لم يكن ينقص سوريا إلا أن يضاف طاغية بيلوروسيا ألكسندر لوكاشنكو إلى الطغاة الوالغين بدمها ودمارها منذ عقد ونيف. فقد شاع منذ أيام نبأ قرار بوتين إرسال عسكريين بيلوروس إلى سوريا، متستراً بمشروع إتفاقية مع لوكاشنكو تحدد تفاصيل المهمة “الإنسانية” للقوة. وبالتأكيد ليس بوتبن بحاجة في سوريا إلى قوة عسكرية إضافية لا تغير بحجمها الضئيل شيئاً في ميزان القوى الراهن في سوريا، لكنه يوظف قراره هذا في إتجاهات متعددة. فهي رسالة واضحة للغرب الذي يخوض معه صراعاً دائماً، رفع سعيره على الحدود مع أوكرانيا في الفترة الأخيرة. كما أنه، وبإشراكه بيلوروسيا إلى جانب أرمينيا في التدخل بسوريا، يرفع من شرعية التدخل في سوريا في إطار معاهدة الدفاع الجماعي لبعض الجمهوريات السوفياتية السابقة، وكذلك يؤكد تكبيل لوكاشنكو الذي يجري معه هذه الأيام مناورات عسكرية على حدود اوكرانيا ودول البلطيق المنضوية في حلف الناتو. ويأتي إشراك بوتين بيلوروسيا في الصراع السوري دون إستشارة الأسد في الوقت الذي يطالب فيه الولايات المتحدة من منبر مجلس الأمن الدولي بالإنسحاب من سوريا، وذلك بحجة عدم شرعية وجودها في سوريا لعدم حصولها على تصريح من الأسد.
الأكثر سخرية في الأمر هو إعلان لوكاشنكو خبراً كاذباً ما نشرته روسيا على موقع رسمي بشأن إتفاقية مع بيلوروسيا لإرسال قوات إلى سوريا. فقد نشر موقع babel الأوكراني في 8 من الشهر الجاري نصاً مقتضباً، قال فيه بأن ألكسندر لوكاشنكو الذي يسمي نفسه رئيس بيلوروسيا وصف التوافق على إرسال عسكريين بيلوروس إلى سوريا بأنه خبر مزيف. هذا مع العلم أن الوثيقة بهذا الشأن قد نُشرت على الموقع الرسمي للإتحاد الروسي.
وبعد أن يورد الموقع كلام لوكاشنكو في إجتماع مجلس الأمن القومي البيلوروسي، يذكّر بما كان صرح به في العام 2019 من أن دستور البلاد لا يسمح بإرسال عسكريين بيلوروس إلى بلدان أخرى( سيجري في 22 من الجاري إستفتاء على دستور جديد يلغي هذه المادة). وأضاف لوكاشنكو حينها قائلاً بأن لا رغبة لديه بحشر نفسه في سوريا بين الإيرانيين والأميركيين والأتراك والروس.
صحيفة NG الروسية نشرت نصاً بعنوان “لوكاشنكو يقدم الأعذار بشأن سوريا”، وأرفقته بآخر ثانوي “في بيلوروسيا يدحضون نبأ إرسال عسكريين بيلوروس إلى قاعدة حميميم”. تصف الصحيفة تصريح لوكاشنوكو بالغريب “بعض الشيئ، وتنقل عن خبير عسكري تفسيره لما ورد في مشروع الإتفاقية المذكور عن المهمة الإنسانية للعسكريين البيلوروس، حيث يقول بأنها تقوم على نزع الألغام وتقديم الخدمات الطبية للوحدات العسكرية وللسكان. ويؤكد أن المجندين الإلزاميين لن يرسلوا إلى سوريا، حيث لا فائدة ترجى منهم، والمنافسة لن تكون قليلة بين العسكريين المتعاقدين على مكان ما بين المئتي عسكري المنوي إرسالهم. فالرواتب الجيدة والتقديمات وتسهيل الترفيع في الرتبة تجعل المهمة في سوريا مغرية للإختصاصيين العسكريين.
ويرى الخبير أن لوكاشنكو “محق جزئياً” في أنه سيساعد سوريا بالأطباء. ويلفت الإنتباه إلى “بعض الغراية” في تحديد وضع الوحدة البيلوروسية في سوريا، حيث يقول مشروع الإتفاقية بأنه يتحدد بموجب الإتفاقيات الدولية بين سوربا وبيلوروسيا. لكن مثل هذه الإتفاقيات ليست موجودة في الوقت الراهن، ولا خطط لعقدها أو الإتفاق على معايير حقوقية تخول الجهة التي توقع عليها. كما يستغرب الخبير كون الوحدة البيلوروسية في سوريا لن تكون خاضعة للحكومة أو وزارة الدفاع السورية، بل لمركز القوات الروسية، أي “من يقدم العشاء للفتاة، هو من يرقص معها”. ويرى أن غرابة الوضع تصورها تجربة مشاركة أرمينيا في “المهمة الإنسانية” في سوريا، حيث يخضع العسكريون لوزارة الدفاع الأرمينية، بينما علاقتهم بالقوات الروسية تقتصر على التنسيق فقط.
الخدمة الروسية في موقع الراديو والتلفزة التركية TRT نشرت نصاً بعنوان “روسيا تصر: ما حاجة بيلوروسيا لإرسال عسكريين إلى سوريا”. ينقل الموقع عن محلل ومستشار بيلوروسي قوله بأنها ليست المرة الأولى التي يدحض فيها لوكاشنكو معلومات رسمية من السلطات الروسية في الحقل العسكري. ويشير المحلل إلى إعلان وزير الدفاع الروسي في العام 2013 عن قرب إقامة قاعدة عسكرية روسية في بيلوروسيا تجاهلته السلطات البيلوروسية في حينه، ومثل هذه القاعدة لا وجود لها حتى الآن في بيلوروسيا. وهذ وضع معروف، حين تبتز روسيا لوكاشنكو ببثها أخباراً في الإعلام تتناول المجال العسكري. لكن حين أصبح لوكاشنكو معزولاُ عن العالم الغربي في العام 2020، لم يعد بوسعه اللعب في الحياد والموازنة بين روسيا والغرب.
ويرى المحلل أن إعتماد لوكاشنكو على روسيا قد ازداد، ويعتبر أن الحلول الوسط في حقلي الأمن والدفاع هي أهون الشرور. ومن هنا خطاب التأييد من جانب مينسك للعدوان على أوكرانيا، ودعوة لوكاشنكو ل”إعادة أوكرانيا إلى الحضن السلافي”. ويدرج المحلل في هذا السياق المناورات العسكرية الحالية المشتركة بين روسيا وبيلوروسيا، والتي لم يكن مخططاً لها.
موقع dsnews الأوكراني نشر نصاً مدوياً بعنوان “شرائح لحم مدافع: ما حاجة الكرملين للبيلوروس في سوريا”. قدم الموقع للنص بالقول أن لوكاشنكو يورّد لموسكو لحم محارب مقابل إحتفاظه بالسلطة. وهذه ليست سوى البداية، فالكرملين يخطط لإيتلاع “الشعب الشقيق” وتحويله إلى شريحة روسية من الدرجة الثانية. ويشير إلى أن إعداد مسودة الإتفاقية مع بيلوروسيا تم في يوم عمل واحد، مع العلم أنه كان يمكن على الأرجح إعدادها بسرعة أكبر أيضاً.
يرى الموقع أن وجود بيلوروسيا كدولة مستقلة يمكن إعتباره قد إنتهى. أمامنا نتيجة منطقية “للمقاومة اللاعنفية” للديكتاتورية: لوكاشنكو الذي سَلِمَ في السلطة، لكن المرعوب إلى الحد الأقصى، سلّم البلد للكرملين بدل ضمانات لنفسه. مناقشة لوكاشنكو نفسه أصبحت بلا معنى، حيث أنه قد إنتهى كسياسي رغم كونه ديكتاتوراً. فهو لم يعد يمتلك حتى الحد الأدنى من الإستقلالية في قراراته، بل تحول إلى وسادة لبوتين. فإذا بقي هذا الفوهرر الريفي على قيد الحياة حتى المحكمة الدولية، فهو سيجلس على مقعد المتهمين نفسه ممن بقي من الإستبلشمنت الروسي الذي لم يتمكن من الفرار. لكن “باتكا” ( الأب كما يحب لوكاشنكو مناداته) ليس بسيطاً، فقد تدبر شهادة جنون منذ العهد السوفياتي.
ويقول الموقع أنه من وجهة النظر القانونية، وهذا ما يؤكده بالضرورة قضاة محاكمة نظامي بوتين والأسد، فإن مشاركة البيلوروس في المهمة التأديبية البوليسية الروسية في سوريا هي، بلا شك، جريمة حرب. فما يُرتكب ليس من قبل “نظام عام”، بل يرتكب من قبل كل فرد من المئتين المشاركين في “المهمة الإنسانية”.
يستطرد الموقع في الحديث عن عواقب مشاركة البيلوروس في “المهمة الإنسانية” مع روسيا في سوريا، وكيف يخطط لوكاشنكو للبقاء في السلطة على الحراب الروسية، كما الأسد، وتخطيطه لتوريث أبنائه الجلوس على هذه الحراب. ويقول بأن البيلوروس فوتوا فرصة التخلص من الديكتاتورية، وذلك باستسلامهم لخداع “الإحتجاج السلمي”. وبيلوروسيا لن يعود أمر فيها إلى الوراء، ولن يكون تحريرها ممكنا إلا بعد هزيمة روسيا أو “الدولة الإتحادية” (روسيا وبيلوروسيا). ويذكرنا هذا بالرايخ الثالث الذي كان أيضاً ثمرة ضم النمسا إلى ألمانيا، كما ضم بيلوروسيا الآن إلى أحضان موسكو.
المصدر: المدن