اضطرت تركيا إلى اعتماد مقاربة جديدة في الخارج، مما يوفر فرصة قيّمةً، يجب على الولايات المتحدة وأوروبا انتهازها بسرعة.
مرّت السياسة الخارجية التركية في عهد الرئيس رجب طيّب أردوغان بعددٍ من التحوّلات الحادة منذ عام 2003، إذ عمد أردوغان إلى تقييم الديناميات العالم13ية والمحلية وتغيير اتجاه البلاد بصورة متأرجحة بين أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط. ويبدو أن تركيا تشرف الآن على منعطفٍ آخر في السياسة الخارجية، مستندةً إلى محور أردوغان المحبَط في الشرق الأوسط منذ عام 2011 – أي بالتحديد فشله في استغلال الثورات العربية – والاقتصاد التركي المتباطئ، الذي يزعزع قاعدة أردوغان ويرغمه على إدارة وجه تركيا نحو أوروبا والغرب، اللذين تتكامل معهما اقتصادياً. أما هدفه فهو: إعادة إرساء العلاقات مع بلدان الخليج الغنية وإسرائيل، وإنشاء سرد من العلاقات الطيبة مع الغرب من أجل جذب الاستثمار، والعودة إلى النمو الاقتصادي، وإعادة بناء قاعدته للفوز في انتخابات عام 2023.
لقد وصل أردوغان إلى السلطة في تركيا قبل 19 عاماً، فكان رئيساً للوزراء حتى عام 2014 ورئيساً منذ ذلك الحين. ويمكن تقسيم سياسته الخارجية حتى الآن إلى مرحلة ابتدائية اتسمت بالتعددية الطموحة على صعيد الأطراف مع ميل قوي إلى موالاة “الاتحاد الأوروبي”، وحقبة لاحقة متجذرة في القوة الصلبة والمساومة الحازمة، ودعم جماعة «الإخوان المسلمين»، والميل إلى الشرق الأوسط. وشكّل كلا النهجين استجابتين منطقيتين إزاء تبدّل الديناميات الدولية والمحلية والإقليمية. وتغيّرت هذه الديناميات مجدداً في عام 2022، مشيرةً إلى حدوث تطوّر ثالث.
لقد نشأت المثالية الأولية للسياسة الخارجية لأردوغان من الاعتقاد بأن نهج أنقرة في حقبة التسعينات تجاه جوارها المباشر – أي القوقاز والشرق الأوسط و «حزب العمال الكردستاني» في العراق – قد افتقر إلى الخيال، وأن الامتداد لتجاوز حدود حلف الـ”ناتو” كان ضعيفاً. فعلى الرغم من قوة القوات العسكرية، والإمكانات الاقتصادية الهائلة، والروابط الاجتماعية الثقافية مع المناطق المجاورة، إلّا أن تركيا بالكاد كانت تؤثّر في الشؤون الإقليمية. وكانت شبكاتها الدبلوماسية والاستخبارية، وشراكاتها العسكرية، واستثماراتها في الخارج فاترة. وتطلّبَ التغلب على هذا الضعف في الأداء اعتماد نهج تفاؤلي ومتعدد الاتجاهات والأبعاد، يلخّصه شعارا “انعدام المشاكل مع الجوار”، و”العمق الاستراتيجي”.
وسمح هذا النهج بالامتداد إلى أكراد العراق وحتى “حزب العمال الكردستاني”؛ ومحاولة التوسط بين العرب وإسرائيل؛ والمصالحة مع سوريا الأسد؛ وإجراء محادثات نووية مع إيران بالنيابة عن الرئيس أوباما؛ وإنشاء روابط دبلوماسية مع أرمينيا؛ وتحسين العلاقات مع روسيا؛ وتوحيد قبرص؛ وتنفيذ إصلاحات لتسهيل العضوية في “الاتحاد الأوروبي”؛ والإقدام على مشاريع تجارية جديدة في عشرات البلدان؛ والتطورات الهامة والانخراط الدبلوماسي في أفريقيا.
وانتهت حقبة التفاؤل بسلسلة من خيبات الأمل. فقد استعاد الأسد جزءاً كبيراً من بلاده من الثوّار الموالين لتركيا، مبدداً آمال أردوغان في قيام حكومة صديقة في دمشق. ودخلت ليبيا في حرب أهلية بعد الإطاحة بالقذافي، ولم تعُد إسرائيل مهتمة بإجراء محادثات مع الفلسطينيين وانزعجت بشدة من إخلاص أردوغان لحركة «حماس»، وازداد النفوذ الإيراني في العراق وسوريا، وقبِلَ “الاتحاد الأوروبي” انضمام قبرص وجمَّد دخول تركيا، بينما فرضت واشنطن حظراً على توريد الأسلحة إلى أنقرة بحكم الأمر الواقع.
وكان الوضع الاقتصادي قد تحسّن في تركيا، لكن أردوغان فقدَ في الوقت نفسه ثقته بآليات الأمن الجماعي. فتفاقمت خيبات الأمل الخارجية بسبب غضب الرئيس على «حزب العمال الكردستاني» إثر استئناف تمرده في عام 2015، واتحاد شركائه الليبراليين السابقين ضده في احتجاجات منتزه غيزي في عام 2013، ومحاولة حركة “كولن” إضعاف حكومته والإطاحة بها أخيراً خلال الانقلاب الفاشل في عام 2016. وبعد ذلك، أدت التهديدات المتزايدة على حدود تركيا إلى تغيير السياسة الخارجية التركية لتنشط بزخم كسياسة واقعية – وشملت هذه التهديدات هجمات «حزب العمال الكردستاني» في تركيا من العراق وسوريا، وتحالفاً ناشئاً بين اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر في شرق المتوسط، وخطوات روسية وأمريكية أحادية الجانب عبر الشرق الأوسط (لا سيما في سوريا، حيث رعت كلتا القوتين الوكالة السورية لـ «حزب العمال الكردستاني»، أو «وحدات حماية الشعب»).
ووجّه أردوغان تطوير نظام معقّد لفرض القوة يشمل تعزيز الشبكة الدبلوماسية، وزيادة الصادرات والاتفاقيات الاقتصادية، والاكتفاء الذاتي الصناعي الدفاعي، واتفاقيات القواعد الدفاعية والوصول في أفريقيا وأوروبا وآسيا، فضلاً عن اعتماد عقيدة عسكرية وبحرية أقل تقييداً – حيث تمنع هذه الأخيرة اليونان من الوصول إلى جزء كبير من شرق البحر المتوسط. وقد تبنى في الوقت نفسه المزيد من الأساليب الاستبدادية في الداخل، مما حدّ من المعارضة المحتملة لخطوات قوته الصلبة. وقد مكّن ذلك أردوغان من منع [قيام] “ممر إرهابي” يسيطر عليه «حزب العمال الكردستاني» على طول الحدود الجنوبية لتركيا (بين عامَي 2016 و2019)، من خلال دفع «وحدات حماية الشعب» بعيداً عن الحدود التركية واستخدام حرب الطائرات بدون طيار ضد قواعد «حزب العمال الكردستاني» ومعاقله داخل العراق. كما مكّنه ذلك من شن حملات عسكرية متتالية وناجحة في سوريا وليبيا وناغورنو كاراباخ، تمنح ما يرقى إلى حق النقض الجيوسياسي في الأراضي التركية وبالقرب منها – غالباً على حساب الحلفاء والوكلاء الروس.
ومع ذلك، تواجه تركيا حالياً مشهداً متغيراً في عام 2022، وبالتالي يبدو أنها تُحوّل اتجاهها للمرة الثالثة – بعيداً عن السياسة الواقعية الأحادية الجانب، وتعود إلى اتباع نهجٍ أكثر دقة ومتعدد الأطراف. وهناك ستة عوامل رئيسية تقود عملية التكيف الحالية وهي: تقليص النفقات الأمريكية؛ والحاجة إلى تعزيز الصادرات والاستثمار الأجنبي من أجل إنعاش النمو الاقتصادي؛ والحاجة إلى التعزيز الدبلوماسي للمكاسب المحققة في الانتصارات العسكرية الأخيرة في ليبيا وسوريا وجنوب القوقاز؛ والحاجة إلى عكس اتجاه التحالفات المناهضة لتركيا في المنطقة؛ وازدياد المنافسة الإقليمية لأنقرة مع روسيا وإيران؛ والانتخابات الرئاسية الوشيكة في عام 2023.
وأدى التطبيق الناجح للقوة الصلبة التركية إلى ظهور مجموعة جديدة من المشاكل هي: زيادة التعاون الأمني بين اليونان والعرب وإسرائيل حول تركيا، واتخاذ الولايات المتحدة خطوات تحوطية وتعاونها المستمر مع «وحدات حماية الشعب»، وممارسة روسيا للقوة الصلبة الخاصة بها في سوريا وأوكرانيا؛ وإعادة إثبات الوجود الإيراني في بلدان المشرق؛ وحالة الفوضى في أفغانستان. والأهم من ذلك هو أن الدَيْن الخارجي الهائل لتركيا وليرتها الضعيفة استدعيا اللجوء إلى المزيد من التجارة والاستثمار والمجاملة مع أوروبا والولايات المتحدة. وتُشكّل أوروبا جزءاً مهماً بشكل خاص من هذا التوافق الجديد: فتبقى تركيا متكاملة اقتصادياً بشكلٍ تام مع “الاتحاد الأوروبي”- بفضل “الاتحاد الجمركي” القائم منذ عام 1996، فضلاً عن العلاقات الاقتصادية والاستثمارية والتجارية الثنائية التي تعود إلى قرونٍ من الزمن – رغم الجهود التي بذلها أردوغان في السنوات الأخيرة لإضفاء طابع إسلامي أكبر على هوية تركيا في الداخل، وطابع شرق أوسطي أكبر على هويتها على الصعيد الدولي. وتُنبئ جميع هذه العوامل بالعودة إلى سياسة خارجية متعددة المحاور ومتسمة بقدرٍ أقل من المشاكسة.
