وضع لبنان الرسمي نفسه مجدداً في “السلّة الأميركية”. سلّة جرى من خلالها تسليف مواقف متعددة للأميركيين، تجلّت مؤخراً بزيارة السفيرة الأميركية دوروثي شيا إلى قصر بعبدا، وبعدها اجتماع ثلاثي ضم رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بوحبيب، للبحث في تداعيات موقف لبنان الرافض للاجتياح الروسي لأوكرانيا، والداعي إلى وقف العمل العسكري فوراً. وبفعل التفاعل الكبير مع الموقف اللبناني والرفض الروسي له، عقد اللقاء اليوم والذي أكد فيه بوحبيب استمرار لبنان بانسجامه مع موقفه الذي أعلنه الخميس الماضي، لكنه أرفق بمطالبة لبنان الجمعية العامة للأمم المتحدة بالعمل على تعزيز فرص التفاوض للتوصل إلى حل سلمي للنزاع بين روسيا وأوكرانيا، و”لبنان يبقى منسجما مع موقفه المعلن يوم الخميس الماضي”.
الرد على رعد
لا ينفصل هذا الموقف عن سلسلة مواقف متعددة دفعها لبنان بشكل مسبق للأميركيين والغرب في سبيل إنجاز بعض الترتيبات. أولاً الإيجابية التي انطوى عليها موقف رئيس الجمهورية ميشال عون في ملف ترسيم الحدود، عندما أبلغ المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين استعداد لبنان للتعاطي بإيجابية مع مقترحاته. موقف عون استدعى ردود فعل سلبية من قبل حزب الله وحلفائه، الذين اعترضوا على موقف رئيس الجمهورية، ما استدعى عون إلى التغريد على تويتر، بأنه هو الذي يعقد الاتفاقيات الدولية بموجب الدستور. موقف عون جاء يحمل ردوداً ضمنية على مواقف رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد، الذي رفع خطوطاً حمراء جديدة في عملية الترسيم، وقال إن لبنان سيبقي غازه مدفوناً في البحر إلى أن يتمكن من منع الإسرائيليين من المساس بقطرة ماء واحدة. موقف فهم بأنه تأجيل لملف الترسيم وإدخاله إلى الدرج مجدداً، لا سيما بعد الاعتراضات الكبيرة التي انتقدت موقف عون بالتنازل عن الخطّ 29.
باسيل وهوكشتاين
اعتُبر موقف عون التراجعي أنه يأتي في سياق تقديم أوراق الاعتماد للأميركيين، في سبيل رفع العقوبات عن باسيل، لكن رئيس التيار الوطني الحرّ سارع إلى نفي هذا الأمر، واصفاً من يعتقد به بالغباء. إلا أن خصوم باسيل أصروا على أنه التقى أموس هوكشتاين، وأنه يريد تقديم تنازلات في سبيل الفوز برفع العقوبات. ولذلك يصف هؤلاء صدور الموقف اللبناني من الأزمة الروسية الأوكرانية المنحاز إلى الغرب على حساب الروس، بأنه نوع من توزيع الأدوار، فرئيس الجمهورية ووزير الخارجية ورئيس الحكومة قد تبنوا الموقف، فيما باسيل سارع إلى التنصل منه وابداء الاعتراض عليه. والهدف من لعبة توزيع الأدوار كانت في سبيل إرضاء الأميركيين والروس معاً.
أما من انتقد مواقف عون في ملف الترسيم وبشأن الموقف اللبناني من روسيا وأوكرانيا، فيعتبر أنه لا داعي لإثارة مسألة الصلاحيات من قبل عون، فلا أحد يناقشه بصلاحياته، ولكنه يذكّر الرئيس بأنه لا يمكن لأحد في لبنان أن يقدم التزاماً إلى أي طرف دولي في ظل حكومة يتمثل بها الجميع، لأن الحكومة لا يمكنها اتخاذ القرار الذي يريده. وبالتالي، هؤلاء يعترضون على أداء عون ليس من باب صلاحياته، بل من باب كيفية إدارته للملف وإمكانية تقديم تنازلات.
المرفأ والنفط
استكملت سلسلة المواقف، بفوز شركة cma cgm الفرنسية بتشغيل وإعادة إصلاح الأرصفة في مرفأ بيروت. بعدها بأيام قليلة أعلن وزير الأشغال تبلغه من القضاء إمكانية هدم الإهراءات. وهو موقف توصل إليه القاضي طارق البيطار بعد فوز الشركة الفرنسية بالمناقصة، بناء على تعاون واضح بين الفرنسيين ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. كل هذه التطورات هي التي دفعت الأوروبيين والأميركيين إلى مطالبة لبنان بإصدار موقف واضح مؤيد للغرب ضد روسيا، وسط مخاوف من استمرار الضغوط لسحب الشركات الروسية العاملة في مجال النفط من لبنان بفعل العقوبات، خصوصاً أن سؤالاً كبيراً يطرح حول مصير شركة توتال التي لديها شراكة مع شركة نوفاتيك وروسنفت.
عندما صدر البيان اللبناني بشأن أوكرانيا، تقول المصادر إنه كان بناء على تدخل وطلب مباشر من قبل السفيرة الأميركية دوروثي شيا، وحتى من قبل سفراء أوروبيين التقوا وزير الخارجية أيضاً، وتواصلوا مع رئيس الحكومة. وعندما اعترض وزراء الثنائي الشيعي على مضمون البيان تصدى لهم بوحبيب بأنه هو من يتحمل المسؤولية، فيما لم يلقوا أي جواب من عون ولا ميقاتي، الذي اعتبر أن الموقف من صلاحيات رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ووزير الخارجية.
