لابد، في البداية، من الإشارة إلى أن إنجاز مثل هذا الموقع يعدُّ ضرورة موضوعية، وهو انتصار لفكرة القومية العربية، إذ هو يعني، فيما يعنيه، أن القضية العربية، بل جوهر فكرتها الرئيسة لم تمت، كما يروج لها دعاة موت الإيديولوجيا بدمج العروبة وقضاياها الحياتية فيها.. فالعروبة في حقيقة معناها، ليست إيديولوجيا. إنما هي فكرة سياسية. فهي ليست مثل فكرة الدين مثلاً، أو فكرة الوعي الطبقي/الاجتماعي التي راجت مع نمو الرأسمالية، التي قسمت المجتمع الواحد إلى طبقتين متناحرتين، وبخاصة في مراحلها الأولى، إذ شابها نوع من التوحش، والتغول لا على الطبقة العاملة فحسب، بل على العالم أجمع طلباً لمناطق النفوذ بغية الحصول على المواد الخام وعلى الأسواق وأشعلت حربين عالميتين زهقت معها أرواح سبعة وتسعين مليون إنسان.. وجاءت فكرة الوعي الطبقي رداً عليها لكنَّ منفذيها التفتوا إلى خارج بلادهم أكثر من داخلها، فكانت وجهاً آخر لقمع حرية الإنسان، ما أدى إلى سقوطها! أما فكرة الدين، وأعني الدين السياسي تحديداً الذي أتى ممثلوه في العصر الحديث بألوان من القهر الإنساني إعلاء لكلمة الله.. وعدوا أنفسهم أوصياء على عباده في أنحاء الأرض، وعلى فهم كلمته وتجسيدها، كما هو الحال مع حزب الله، أو جماعة داعش والنصرة، وحتى الإخوان المسلمين.. أما فكرة القومية العربية فهي، كما أسلفت، سياسية انبثقت مع نهايات القرن التاسع عشر، وأخذت أبعادها مع الكثير من المفكرين الذين دعوا إليها وشرحوا جوهرها مثل: ساطع الحصري، وقسطنطين زريق، وزكي الأرسوزي، ومحمد عزة دروزة، وعبد الرحمن الكواكبي، ومع السياسيين كـ: الشريف حسين بن علي وسلطان باشا الأطرش (علق علم الثورة العربية على شرفة منزله قبل دخول الملك فيصل دمشق) وميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وجمال عبد الناصر.. إضافة إلى النهضويين الذين رسموا خطوط تحققها في الواقع مثل: سعدون حمادي، وفهمي هويدي، وإسماعيل صبري عبد الله، وجلال أمين وآخرين. وقد بيَّن معظم هؤلاء أنها ليست فكرة عصبية، أو هكذا يجب أن تكون، فهي ضرورة موضوعية للنهوض بالأوطان، ولعلَّ هؤلاء جميعاً أرادوا، وكل من زاوية رؤيته، وضع تصوراً لخطط تلك النهضة وسبل قيامها.. ولكن لماذا فشل هؤلاء كلهم؟! إذا دعونا نسمي الأشياء بمسمياتها فنقول:
إن ثقل التخلف الشامل في المجتمعات العربية، وتنوع أشكاله واختلاف مستويات بناه الاقتصادية والاجتماعية التي تعود إلى بنية النظم الإقطاعية.. ترافق ذلك كله مع نزعات السيطرة والهيمنة لدى النخب السياسية، وتضخم ذواتها على مجتمعاتها، والتقائها، في أحيان كثيرة، مع رغبات، أو مصالح الدول الكبرى.. كل ذلك جعل رؤيتها قاصرة عن الأخذ بمعايير الدولة المعاصرة التي تستند إلى الحرية والقانون وفق مبادئ الديمقراطية الحديثة التي تأخذ بيد فئات الشعب كافة نحو وعي مصالحها، والعمل على تحقيقها، وما ساعد على ذلك أن تلك الدول العربية الناشئة كانت قد انبثقت عن تفتت آخر الإمبراطوريات في الحرب العالمية الأولى، وكان بعضها، على هذا النحو أو ذاك، واقعاً تحت وصاية الدول المنتصرة في الحربين العالميتين ومصالحها، ومن هذه الزاوية أيضاً يمكن رؤية التجارب الوحدوية أو الاتحادية الفاشلة، وهشاشة مواقف الجامعة العربية تجاه قضايا أعضائها والمشكلات الإقليمية أو العالمية الكبرى. ولعلَّ تآمر الحكام العرب بعضهم على بعض أشد قسوة وتأثيراً في معظم ما يجري. كذلك لم تستطع أية دولة عربية، وعلى مدى قرن من الزمن، أن تكون أنموذجاً يحتذى سواء فيما يتعلق بالتنمية أم في تطبيق الديمقراطية وحرية الشعب، لتكون بذلك مجال استقطاب لدول عربية أخرى.. وأعتقد أن كل ما ذكر كان في عمق أسباب هبات “الربيع العربي” ولعلَّ تجذُّر تلك الأسباب كان وراء كل المآسي التي رافقته.. ولابد لذلك الربيع من عودة أو نهضة ثانية.. فثمة دروس كثيرة مستفادة منه، سوف تكون مرتكزاً قوياً لاستعادته وإنجاحه.. ومن هنا بالذات يترتب على موقع “ملتقى العروبيين” أن يلعب دوراً تنويرياً ونهضوياً، وليس ضرورياً أن تدعو كتابات الملتقى إلى الوحدة العربية، كما حدث في التجارب السابقة التي غلبت عليها العواطف المتأججة رغم صدقها! بل يكفي الفهم المشترك للقضايا المطروحة واتخاذ مواقف متقاربة منها، ولابد من العمل على تشريح الواقع، وبيان مدى صحة البنى الفكرية بمقارنتها بالواقع المحلي والإقليمي والدولي، ومدى انسجامها مع فكرة النهوض فعلاً؟! وهل تشكل حاملاً ينهض بمهام الحرية والديمقراطية أم هي معرقلاً لها.. كما حدث في مسيرة الربيع العربي.. وجميل من الموقع أن يسلِّط الضوء على مختلف الأقاليم العربية وما تعانيه سواء المحتلة منها أم المستقلة المحكومة بالاستبداد على اختلاف أشكاله وألوانه.. ولعل التركيز على واحدة من المشكلات أو القضايا التي تعانيها المنطقة في إطار رؤية مستقبلية أمر مهم.. كما أن افتتاح ملفات وإن كل بضعة أشهر تتناول قضايا ساخنة أو إشكالية في المنطقة والعالم، ووفق رؤية مستنيرة أمر ضروري..
وأخيراً أتوجه بالتحية والتقدير إلى إدارة الموقع في ذكراه الثانية لما تبذله من جهد راجياً لهم، ولنهج الموقع الاستمرار والنمو والنجاح المطرد.
مقال خاص بموقع ملتقى العروبيين