الجندرة مقابل المجدرة

د. أحمد سامر العُش

 إنّ أحدَ أهمِّ أدواتِ التحكُّمِ بالبشر في عصرنا الحديث أدلجةُ فكرةِ تساوي المرأةِ والرجل، ومنها تحديدُ قواعدِ تفريغِ الشهوةِ الجنسيةِ، وبناءُ النسل بقواعدَ تخالفُ الطبيعةَ البشرية والتشريعَ الإلهيَّ. وبناءً عليه إدخالُ البشريةِ جمعاءَ في الدروب الشيطانيةِ المحرمةِ لتفريغ الشهوةِ الجنسية خارجَ الأطرِ الشرعية، بل حتى قوننةُ الدروبِ الشيطانية، ووضع عقوبات رادعة لمن يخالفُها. وهذه المسألةُ لا تصيبُ فقط المسلمين بل تمتدُ لتصيبَ الإنسانَ الغربيَّ الذي لا يجدُ بدًّا من سلوك الدروبِ المحرمةِ ولكن القانونية (فمعظمُ القوانين الحديثة ألغت عقوبة الزنا) للاستجابة لطبيعته وغريزته البشرية، أمّا في دولنا التي تتجهُ لكارثةٍ ديمغرافية محتمة؛ وقد اجتاحتها الحروبُ والكوارثُ مما أخلَّ بالتركيبة البشرية لصالح النساء، فالأعباءُ الماديةُ وتكريسُ المفاهيمِ التربوية الخاطئة وجهلُ النخبِ المجتمعيةِ والدينية سيؤدي إلى كوارثَ قد تفوقُ تلك التي في الغرب!

فتسهيلُ التعددِ وسنُّ قوانينَ جديدةٍ للتبني سيكون حلًا لابدّ منه في وقت من الأوقات، ويجب أن يصبحَ تكليفًا لا تشريفًا. ولابدّ لنا في وقتٍ قريب من فهم حكمةِ التعدُّد حتى يخافَ منه الرجالُ خشيةَ ظلمِ النساء، وتدعوا إليه النساءُ خشيةَ ظلمِ الرجال، فعلى الرغم من أننا بشرٌ فُطرنا على الأنانية، وغالبًا -إلا من رحم ربي- نقدَّمُ مصالحَنا الشخصيةَ على شرع الله، وبالتالي يسعى الرجلُ عندنا لإسعاد نفسِه بالتعدد، وتمنعُه الـمرأةُ منه لئلّا يشقيَها، ولكن وبكل تأكيد لو فقهنا الشريعةَ وعلمنا خطورة الواقعِ لعكسنا الأدوار لا شهوةً بل رغبةً في النجاة وتحقيقًا لمهمة الاستخلافِ التي حَمَلَهَا الْإِنسَانُ الَظَلُوم الجَهُول!

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) الأحزاب -72

مصطلحُ الجندرةِ (مشتق من كلمة إنجليزية “Gender” التي تنحدر من أصل لاتيني، وتعني في الإطار اللغوي القاموسي الجنسَ من حيثُ الذكورةُ والأنوثةُ، ويُقصد بها اصطلاحًا تمكينُ المرأة للمساواة مع الرجل) الذي خرق مسامعنا منذ دخول منظماتِ العملِ الإنساني الأممية الى مناطق الربيع العربي، وبدأنا نشهدُ صداه في كل الأنشطةِ الاجتماعية والسياسية التي تتلقى الدعم الغربي، قابله على الجانب الأخرِ أكلةٌ شعبيةٌ تُسمى المجدرة. وهي أكلةٌ بسيطة غيرُ مكلفة يختلط فيها البرغل مع العدس وزيت الزيتون، أكلةٌ شعبية رائجة كانت تُؤكَلُ فيما يسمى حمام السوق لدى سيدات المجتمع الدمشقي. وعلى الرغم أن السجعَ اللفظي هو سببُ اختيارِ هذه الأكلةِ دون غيرها، ولكنها تمثل المشهدَ السائدَ لدى مجتمعاتِنا المغلقةِ على جهلها منذ زمن طويل!

توازنُ القوى وعلاقةُ قوامة الرجل على المرأة في مجتمعاتنا سادها لوقت طويل علاقةٌ قهريةٌ مبنية على الظلم والاستغلال والجهل بعمق فلسفة الدين تجاهَ المرأةِ ودورها! وردةُ الفعل المتطرفة على هذه العلاقة القهرية كانت مدخلًا للتطرف بالاتجاه الآخر الذي يريد أن يُسوِّقَ لأسطورة “ليليث –    Lilith” بحسب تفسيراتِ الحركةِ النسوية اليهودية التي قادتِ الموجةَ الثانيةَ من الحركة النسوية الغربية التي نشطت منذ سبعينات القرن الماضي وتصدرها أسماء من أمثال ليلي ريفلين Lilly Rivlin، وإينيد ديم Enid Dame، وهني وينكارت Wenkart Henny أصحاب كتاب “أي ليليث؟ Which Lilith?” الذي صدر عام 1998 وفكرته الأساسية تتلخص أن: “ليليث واحدةٌ من النماذج الأصليةِ العظيمة للإناث، إنها قدوةٌ تمَّ دفنُها ورفضُها واحتقارُها، وسيئت قراءتُها من قبل النساء والرجال على حد سواء”.