ما قاله بوحبيب لجنبلاط
إثر صدور البيان، اتصل وليد جنبلاط بعبد الله بوحبيب سائلاً إياه عن خلفية هذا الموقف والسبب وراء تطرفه، وأن الموقف اللبناني يشير بالوقوف إلى جانب طرف ضد آخر. وهنا قال بوحبيب: “إن موقف لبنان متوازن ويرفض الدخول في أي حرب تشنها أي دولة على أخرى” وأكد بوحبيب أن الموقف منسق مع رئيسي الجمهورية والحكومة، وقد وافقا عليه وأضافا تعديلات عليه”. بعدها اتصل جنبلاط بميقاتي معترضاً. وهنا تقول المصادر: “استنتج جنبلاط أن الأمر حصل بناء على تدخلات خارجية، وأن هناك توافقاً ثلاثياً حول صدوره”. وكذلك أجرى جنبلاط اتصالاً برئيس الجمهورية، معتبراً أن هذا الموقف “لا يمثل لبنان، ويتعارض مع مبدأ النأي بالنفس”. اكتشف جنبلاط أن الموقف منسق بين الثلاثة. فأجرى اتصالاً برئيس مجلس النواب نبيه برّي، وعندها أبلغ برّي اعتراضه وأصدر البيان الذي اعلن فيه عن رفض الصيغة، وأنه لم يتبلغ بالأمر.
اتصال السفيرة بجنبلاط
بعدها تلقى جنبلاط اتصالاً من السفيرة الأميركية، لتبلغه اعتراضها على اعتراضه، إذ تبين أن عدداً من المسؤولين أجروا اتصالات بها لإبلاغها بأن جنبلاط هو الذي يعترض على مضمون البيان، وتقول المصادر: “كان التواصل بارداً بين جنبلاط وشيا، التي استغربت اعتراض جنبلاط وسألته عن ما قدّمه الروس للبنان، فقال جنبلاط إنه لا يريد مناقشة في هذا الأمر، ولا داعي لتحليل آفاق الصراع، ولكن ما نريد قوله أن لبنان لا يمكنه أن يحتمل مثل هذا الانقسام، وهذا ستكون تداعياته متناقضة مع ما تعلنه واشنطن، وليس المطلوب عدم إصدار بيان بل إصدار بيان متوازن، لا يتبنى أي موقف ويطلب وقف الحرب. وأضاف جنبلاط للسفيرة الأميركية: أنا أصدرت موقفاً واضحاً، ولا يمكن الاعتراض عليه، ولكن ما أستغربه هو هذا الكم من المزايدة، فيما لبنان لا يقدّم ولا يؤخر في هذه المعادلة”.
وبعدها أصدر جنبلاط مواقفه، فأكد على ضرورة الحوار بين الطرفين لوقف الحرب وعدم الغرق فيها، بعيداً عن تدخلات الغرب، كما دعا إلى التضامن مع الشعب الأوكراني، الذي يدفع ثمن صراعات المحاور الكبرى، مستذكراً ما قدمته أوكرانيا للطلاب اللبنانيين. كانت مواقف جنبلاط متوازنة، وهي دفعت إلى اتصالات روسية به أيضاً. فيما كان بارزاً الانزعاج الروسي من أداء رئيس الجمهورية وفريقه ووزير الخارجية، إذ قال المسؤولون الروس: “كيف يمكن التعاون مع هؤلاء الذين يزورون موسكو ويتواصلون طلباً للدعم سواء من خلال زيارة وزير الخارجية قبل فترة إلى موسكو، أو من خلال مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الروسية.. وفيما بعد يتخذون مواقف مناقضة لما يصرّحون به”. ووصف المسؤولون الروس هذا التصرف بأنه نوع من التملّق، ويقولون في السرّ ما يناقضونه بالعلن.
حزب الله والرئيس
وصلت هذه التفاصيل إلى حزب الله، والذي تواصل مع المسؤولين الروس عبر قناتين، قناة لبنانية مع السفارة، وقناة عبر المكتب الذي افتتحه الحزب في موسكو قبل فترة، وأبلغهم بأنه لا يوافق على مضمون الموقف اللبناني ولا على أداء اللبنانيين، وأنه يلتزم بموقف جنبلاط ونبيه برّي. وهذا ما أدى إلى الاختلاف في وجهات النظر بين الحزب ورئيس الجمهورية. وبعد تدخلات عديدة عُقد اجتماع الأربعاء بين عون وميقاتي وبوحبيب، وتم فيه التمسك بالموقف اللبناني، مع تعديل بسيط يتعلق بمطالبة الأمم المتحدة بالتدخل للتوصل إلى حل سلمي.
اتصال أميركي
كل هذه الوقائع انعكست أيضاً في اتصال تلقاه عون من مساعدة وزير الخارجية الاميركي للشؤون السياسية فكتوريا نولاند، تم خلاله عرض العلاقات الثنائية وسبل تعزيزها في المجالات كافة، لا سيما في ما خص التعاون بين البلدين. وتناول البحث أيضاً المراحل التي قطعها التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ونتائج زيارة وفد الخزانة الاميركية الى بيروت، إضافة إلى تطورات ملف ترسيم الحدود الجنوبية البحرية، وعملية استجرار النفط والطاقة الكهربائية من مصر والأردن عبر سوريا، والتحضيرات الجارية للانتخابات النيابية اللبنانية، فضلاً عن التطورات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا.
المصدر: المدن