قد يكون رغيف الخبز السبب المباشر لتلك الاحتجاجات، لكنه في عمق دلالته يعدُّ “الشعرة التي قصمت ظهر البعير”، فقد طفح الكيل، وبلغ الظلم مداه، لا على أهل السويداء في سورية فحسب، بل على كل من لا يزال تحت قبضة النظام. فالوضع المعيشي في المدن السورية كلها ينذر بأخطار جسام، وهذا طبيعي بعد أن تسبب النظام بتدمير كل ما في سورية من خيراتٍ وقيم وطنية واجتماعية. ولكن هناك ما هو أخطر من أمر الرغيف، على أهمية الرغيف ورمزيته، إنه هدر كرامة المواطن وإذلاله، فالغلاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية الضرورية لأغلبية الناس زادا عن حدّيهما، وبسببه تُمتهن كرامة المواطن، إذ غدا يُدفع إلى بيع ما تبقى من ممتلكاته لا ليأكل، بل ليدفعها للمهرّبين الذين يمكن أن يخرجوه من حالة الاختناق التي يعيشها! ولا يزال النظام يمنّن المواطن بـ “مواقفه الوطنية” ومقاومته العدو، ويتهم كل من يخرج ليتدبّر شؤون عيشه بالخيانة والعمالة لإسرائيل، في إشارة إلى احتجاجات محافظة السويداء، بينما طيران العدو الإسرائيلي يصول ويجول في فضاء دمشق ومحيطها، على نحوٍ، شبه يومي، بعد أن حوَّل النظام البلاد إلى ساحة حربٍ دوليةٍ بالوكالة.. وجعل السوريين يحصدون ويلاتها موتاً مجانياً وقسوة حياة، بينما كبار قادة الجيش يعملون في زراعة المخدّرات وتجارتها، فلا يكاد يمضي أسبوع على فضيحة ما في هذا الشأن حتى تتبعها أخرى! وما زاد على ذلك أن نخبة قليلة من رجال السلطة، ومن المحسوبين عليها، يعيشون حياة بذخ غير مسبوقة، فالمطاعم الفاخرة، والفنادق ودور الدعارة، وانعدام الأمن، وجرائم السطو والخطف والاغتصاب، وتعاطي المخدّرات وحجم ثروات أسرة الأسد تزداد وتودَع في روسيا وغيرها.
وإذا كانت مستشارة الأسد، بثينة شعبان، قد ألمحت في تصريحها بهذا الشأن إلى الحراك المتجدّد في السويداء الذي يأتي على أرضية وطنية، فلا هي ولا أحد سواها يستطيع المزاودة على أهالي السويداء الذين قدّموا مئات الشهداء لطرد المحتل الفرنسي، وعانوا ظلم النظام أضعافاً مضاعفة! وكانوا خلال السنوات الثلاث الأخيرة عرضة لعدوان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي شنَّ هجوماً على محافظتهم في يوليو/ تموز 2018، وقد بلغ عدد ضحاياه نحو 220 قتيلًا، وفق ما أعلنه المرصد السوري لحقوق الإنسان. وقد ذكر رئيس المرصد، رامي عبد الرحمن، أن تنظيم الدولة الإسلامية خطف 36 مدنيًا بين نساء وأطفال لدى ذلك الهجوم.. وكان التحالف الدولي قد ذكر، في ديسمبر/ كانون الأول 2017، أن الحكومة السورية سهّلت مرور “داعش” إلى منطقة قريبة من السويداء (موقع السويداء 24). وغاية ذلك الضغط على الأهالي الذين منعوا أولادهم من الالتحاق بالجيش، ودانوا هذه الحرب المفتوحة على الشعب. وعلى الرغم من أن هذه المسألة عامة، إلا أن النظام تاجر بها للضغط على أهالي السويداء. والحقيقة أن السبب العميق لهذا الأمر أن أهالي السويداء وغيرهم أدركوا، منذ البداية أن هذه المعركة ليست معركتهم، فهي ليست وطنية، بل للدفاع عن نظامٍ مستبدٍّ قاد البلاد السورية إلى الدمار والخراب الكلي.
وإذا كان من مغزى لاحتجاجات أهالي السويداء، فهي تلغي كلَّ محاولات حافظ الأسد لزراعة فكرة حمايته الأقليات السورية في أذهان بعضهم، بينما هي في أصالة أهل السويداء وصل ماضيهم الوطني بحاضرهم الذي يتطلب قول كلمة حق بوجه حاكم جائر، وقد قالوها بألوان شتى! وغني عن القول الإشارة إلى دور السويداء في الثورة السورية الكبرى عام 1925، فسلطان باشا الأطرش كان أول من رفع علم الثورة العربية في بلدته القريَّا، وهو الذي رفض عرض الفرنسيين عليه حكم جبل الدروز (محافظة السويداء) بصفته الزعيم الدرزي الأبرز يومها. وهو الذي أعلن بيان قيام الثورة السورية الكبرى في 21 يوليو/ تموز عام 1925، ردّاً على المظالم التي قام بها الفرنسيون في معظم المدن السورية، ومن ذلك محاكمة الثوار في حلب، وإصدار المفوّض السامي الفرنسي في بيروت، موريس بول ساراي، قراراً نفى بموجبه جميع أفراد أسرة عياش الحاج من مدينة دير الزور إلى مدينة جبلة، وحكم على محمود العيّاش مع 12 ثائراً من رفاقه بالإعدام، ونفِّذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في 15 سبتمبر/ أيلول عام 1925 في حلب، كما حكم على محمد العيّاش بالسجن 20 عاماً في جزيرة أرواد في محافظة طرطوس. وإمعاناً بالتشفّي والانتقام، اغتالت السلطات الفرنسية في ما بعد عميد أسرتهم عياش الحاج في أوائل عام 1926، وأقيمت صلاة الغائب على روح هذا المجاهد في البقاع السورية كافة.
ومما يذكر أن سلطان باشا الأطرش نال لقب “باشا” لقاء بطولاته في الجيش العثماني، ومنحه اللقب ثانية عبد الرحمن الشهبندر الشخصية الوطنية السورية المعروفة. لكنَّ حافظ الأسد كان قد ألغى لأهالي السويداء احتفالاً سنوياً جعلوه تقليداً لإحياء مناسبة عيد الجلاء في السابع عشر من إبريل/ نيسان لكل عام، وقد اعتاد الأهالي أن يجتمعوا في بلدة القريَّا، بلد سلطان باشا الأطرش، يستذكرون البطولات السورية، وأحياناً يضمّنون مطالبهم بعض القضايا العامة، ومنها: ما هو سياسي مثل إيجاد هامش ديمقراطي وإلغاء حالة الطوارئ وسوى ذلك، ما دعاه، في إحدى السنوات، إلى سجن صاحب الكلمة عامين، وهو مهندس اسمه إسماعيل الأشقر. والحقيقة أن الأسد أراد إلغاء هذا الإرث الوطني كما ألغى الاحتفال بعيد الجلاء بعد أن اختصره في السنوات الأولى من حُكْمِه ببضع كلماتٍ يلقيها بعض قياديي حزب البعث والجبهة الوطنية في قاعات مغلقة، بعد أن كانت احتفالات الجلاء أيام الحكم “الرجعي” شراكةً مع الشعب السوري كله.
والحقيقة أن الحديث طويل عن السويداء ودورها الوطني، وما هو ماثل الآن أنَّ الشعب السوري في مناطق النظام يتقلب على صفيحٍ ساخن، وقد تبخّرت مزاعم النصر، ولا أحد يعلم متى يكون الانفجار الكبير، إذ لا حلول عاجلة، ولا تطبيع مع العرب، ولا مع غيرهم، ولا إعادة إعمار، والروس والإيرانيون يستثمرون حال الشعب المريرة بالتهام ما تبقى، فهل تكون المعارضة جاهزة لملاقاة ما هو قادم؟! وهل تُراها توصيات ندوة “سورية إلى أين؟” التي انتظمت أخيرا في الدوحة، واستنتاجاتها السياسية في طريقها إلى التنفيذ العملي؟! لعلها كذلك فالشعب السوري داخلاً وخارجاً يأمل ذلك.
المصدر: العربي الجديد