شهد عقدُ السبعينيات من القرن الماضي ظهور حركتين غريبتين، لم يكن من المتوقع حينها أن تصلا إلى ما وصلتا إليه من الانتشار والنجاح، ولا أن تتمكنا من فرض أفكارِهما على المؤسسات السياسية والتشريعية والإعلامية والتعليمية في العديد من دول العالم، بل وأن تصبح في سدة اهتماماتِ المنظمات الدولية؛ وهاتان الحركتان هما الموجةُ الثانية من الحركة النسوية، والمثلية الجنسية، وكلتا الحركتين ظهرتا في الولايات المتحدة الأميركية على أيدي قياداتِ الحركةِ النسويةِ اليهودية، وتجمعات اليهود “المنحرفين جنسياً” حسب وصف ذلك الوقت.

في القرن الثامن أو التاسع الميلادي ظهر ما يعرف بـ”أبجدية بن سيرا”، وهي عبارةٌ عن كتابات تفسيرية للنصوص التوراتية، والتي تعرف في اللغة العبرية بـ”مدراشيم”. وتزعم الأسطورة أن ليليث هي الزوجةُ الأولى لسيدنا آدم -عليه السلام- التي خلقها الله -عزَّ وجل- هي وآدم من التراب نفسه، فكانت تشعرُ أنها متساويةٌ مع سيدنا آدم في كل شيء، وفي أحد الأيام رفضت ليليث أن تُخضعَ نفسَها لآدم في علاقتهما الحميمةِ، فتركته وغادرت الجنة ولجأت إلى الشيطان، وعندما اشتكى آدمُ لربه مما فعلته ليليث، أرسل الله لها ثلاث ملائكة لتعيدها، ولكنها أخبرتهم أنها لا تستطيعُ العودةَ، لأنها تزوجت من الشيطان، وصارت تعترضُ طريقَ الرجال من بني آدم وتغويهم لتنجبَ منهم شياطين. وعندما طالت الوحدةُ على سيدنا آدم، سأل ربَّه أن يخلق له زوجةً بديلة، فخلق له من ضلعه حواء، المطيعة لسيدنا آدم.

استمرت أسطورةُ ليليث في الكتابات التفسيرية لحاخامات العصور التالية بوصفها رمزًا للشر الكوني والشهوة والتسلط والخطيئة والتمرد والجريمة والفجور والعصيان.

وهكذا قدمت لنا الأسطورةُ نموذجين للمرأة: الأولى هي ليليثُ العاصيةُ المتمردة التي ترى نفسها ندّا بند وسواء بسواء مع سيدنا آدمَ، والثانية هي أمُّنا حواءُ المطيعة المسالمة التي تتكامل مع سيدنا آدم وتهتم بشؤونه، وتربي له الأطفال، وتعينه على أعباء الحياة.

عمدتِ الحركةُ النسوية اليهودية -في بدايات السبعينيات من القرن الماضي- إلى إحياء أسطورة ليليث والاحتفاء بها وتقديمِها بوصفها نموذجًا نسويًا متكامًلا، والعمل على تسويقها وسط النساء والفتيات، بما يتوفرُ لها من امتدادات تاريخية وصِلات دينية، وأبعادٍ إنسانية ملهمة، فهم ينظرون إلى ليليث، ليس باعتبارها ليليث زوجة آدمَ الأولى القوية فحسب، بل على أنها أولُ امرأة مستقلة على الإطلاق أيضًا.

سيطرتِ النساءُ البروتستانتُ المتعلماتُ على الموجة النسويةِ الأولى في النصف الأخير من القرن التاسعَ عشرَ التي تركزت على حق الاقتراع؛ لأنها الهدفُ الأوسعُ للمساواة، أما الموجةُ الثانية التي نشطت في بدايات السبعينيات من القرن الماضي كانت يهوديةً بشكل ملحوظ بل وحتى فج. واعتمدتِ الموجةُ النسوية الثانية التي قادتها المرأةُ اليهودية على أسطورة ليليث وجعلتها على أنها أسطورتُهن الخاصة، لقد حولوها إلى رمز أنثوي للاستقلالية والاختيار الجنسي والتحكم في مصير المرء، فقد وجدت الحركةُ النسوية المعاصرة في صورة ليليث مصدرَ إلهامٍ، بصفتها امرأةً لا يمكن السيطرةُ عليها، وغيرت بشكل حاسم صورتها من شيطان إلى امرأة قوية”.

