلقاء أنفسهم بما يلي:
1 – وحدة الموقف العربي، وتعدد مراكز صنع القرار المتنافسة مع بعضها، وتحويل التناقضات الثانوية إلى تناقضات أولى في سلم سياسات النظم العربية، بل وصل الحال ببعض العرب إلى حالة الاصطفاف مع أعدائهم الخارجيين الاستراتيجيين، ضد أقطار عربية أخرى، شعورا منهم أن نجاحهم إنما يتركز في فشل الأشقاء وليس مواجهة الأعداء.
ربما لهذا السبب سعت دول عربية معروفة بارتباطاتها بالغرب، لإفشال تجربة حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وفُتحت له جبهات حرب سياسية واقتصادية وحتى عسكرية ساخنة كما حصل في اليمن، لأن تجربة الرئيس عبد الناصر كانت كابوسا ثقيلا يؤرق ليل النظم العربية المحافظة وخاصة في منطقة الجزيرة العربية.
ولم تقتصر حالة عداء الدول المحسوبة على التحالف الغربي، وحصراً دول الخليج العربي ومشيخاته على نظام الرئيس جمال عبد الناصر فقط، بل وجهوا كل طاقاتهم السياسية وقدراتهم الاقتصادية ومواردهم المالية وشنوا حرباً متعددة المحاور والجبهات على نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، لاسيما بعد تسلم الرئيس صدام حسين رحمه الله لموقع القيادة فيه، على الرغم من تظاهرهم بدعمه في معركة القادسية، لأسباب متعددة لا مجال للخوض فيها الآن، وفي آخر صفحات العداء المستور، صار التآمر على المكشوف، فبعد نهاية الحرب، جندوا كل طاقاتهم لإضعاف العراق اقتصاديا تمهيدا لإضعافه سياسيا وعسكريا، استناداً إلى فكرة بائسة بأن عراقاً قويا بعد خروجه من حرب ثماني سنوات مع إيران، سيشكل خطراً أكبر على دول الخليج العربي من خطر إيران ومن أي خطر آخر، وتعددت أوجه التآمر عليه وخاصة في مجال تخفيض أسعار النفط وشن حرب اقتصادية متعددة الجبهات عليه، وتلك الصفحات معروفة وأشبعت بحثا وتحليلا، وانتهت بالعدوان الثلاثيني على العراق عام 1991 بنتائجه المعروفة، ورغم ما تركه العدوان من تأثيرات مدمرة على العراق اقتصاديا وتمزيقه اجتماعيا، إلا أن الضغينة التي سيطرت على بعض الكيانات الخليجية، لم تُطفئ نيرانا ظلت تخبو تحت رماد من الزيف والخديعة.
2 – اتخذت دول الخليج العربي المنتجة للنفط موقفا سيئاً للغاية، عندما كانت تركز بمناسبة ودون مناسبة، على عدم استخدام النفط كسلاح سياسي، دفاعا عن مصالحها والحقوق العربية، فنزعت أهم سلاح اقتصادي يمكن لها أن تلجأ إليه عند الضرورة، وكأنها تريد أن تقول للعالم، نحن نتعامل بأخلاق مع العالم، مع أن الولايات المتحدة خصوصا والغرب عموما، كانوا يستخدمون المحاصيل الزراعية كأقوى أسلحتهم في حروبهم وضغوطهم على الدول الأخرى، مثل ما كان يحصل مع مصر عبد الناصر في استخدام سلاح القمح لإجبار عبد الناصر على تقديم تنازلات سياسية بشأن الصراع في الشرق الأوسط، وكما حصل في أزمات دولية كثيرة.
فهل يستحق العالم هذا الطراز من الشعارات الجوفاء، وخاصة في سلعة العصر وهي النفط، التي تدير ماكنة الاقتصاد العالمي، فهل من الحكمة أن ينزع طرف ما، أقوى ما في يده من أسلحة كي يرسل برسائل عاطفية إلى عالم لم تعد العواطف محركا للمواقف السياسية بقدر قوة الاقتصاد في صنع السياسة.
على العموم هذا أحد أوجه الإخفاق العربي في التعامل مع المجتمع الدولي باللغة الوحيدة التي يفهمها وهي لغة المصالح المتبادلة والقابلة للمقايضة حتى في أكثر القضايا إنسانية.
لكن هناك إخفاقات لا تقل عما سقناه من أدلة، فهناك أسلحة تم تجميد دورها في المساومات الدولية، كان يمكن أن تكون ذات قدرة على إحداث تغيير ما في المشهد العربي، هناك على سبيل المثال دول كثيرة في العالم تفتقر إلى الجانب المادي والثروات الطبيعية، فتبذل جهودا كبيرة من أجل امتلاك القوة الروحية التي تتمكن من خلالها إلباس أهدافها الوطنية أردية دينية أو تاريخية ذات تأثير سحري غلاب، وقادر على تحريك قطاعات واسعة من أبناء الشعب في نطاقها، بوعي أو من دون وعي، حتى تصبح تلك الدعاوى وكأنها جزء من الموروث الثقافي والديني لتلك الأطراف، ولعل أبرز من انتهج هذا الطريق، إيران عندما وظفت التشيّع توظيفا سياسيا تعبويا لخدمة مشاريعها الإقليمية والدولية، ولم تختلف حكومة إيرانية سابقة أو لاحقة عن هذا النهج، وإن كانت إيران الخمينية قد راحت بعيدا في هذا التوجه مستخدمة كل الانجازات العلمية الدولية وجندتها في خدمة مشروعها، مثل سرعة الاتصالات الدولية، وألبست الخطاب الطائفي الضيق والمستند على خلفية قومية، بعدا إسلاميا واسع النطاق لعبور الحدود الطائفية إلى الطوائف الأخرى، وألصقت هذه الرمزية الغلابة للدين، برمزية سياسية فعالة في المنطقة العربية، هي قضية فلسطين التي تحظى بإجماع قل نظيرة في الأوساط الشعبية العربية، فجعلت منهما معاً محركا قويا لأهدافها المتصادمة في واقع الحال مع جوهر الإسلام، ومع جوهر القضية الفلسطينية ووحدة الموقف العربي، وشقت بسياستها العرقية الانقسامية حركات المقاومة الفلسطينية ونشرت سمومها في كل أرض وصلت إليها، وكان الدين الفارسي الجديد يتطور بسرعة في إضافة الخرافات والأساطير، مستفيدا من البيئة الجديدة التي حل فيها، لتضاف إلى ما صنعه مؤسسو التشيع الأوائل، واعتمدت إيران التجهيل الجماعي سياسة ثابتة لتكريس كل ما يقوله معممون مكلفون بطرح أكثر الأفكار غرابة وإثارة للسخرية، على بيئة مأخوذة بالخرافات والحكايات التي لا تصح إلى في غرائب “ألف ليلة وليلة” وأعاجيبها، ولكن اللافت للنظر، أن الديماغوجية التي اتسم بها خطاب الزعامة الإيرانية، استطاع أيضا التسلل إلى بعض النخب السياسية العربية والإسلامية التي عانت من الضياع تحت ضغط الهزائم التي عاشتها مشاريعها الوطنية والقومية، وخداعها بنفس قوته على خديعة الأميين والجهلة، وهذا ما كان يدعو لوقفة للتأمل.
ربما نجحت تركيا بعد وصول حزب أردوغان للحكم، في الخطاب الإسلامي المستند على خلفية التاريخ العثماني، الذي حمل في بعض حقبه نزعة عدوانية شديدة الشراسة للعرب، كما هو حاصل في خطاب إيران الذي يستند إلى حقب طويلة من تاريخ الحروب بين العرب والفرس بدأت أولى صفحاتها قبل الرسالة الإسلامية، وما زال يتجدد بصفة مستمرة مع تغيرات جذرية تصب في خلفيات الصراع، فبدلا من شن الحرب على العرب تحت شعار الدفاع عن فارس، تم رسم مسارات أخرى جعلت إيران كثيرا من أتباعها أدوات طيعة بيدها للدفاع عن مشروعها القومي، مدفوعين بهاجس طائفي تكفيري يسعى لحذف الآخر من المعادلة الاجتماعية السياسية في الوطن العربي، فنشرت كل ما يدعو للانتقام من العرب الذين قوضوا أركان الدولة الساسانية، ولكن في ظل قناعات مذهبية تم نسج خيوطها على أيدي كهنة معابد النار في فارس.
بالمقابل تقف المملكة العربية السعودية “بشكل خاص” على النقيض من هذا الاختيار، فالسعودية هي وحدها المؤهلة “بحكم وجود الحرمين الشريفين” ضمن حدود الجغرافيا السياسية للمملكة، لامتلاك أمضى سلاح روحي غلاب، ولو كان هذان الحَرَمان اللذان تهفو إليهما قلوب المسلمين من دون استثناء في أي دولة غير السعودية، لسخرتهما في برامجها السياسية والدفاع عن عقيدة التوحيد، على عكس ما يحصل حاليا في السعودية، التي صارت تتحين الفرص للتماهي مع أهداف أعداء تاريخ الأمة، في مراكز صنع القرار الدولية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وروسيا والصين وحتى الهند، فمنذ وصول محمد بن سلمان إلى الحكم في المملكة كوليٍ للعهد وحاكما فعليا فيها، بدأ ينزع عن المملكة أخطر أسلحتها الروحية، وهي قدرتها على التأثير السياسي والمعنوي والروحي على نحوٍ من مليار ونصف مليار مسلم في العالم، من دون أن يطرح بن سلمان سببا وجيها واحدا لهذا التنصل عن الموروث العقائدي، الذي قادته العقيدة الدينية التي ظلت سائدة في العالم منذ بزوغ فجر الإسلام، ولم تتمكن لا الكوفة ولا الشام ولا بغداد ولا سامراء ولا اسطنبول أو قرطبة، من نزع شيء من السلطة الروحية الراسخة لمكانة المدينة المنورة أو مكة الكرمة، وللأسف الشديد وجد بن سلمان في عجز علماء الدين في السعودية عن قول كلمة الحق بوجه سلطان جائر، نتيجة القمع الذي تعرض له عدد غير قليل منهم، وجد فيه خير عون له للمضي في ما أسماه ببرنامج التحديث والوسطية الإسلامية الجديدة.
لقد سار بن سلمان على طريق أوكرانيا بنزع أقوى سلاح استراتيجي يمتلكه كل منهما، مع التأكيد على فارق التشبيه بين الأمرين، فالسلاح النووي يمكن ردعه بسلاح نووي لدى الطرف الآخر، في حين أن سلاح المعتقد الديني لا يمكن قهره بأي سلاح آخر، كما أكدت تجربة أربعة عشر قرناً، أو كما حصل في كثير من المجتمعات التي عاشت تحت إرهاب النظم اللادينية كما حصل في الاتحاد السوفيتي السابق، إذ كان الإسلام يستعيد عافيته في التأثير مهما طالت فترة سبات الأمة.
تورط محمد بن سلمان في الأشهر الأولى لوصوله إلى وجهة الحكم السعودي، في خطة ساذجة إلى أبعد الحدود، بقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في جريمة متعددة الأركان، فقد قتل داخل قنصلية بلاده في اسطنبول، وتم تقطيع الجثة وتضييع مكان دفنها، ونتيجة هذه الجريمة التي افتقدت إلى الاحترافية في هذه الحالة، فقد تم إضعاف موقف بن سلمان وبدأت المساومات الأمريكية وما زالت سياسياً وإعلامياً، لابتزازه وحشره في زاوية ضيقة، وإشعاره بأن مُلكه بات في مهب الريح، وتم استدراجه إلى تقديم تنازلات سياسية ودينية عقائدية، ليس له أن يُتاجر بها، وما كان أحد ليتوقع أن تحصل في السعودية أبداً، يختلف بعض المراقبين في تفسيرها، فمنهم من يذهب إلى أنها جزء من تكوينه النفسي البعيد عن أية قناعات دينية راسخة، ومنهم من يفسرها على أنها نتيجة تطويقه بضغوط لم يتمكن من التحرر منها.
وتم جلب محمد بن زايد ولي عهد الإمارات العربية في اللعبة الدولية لتغيير الخارطة الدينية ونسف التقاليد الاجتماعية في جزيرة العرب، ومن أجل توفير الأرضية لتسويق بن زايد فقد تم وصفه من قبل مسؤولين أمريكيين كبار بأنه قائد فذ ويمتلك مواصفات لا مثيل بها في المنطقة، فجعلوه يطفو على ماء ضحل من أوهام القيادة، وربما شعر بن سلمان بشيء من الحسرة على أن ولياً آخر لعهد إمارة صغيرة إذا ما قورنت مع مكانة السعودية سياسيا وجغرافيا واقتصاديا، ومن حيث تاريخ التأسيس ومن حيث الإطلالات البحرية الاستراتيجية، فإنها لا تُحسب إذا حضرت ولا تفتقد إذا غابت، ثم ينال هذا الاطراء من رئيس أكبر دولة في العالم وحَرَمه منه، فدخل في غمار سباق مع دولة الإمارات، ولكن في سباق من طراز جديد على بلاد نجد والحجاز، بل وعن جزيرة العرب كلها، فراح كل منهما يطرح برنامجا “انفتاحيا” على تيارات فنية بما فيها الحفلات الغنائية التي كانت تقام من قبل ما تسمى بـ”هيئة الترفيه”، والتي كانت تمتلك حصانة القرار ولا يمكن الاعتراض على قراراتها، ويبدو أنها أنشأت على أنقاض هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونقيضا لها، وحجّم محمد بن سلمان دورها عام 2016، ومعظم الفعاليات التي تُقيمها الهيئة الجديدة، التي تُشبه في صلاحياتها المطلقة صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الملغاة، ولكن في اتجاه مضاد تماما، لا تتناسب والمكانة الروحية لبلاد الحرمين ولا لجزيرة العرب، فهل كانت المدنية تتجسد في حرية المرأة بقيادة السيارة؟ وهل توقف سير الزمن على إقامة الحفلات الماجنة على مقربة من المدينة المنورة، أو المسيرات الفنية في مدن سعودية أخرى؟ وهل توقفت الحضارة على تناول الخمور في المملكة؟ ألا توجد بلدان إسلامية أخرى بل وأخرى غير إسلامية تمنع الخمور؟ وهل تشكل هذه المظاهر القشرية الدليل الوحيد الذي يمتلكه ابن سلمان لإثبات توجهاته العصرية؟ وهل القول بأن الأحاديث النبوية المؤكدة لا تزيد على 100 حديث فقط، هي مبلغ الاجتهاد الذي وصل إليه كي يقول بأن المفتي في البلاد لا يحق له إصدار الفتاوى ما لم يعد إلى ولي الأمر؟ ما هي مقومات قدرته على أن يكون مجتهدا ومن أي معهد تخرج كي يقفز هذه القفزة المجهولة النتائج؟ إن الحديث بهذا الشكل عن الحديث النبوي الشريف، يخفي نية الانتقال إلى الحديث عن صحة القران الكريم وضرورة حذف بعض آياته وخاصة الآيات التي تحض على الجهاد.
تراوحت تفسيرات مراقبي المشهد بين قائل إن محمد بن سلمان يعكس في هذه التصرفات، خزينه التربوي الذي تلقاه في نشأته الأولى ومن خلال البيئة التي عاشها في فترات الشباب، وقائل إن هذه الإجراءات هي إجراءات المضطر إليها، بعد أن وجد بلاده مطوقة بأعداء أقوى منها كثيرا، وأسرع منها في ترصين جبهاتها الداخلية وتعزيز بنيتها الدفاعية، وفي كلا الحالتين، ما كان لابن سلمان أن يجعل الحرمين الشريفين، مادة لرهان دنيوي تحف به المخاطر على المعتقد الديني، واستخفاف ما كان ينبغي أن يُخضع مكانة الحرمين لمثل هذا السلوك والتصرف الشائن.