ويتضح هذا النهج الجديد بالفعل في جهود تركيا الرامية إلى تسهيل المحادثات بين أوكرانيا وروسيا، وفي تواصلها المستمر أيضاً مع كل من حركة “طالبان” وخصومها الأفغان. وما يعزز هذه النزعة هو التواصل الرفيع المستوى مع أرمينيا من أجل إقامة علاقات دبلوماسية، والخطوات الهادفة إلى إعادة ضبط العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. ونسّقت تركيا عن كثب مع واشنطن بشأن أفغانستان وأوكرانيا، رغم إشارة إدارة بايدن في نيسان/أبريل 2021 إلى عمليات قتل الأرمن في عام 1915 على أنها إبادة جماعية. كما سعت إلى شراء مقاتلات جديدة من طراز “أف-16” لتنشيط العلاقات الدفاعية.
ولا تهدف هذه الخطوات ببساطة إلى كسب ود الولايات المتحدة أو حلفائها. فهي مصمَّمة من أجل تخفيف التوترات بشكلٍ عملي في وقتٍ تتزايد فيه الحاجة إلى الدعم المالي الغربي والتضامن ضد القوى الانتقامية، لا سيما روسيا. ورغم الافتقار إلى الدعم الغربي للجهود التركية المناهضة لـ «حزب العمال الكردستاني»، تتداخل المصالح إلى حدٍ كبير فيما يتعلق بأوكرانيا وأفغانستان، وكذلك بشأن اللاجئين السوريين والعراق وأفريقيا، حيث يوفر الوجود التركي ثقلاً موازناً مفيداً ضد النفوذ الصيني. وستواصل تركيا استراتيجيات التحوط مع القوى غير الغربية – لا سيما الدول الأخرى الناطقة باللغة التركية، ولكن أيضاً مع الدول الشريكة المتوسطة المساحة في أفريقيا، وكذلك أوراسيا وآسيا الجنوبية والجنوبية الشرقية. ومع ذلك، تُقدّم المصالح المشتركة فرصاً ملحوظة للتقارب الأمريكي التركي، بعد أن كانت هذه الفرص نادرة للغاية خلال العقد الماضي.
وبالنسبة لإدارة بايدن، فمن دون أن تتمنى التخلص من العيوب التي تشوب علاقات تركيا مع الولايات المتحدة وأوروبا، يجب على هذه الإدارة أن تردّ بالمثل على صعيد المصلحة. وستكون الخطوة الأكثر واقعية في موافقة الكونغرس الأمريكي على عملية شراء طائرات “أف-16” هذا العام، وليس التأجيل لمعرفة ما إذا كان أردوغان سيخسر انتخابات عام 2023. على الولايات المتحدة أن تنظر أيضاً في تنشيط المشاورات مع تركيا حول مجالات الاهتمام المتداخلة، من خلال “الآلية المشتركة” التي لا تزال غير متبلورة والتي أشار إليها الرئيس بايدن في تشرين الأول/أكتوبر.
ويمكن أن توفر النتائج مزيداً من الاستقرار في تلك المناطق رغم تقليص النفقات الأمريكية. وتُقدّم الحقبة الجديدة من السياسة الخارجية التركية نافذة ضيقة من الفرص؛ وسيؤدي الحفاظ على مسافة محدودة مع أنقرة إما إلى دفعها مجدداً نحو النزعة الأحادية الجانب، أو إلى تعددية الأطراف لصالح القوى العظمى الأخرى. وإذا تمتعت تركيا بعلاقات أفضل مع الشركاء الغربيين، فقد يتّسع نطاق حريتها في معالجة بعض الأمور الثنائية المزعجة والأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة؛ وكما كان الحال خلال الحرب الباردة، قد يكون التحرير نتاجاً للتعاون الأمني والاقتصادي، وليس شرطاً مسبقاً له.
الكولونيل ريتش أوتزن (متقاعد) هو مستشار جيوسياسي وضابط منطقة أجنبية متقاعد يعمل حالياً كزميل أقدم في “مؤسسة جيمس تاون”. سونر چاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي” ومؤلف كتاب “سلطان في الخريف: أردوغان يواجه قوات تركيا التي لا يمكن احتوائها”. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “سي إي پي إي” (CEPA).
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى