منذ عودة التظاهرات الاحتجاجية إلى محافظة السويداء جنوبي سوريا، والجميع يدرك صعوبة استمرارها لفترة طويلة في ظل الظروف الحالية. ورغم ذلك، وسواء استمرت هذه التظاهرات أو توقفت، فإنها شكلت بارقة أمل بأنّ السوريين مازال لديهم ما يجمعهم، وبأن الكثيرين منهم تعلموا دروساً واكتسبوا خبرات.
وبالنسبة لنظام الأسد، كان واضحاً كيف أنّ كلمات المحتجين ولُغَتهم السِلميّة الجامعة التي وصلت مسامع وقلوب السوريين، كانت أشد عليه من وقع الرصاص. ولهذا تمنى وتوسّل في كل لحظة، لو ينزلق هؤلاء إلى حمل السلاح، ويستبدلون وَعيَهُم بعنف وفوضى تطحن السوريين، ولا تطاول دائرة النظام الضيقة. وليس أدلّ على رغبة النظام هذه، سوى إطلاق حملته المضادة لإلصاق تهمة التسلح و”الزعرنة” بالمتظاهرين بأي ثمن، عبر منشورات منسوخة على الصفحات الموالية تتضمن مزيجاً مفبركاً من صُوَر قديمة لا علاقة لها بالحدث.
وحرص مسؤولو الصفحات الموالية المرتبطة بالأجهزة الأمنية، على استخدام كل الوسائل الممكنة في محاولة لتشويه صورة التظاهرات، ولو عبر حكاية خيالية تقول بأن” الهدف النهائي للحراك في السويداء هو إنشاء منطقة عازلة خالية من سلاح الجيش السوري بين دمشق والجولان العربي السوري المحتل على غرار شبه جزيرة سيناء”.
ولأن اتهامات كهذه عفا عليها الزمن، وباتَ أسلوب الكذب فيها مبتذلاً جداً، أوقفت تلك الصفحات التعليقات على منشوراتها، بعدما واجهت سخريةً وتهكماً وتوبيخاً من متابعيها.
ولم يكن استخدام الصور المزيفة والقصص الخيالية هو السبب الوحيد لغضب قسم من جمهور الموالين، حيث عبّر بعضهم عن انزعاجه من اختلاق جهات افتراضية وهمية متحدثة باسم الحراك تستخدم لغة عنفية، بهدف وصم المحتجين بما يريده النظام. فتمّ على سبيل المثال إنشاء صفحة باسم “السويداء الآن” لتكون نسخة عن الصفحة الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه، ولتنشر فبركات تحمل توقيع “انتفاضة الكرامة”.
ومن بين الأساليب المستخدمة لشيطنة احتجاجات السويداء، ورقة أساسية كشفت حجم قلق الماكينة الإعلامية للنظام، وهي ورقة الطائفية. ففي مسعى واضح لدق إسفين بين هذه المدينة وبين باقي المدن السورية، نشَرَ موقع إخباري مُوالٍ مادة صحافية للإيحاء بوجود حالة امتعاض من المَشاهِد المرافقة للاحتجاجات، فجمَعَ في مقال واحد بين لباس المحتجين التراثي، وراياتهم، وموقع انطلاقهم (مقام “عين الزمان” وهو معلم ثقافي وفكري واجتماعي يتبع لطائفة الموحّدين الدّروز) ليَخلُص الموقع إلى وصف كل تلك المظاهر بكلمة “دينية”، وبأنها تتناقض منطقياً مع مطالب أحد أبرز المتحدثين في التظاهرات حين أكد على “إقامة دولة مدنية عادلة ديموقراطية من دون حكم طائفي أو عرقي”.
ولم يكن مستغرَباً لجوء منصات النظام لألاعيب من هذا النوع، لأن مطلباً كهذا أزعجه وسلط الضوء على ما يتمتع به المتظاهرون من وعي، وقدرتهم على بلورة رؤيتهم كتعبير عن تطلعات السوريين، فلم يجد سوى محاولة نزع الأهلية والكفاءة والوطنية عنهم، عبر إظهارهم وكأنهم متناقضون ومنغلقون، وذلك على عكس ما هم عليه تماماً. والأكثر بالطبع أن النقاشات المتفرعة عن هذه الأخبار تصب كلها في القول أن النظام بالأساس وفر دولة مدنية علمانية وأن المحتجين منذ عشر سنوات وحتى اليوم كانوا كلهم مشاريع تقسيم طائفية لا أكثر.
ويجب القول أن قسماً من جمهور الموالين لم يكون الوحيد في وقوعه، عن جهل أو تواطؤ، في هذا الفخ، إذ سأل عن مكانة عَلَمه ذي النجمتين. إذْ ظهَرَ ناشطون معارضون أيضاً اهتمّوا بتفسير وتبرير غياب علم الثورة ذي النجمات الثلاث، بدلاً من تركيزهم على جوهر الحراك وعناوينه العابرة للمناطق والحدود!
وإلى جانب ورقة الطائفية المعتادة، كشف إعلام النظام هذه المرة عن سلاح إضافي خطير يستهدف الفرز ضمن الطائفة نفسها، عبر خلق موقف يميّز بين درزيّ وآخر، بناءً على ” الولاء للوطن والدولة”. ولتحقيق ذلك، استُخدمت أصوات إعلامية وصحافية على اعتبار أنها “تمثّل” مجتمع السويداء كي تقدم تصورها عما يحدث. وتمحورت المواعظ الوطنية لهذه الأصوات حول إظهار المحتجين وكأنهم “أقلية بين أقرانهم، وأنه تم التغرير بهم، فوقعوا في شرك الأعداء”. وأبرز وجوه هذه الحملة، مراسل قناة “الإخبارية السورية” محمد جربوع، الذي بث مقطع فيديو عبر صفحته في “فايسبوك”، كرّر خلاله المضمون المعمم أسديّاً لتشويه الحِراك، لجهة اتهام المتظاهرين بالعمالة للخارج، والسذاجة، وحمل السلاح، واللاوطنية.
وباستثناء ما عبّر عنه من خوف مفهوم على أقاربه المقيمين في السويداء، كحال أي سوري بعيد من أهله، فإنّ جربوع تفنّنَ في استخدام لغة استعلائية تحطّ من شأن أبناء جلدته المتظاهرين “البسطاء” وتلمّح إلى قابليتهم للتحول لمرتزقة ومأجورين، ثم تشير إلى قوة “الدولة” القادرة على الحسم عسكرياً.
ولعل هذه أهم نقطة ضمن ما ذكره، فبها تكتمل صورته كناطق باسم منظومة يدافع عن امتيازات منحته إياها، حتى ولو على حساب انتمائه وأهله. وعليه، لا يعود هناك داعٍ للاستغراب من تطابق كثير مما جاء به جربوع، مع ما كتبته بثينة شعبان، المستشارة الإعلامية للرئيس السوري، في مقال لها مؤخراً. فرغم اختلاف المواقع والأهمية بين الاثنين، فقد عبّر كلاهما عن طبيعة نظام كانت تغلفه قشور وحواشٍ سميكة، ثم زال الكثير منها حتى بات ممكناً سماع قرقعة هيكله الأساسي على شكل تصريحات منتفعين كبار أو صغار يهددون ويتهمون ويضربون بسيف “الدولة” بعشوائية، وبلا أدنى تحفظ، بأسلوب مختلف نسبياً عما عُرف عن محللين موالين عقب الحراك السوري العام 2011.
نماذج كهذه تستدعي فهماً لقيمة الانتماء الطائفي الظرفيّة على سلّم الزبائنية الأسدي. وفي المقابل يَجبُ التوقف أيضاً عند نماذج متظاهرين أبرزتهم احتجاجات السويداء في الأيام الماضية، وكان منهم مَن لم يَنسَ أن يُحيّي مدن سوريا جميعها بلا تكلّف، متوجهاً بالتحية إلى “كلّ من يقف عند حقوقه وكرامته”، وكأنه يقدّم برنامج عمل يجمع المادي بالمعنوي، ويستغني عن اجترار معارك نشطاء وهيئات مشغولة بالتمييز بين “ثورة الكرامة” و”ثورة الجياع”، أكثر مما انشغل بيزنطيون بتحديد جنس الملائكة.
المصدر: المدن