إن الانهيارَ المجتمعي للأسر العربية الذي دخلنا به مع عصر الشتات في أوروبا واختراق المفاهيمِ الغربية لعقولنا مع انتشارِ وسائلِ التواصل الاجتماعي البعيد عن الضوابط ,أضف عليه تكلسَ المؤسساتِ الدينية ورجالاتها عن مواكبة التغيراتِ الاجتماعية وإيجاد حلول للمشاكل المرافقة للانفتاح والعولمة ,زد عليه الانتقالَ من مجتمعات أهليةٍ يحكمُها مزيجٌ غريبٌ من الأعراف والتقاليد والدين إلى مجتمعات مدنية أوروبية يحكمها القانون ويقودها المشرعون , جعل الجندرةَ الحديثة وخلطةِ المجدرة القديمة (التي يَصعُبُ استساغتُها دون إضافاتٍ من أمثال اللبن و المخلل والبصل المقلي) مسائلَ ملحةً للتفكر وإخراج حلول غير تقليدية يقودها المؤثرون القدماء في المجتمعات الأهلية (رجال دين , وجهاء ,أعيان , عائلات ذات مرجعيات..) . أنا وإن كنتُ غيرَ متفائل نتيجة تحجر عقول أغلب من ذكرت، ولكنها رسالةٌ للاستيقاظ قبل أن يأتيَ تسونامي اجتماعي فيلعننا الجيل القادم الذي نضيعه بأيدينا عن سابق إصرار وترصد!

الخلاصة:

 يجب أن ننتقدَ مجتمعاتِنا ونظامَ الحياة الذي حكمنا ومازال يحكمُنا، والكوارثَ القديمة التي جعلتنا نتأقلمُ مع الأخطاء حتى أصبحت مجتمعاتنا مسخًا ضعيفً تحكمها الخرافة والجهل، وتوجيه الانتقادات للجميع ولكافة زوايا حياتنا وليس لطرف معين وتفادي توجيهها لآخرين جرتِ العادةُ أن نلبسَهم ثياب القدسية! لقد دفعت شعوبُنا أثمان باهظة منذ قرون طويلة مضت وتلك الأثمانُ لم تكن فقط نتيجةَ قائدٍ واحد أو دولة معينة، ولكن كانت ومازالت ضمن منظومةِ تفكيرٍ سادت وتمكنت من مجتمعاتنا كما يتمكن الجسم الطفيلي من المضيف. يمكن وصفُ هذا النظامِ أو المنظومة بخليط غير متجانس (كالمجدرة )من الدين المرتبطِ فقط بفترات تاريخيةٍ معينةٍ مع الخرافة والقصص التاريخية، وفوقه نظامُ ملكٍ خبيثٍ يضع مصلحةَ فردٍ أو فئة صغيرة قبل مصلحة الأمة والمجتمع كافة , فكنا بذلك الخاسرَ الأكبرَ في معركة العقلِ والإيمان تحت راياتٍ مختلفةٍ رفرفت عاليًا فوق حياتنا , ربما خلالها عشنا لحظاتِ انتصارٍ زائفةً بوجود دولٍ قويةٍ كالعباسية والعثمانية بالنسبة لرأي العديدين، ولكن باسم هذه الانتصاراتِ العابرةِ لا يمكن أن نبررَ هذا الخليطَ أو نسوقه على أنه دينُ اللهِ أو الحل للبشرية أو حتى مركز القيم التي ارتضاها الخالقُ لخلقه. بينما نستمرُّ في محاربة طواحين الهواء مثل الدون كيشوت متخيلين (في أضغاث أحلامنا فقط) أنها ماردٌ يريد أن يأكلنا، نستمر في دفع أثمان عاليةٍ ونقدم أطفالنا واجيالنا القادمة قربانًا على مذبح الجهل والابتعاد عن جوهر الدين والأخلاق. نستمر في السير الأعمى وراء مفاهيم لا تمت للأخلاق ولعظمة تعليمات الخالق بصلة من أمثال الجندرة، والحروبِ الناعمةِ والحروب الهجينة والتي أصبحت نظامًا عالميًّا يتجاوزُ الدولَ، وحتى أصحاب القرارات والرؤساء العابرين قصيري الآجال، هذا النظامُ الذي سيقود بكل تأكيد لموت الكوكبِ وانقراضنا جميعًا.

ربما هذه دعوةٌ لمحاربة الجندرة والنظام الذي وراءها، وكذلك المجدرة والتكلس الفكري الذي وراءها، بالتأكيد هذه مهمةٌ شاقةٌ متعبة بل وربما تكاد تكون مستحيلة، وخلالها ستتلقى بكل تأكيد العديد من الصفعات. مع كلِّ الصفعات والنقد والإهانة والنعت باللاواقعية والجنون، التي سوف تتلقاها وأنت تسير في هذا الطريق الشاق مع قليل بسيط من الإطراء العابر بشجاعتك، عليك أن تتذكر أنك إذا كنت تؤمن بما تقوله وتستطيع التمسكَ به ولو بصعوبة بالغةٍ فيمكنك أن تصنع الفارقَ وربما يكون ذلك مفتاحَ نجاحِك عند لقاء المولى عز وجل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى