أطفال المخيمات قُتِلوا ويجب أن نُسلم أنفسنا

د. أحمد سامر العش

إنَّ الداءَ الحقيقيَّ هو الخوفُ من الحياة لا الموتِ

“نجيب محفوظ -ثرثرة فوق النيل”

“الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسِنا” تبدو لأبناء جيلنا أشهرُ جملةٍ في تاريخ السينما المصرية لفيلم عمره أكثر من خمسين عامًا. لكنَّ العجيبَ أنَّ المشاهدَ للفيلم يشعر أنَّ الزمنَ قد تجمد منذ خمسون عامًا الى اليوم، ويجد أن شخصياتِ الفيلم مازالت هي الأكثر حضورًا في مأساتنا الحالية.

“ثرثرة فوق النيل” من العلامات المهمة في تاريخ السينما المصرية، ليس فقط لأنَّه يحتل المركزَ رقم 48 في قائمة أفضل 100 فيلم مصري حسب استفتاءِ الكتاب والنقاد، ولكن أيضًا لقيمته المضافة فنيًا (على مستوى الكتابة والإخراج والتمثيل)، واجتماعيًّا ولا سيما أنه أحد أهم الأفلام التي اقتربت من واقع المجتمع المصري بعد هزيمة 1967، غير مكتفية بالرصد والتحليل، بل بالمحاكمة أيضًا، حيث يُعَدُّ الفيلمُ صرخةً في وجه زمن الهزيمة التي جعلت المجتمع يكفر بكل ما آمن به طوال سنوات الستينيات.

يستعرض الفيلمُ بعدَ وقوع الهزيمة في 5 يونيو 1967، عددًا من الشخصيات التي تحاول الهروب من الواقع اليومي البائس الذي يحيط بها، حيث يجتمعون بشكل دوري في عوامة الممثل رجب القاضي المطلةِ على نهر النيل من أجل تعاطي الحشيش واللهو، من بينهم الموظفُ المحبَطُ أنيس زكي، والمرأةُ سنية التي تحاول التنفيس عن غضبها بعد اكتشافها لخيانة زوجِها، وسمارةُ الصحافيةُ دائمةُ الانتقاد لكل شيء، وسناءُ الطالبةُ الجامعية التي تقاسي من إهمال والديها نحوها.

الفيلمُ الذي أُنتجَ عام 1971 مقتبسٌ بتصرف عن رواية نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم، والتي كتبها قبل هزيمة 1967 بسنة واحدة. تدور الروايةُ كالفيلم في عوامة على ضفاف النيل، يجتمع في هذه العوامة مجموعةٌ من الأصدقاء الذين لا تكاد تجد بينهم رابطًا حقيقيًّا مشتركًا، -اللهم- إلا العربدةَ وإدمان تعاطي الكيف وهو نوع من المخدر.

 تأتي أحداثُ الرواية في صورة محادثة بين هؤلاء الأصدقاء داخل العوامة، أنيس زكي بطلُ القصةِ لا يكاد يرجع إليه عقله، فهو يهلوس من أول الرواية إلى آخرها، وهو حانقٌ أشد الحنق على واقعه، وعلى مديره في الوظيفة. أنيس زكي رجلٌ مثقفٌ جدًّا، ولديه ثقافةٌ تاريخيةٌ موسوعية، فهلوسته عندما يتعاطى المخدراتِ، لها طابعٌ تاريخيٌّ، فيرى المماليك والرشيد والملوك والفراعنة. أنيس زكى الموظف في وزارة الصحة، كان طالبا ريفيًّا جاء إلى القاهرة والتحق بكلية الطب، ولم يكملْ دراستَه، واستطاع بواسطة أحدِ الأساتذة في الكلية إن يلتحقَ بالعمل في وزارة الصحة، ثم ماتت زوجته وطفلته في يوم واحد، وقد اعتاد الإدمانَ، وتُطلق عليه المجموعةُ لقبَ “فارس الشلة” و”ولي أمرهم”، وهو يمثلُ صوتَ الساردِ الفني في الرواية، فكثيرًا ما يطلق نجيب محفوظ هذا الساردَ للتعليق على ما يدور حوله، أو التعبيرِ عن الأفكار والتأملات العميقة الناتجة عن تيار الوعي في الرواية.

أصدقاءُ العوامةِ جماعةٌ مثقفةٌ تقاطع الحياة ودنيا السياسة والناس. تعيش حياتها طولًا وعرضًا كما تريد هي لا غيرها، حياة عبث، حياة لذات، رأيُ المثقف لا يُعبأ به في نظرهم؛ لذلك تركوا كلَّ شيءٍ ليقررَه الطغاةُ، بينما هم يعيشون في واد آخر يروق لهم. نظرتُهم هزيلةٌ وعدمية للحياة. نظرةٌ خائفةٌ من كل شيء أدت بهم إلى ألّا يبالوا بأي شيء”لأننا نخاف البوليس والجيش والإنجليز والأمريكان والظاهر والباطن، فقد أدى بنا إلى ألّا نخاف شيئا.” وهم في هذه الحالة.. ليس ثمة شخصيةٌ حاولت انتشالهم من عزلتهم سوى شخصيةٍ واحدةٍ كانت تملك وجهة نظر مختلفة، فبادرت بالتغيير لكن الطوفان جرفها قبل أن تحقق حلمها.

كُتبتْ روايةُ “ثرثرة فوق النيل” في منتصف الستينيات، في ذروة الناصرية، وسطوةِ الأمني والعسكري على الحياة السياسية في مصر، استخدم نجيب محفوظ الرموزَ في تقديم رؤيةٍ نقديةٍ للمجتمع والسياسة في خلال تلك الفترة، مُسلِّطا الضوءَ على عدد من الشخصيات في المجتمع المصري والطبقة الوسطى المثقفة، إذ يلتقون في إحدى العوامات على سطح النيل في قلب القاهرة، يجمعُهم الحشيشُ والملل والإحساس العارم بالتفاهة وعدم الأهمية.

رواية “ثرثرة فوق النيل” كما هي رواية “ثرثرة فوق خيام المشردين والنازحين”  تحكي أفكار المثقفين وواقعَهم، وتُعطي لنا نماذجَ لأدلجاتهم التي عاشوها ردحًا من الزمن، وهي جامعة بين النقد السلبي والإيجابي؛ بين محاولة ترميم حالتهم التي تهدمت، وإظهار سلطتهم التي يتمتعون بها على السياسي والمجتمع.وقد دفعني للكتابة عنهم التفافهم وتجمعهم هذه الأيام فيما يشبه العوامة التي تطفوا فوق مآسي المشردين وأحلام المقهورين.

العوامة أو كما يسميها أصحابها “المملكة” هي صورةٌ مصغرةٌ لشريحة واسعة من المجتمع المصري في الستينيات، مجموعةٍ من متن الطبقة الوسطى المصرية الصاعدة من موظفين حكوميين وصحفيين ومحامين وفنانين يجتمعون يوميا في العوامة من أجل الحشيش والغياب عن الوعي.

طوالَ أحداثِ الرواية نقرأ الحوار الداخلي الذي يخوضه أنيس زكي مع نفسهِ وهو تحت تأثير الحشيش، يسبَحُ أنيسُ في التاريخ والفلسفة وأسئلةِ المعنى والوجود، يتساءل في أحد التجليات عن مصير الحاكم بأمر الله حين نصّب نفسه إلهًا، ثم اختفى حين صعد إلى الجبل، أين ذهب؟ هل انتحر بالفعل، ولِمَ لم تأتمرِ الطبيعةُ بأمره وتسحقِ القاهرة؟، قاده هذا السؤال إلى تساؤل آخر وهو يرنو ببصره عبر بوابة العوامة إلى نهر النيل خلفها؛ لماذا كلُّ هؤلاءِ الحكامِ الآلهةِ الذين حكموا سكان هذا النهر منذ عصر الفراعنة؟، “قال لنفسه إنَّه لم يكن عجيبًا أن يعبد المصريون فرعون، ولكنَّ العجيبَ أنَّ فرعونَ آمن فعلًا أنَّه إله”.

بينما يتشاركون تعاطيَ الحشيشِ والضحكَ والسخريةَ من كل شيء، تسألُهم الصحفيةُ سمارةُ بهجت عن الاستسلام للسخرية واللا مبالاة، يُجيبُ الناقدُ الفنيُّ علي السيد: “نحن لسنا أنانيين أبدًا، وكلٌّ منا يكدُّ في حياته الخاصة والمهنية، لكننا نرى أن السفينةَ تسير من دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا، وأن التفكير بعد ذلك لن يُجدي شيئا، وربما جرّ وراءه الكدر وضغط الدم”. في الفيلم أتى النقدُ أكثر وضوحًا، حيث أضاف المحامي مصطفى راشد: “ميغركيش حالنا دلوقت، واحنا شبان كنا ثوريين ونشارك في الحياة العامة والمظاهرات، كنا متحمسين”، ويضيف الكاتب خالد عزوز: “لكن بعد ما قامت الثورة، جالنا إحساس أن دورنا انتهى، وحسينا إنه تم إبعادنا عن المشاركة”، وفي سخرية مريرة “اقترح المحامي مصطفى راشد إلقاءَ جوزةِ الحشيش في النيل، وأن يقسموا العمل فيما بينهم، فيختص خالد عزوز بالسياسة الداخلية وعلي السيد بالسياسة العالمية… وراحوا يتساءلون كيف يبدؤون؟ كيف ينظمون أنفسهم؟ وكيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديمقراطية لا زيفَ فيها ولا قهر؟”.

لمَّا أراد الأصدقاءُ أن يخرجوا ليتعرفوا على العالم الآخر المحيط بهم – ونادرا ما يفعلون – كانتِ الحادثة التي صدمتهم جميعًا وأقلقت الضمير الغافي عندهم (حادثة دهس بالسيارة التي كانوا يقودنها بطيش لفلَّاحةٍ شابةٍ كانت تعبر الطريق)، ومع ذلك فقد كان التعاملُ مع تلك الحادثة تعاملًا غريبًا يفسر لك الضياعَ والتشتتَ الذي كانوا يعيشونه. وبالطبع كانت نتيجةُ ذلك انمحاءً ونهايةً وإفاقةً من الحلم المعاش. النهاية الضائعة، والقلقة تفسر للقارئ حال الإنسان العربي المهدور والسارح في دنيا الضيم .

 يقول نجيب محفوظ في الرواية” لم يعد هناك من نكات مذ أصبحت حياتُنا نكتةً سمجةً”،والعجيب أن شخصيات الرواية مازالت هي الأكثر حضورًا في مأساتنا الحالية خلال وبعد ثورات الربيع العربي!  على سبيل المثال شخصية أنيس زكي المثقف الذي يعيش في غيبوبة دائمة تحت تأثير المخدر هو كما تصفه الرواية “نصف مجنون على نصف ميت “، و سناء الرشيدي الطالبةُ بكلية الآداب التي تمثل الجيلَ الجديدَ، التي تصفُها الروايةُ “الجيلَ الضائع الذي لا يملك ثقافةً ولا تربية”، والممثل رجب القاضي الجميلُ والجذابُ، المشهورُ ببشرته السمراء وسيطرته غير المحدودة، المحامي مصطفى راشد “ذو مظهر براق بالثقافة وبطن أجوف فهو لا يقدم ولا يؤخر”، علي السيد الناقد الفني “ولد كبير لا يكتب الا عندما يقبض المال” , و سنية كامل الرائدة القديمة بالعوامة وصديقة على السيد التي “تبحث عن سبب لتخون به زوجها الخائن بالأساس”، و خالد عزوز كاتبُ القصة “شخص لا يملك عقيدةً ومنحل”, و ليلى زيدان المترجمة بالخارجية المصرية وخريجة الجامعة الأمريكية “شيء مزيف وأكذوبة المدنية”. ناهيك عن سمارة: الصحفية الطموحة التي تسللت إلى العوامة لترصد هؤلاء المدمنين؛ كشخصياتٍ لمسرحية تعتزم كتابتَها، ويتم اكتشاف أمرها لاحقًا، وحارس العوامة وهو الرجل الضخم الذي يعيش في ازدواجية بين عمله كمؤذن للمصلى الذي بناه وبين عمله في القوادة أي إحضار فتيات الليل لأصحاب العوامة!

ربما نجد كثيرًا من هؤلاء في حياتنا اليومية، فكلُّ من يقرأ هذه السطورَ ستتشكل عنده إسقاطاتٌ على شخصيات ومؤسسات تتحكم بالمشاهد من حولنا في الثورات التي عشناها ونعيشها منذ ذلك التاريخِ، لكن السؤالَ الذي لا أكاد أهتدي لإجابته: لماذا لم تختفِ تلك الشخصياتُ منذ ١٩٦٦ إلى يومنا هذا، بل ازدادت تعقيدًا واستعصاءً على الفهم؟ ولماذا ثوراتٌ مثلُ ثورةِ المليونِ شهيد في الجزائر وثورة “المليون +” السورية لم تتجنبِ المطبات التي اتفقنا عليها كلُّنا، ونبهنا إليها، وحذرنا منها؟ ألأنا لا نقرأ، أم لأنا لا نتعلم، أم لأنا نكذب حتى على أنفسنا؟!

يقول نجيب محفوظ في الرواية :”لم يعد للقلب من همٍّ يحمله منذ دفن في التراب، أعز ما كان يملكه “.عندما يستيقظ بطل الرواية أنيس من حالة “نصف الصحوة ونصف الموت” يطلب من كل مرتادي العوامة أن يسلموا أنفسهم للمحاكمة على جريمة قتل الفلاحة، وربما يجب القول أننا يجب أن نسلم أيضًا أنفسنا للمحاكمة على جريمة موت جيل كامل، بردًا وقهرًا في مخيمات اللجوء، أو على الأقل أن نصرخ؛ لنستيقظ كما ينتهي الفيلمُ من حالة التخدير التي نعيشها، و يجسدها صراخُ أنيس زكي، وهو يسير بين الناس ويقول بصوت عالي ” استيقظوا” , ولا يكون ردةُ فعلنا كما كانت ردةَ فعلِ حارسِ العوامة الذي يمثلُه اليوم الإسلاميون المتطرفون (من أمثال النصرة وداعش وبعضًا من الإسلام السياسي)، برفض كل هذا المجتمع فيُسقط الجسرَ بين ضفة النيلِ والعوامةِ، ليدع العوامةَ تائهةً تعوم فوق الماء في انتظار أن تغرق بمن عليها ! جريمة الأطفال الذين يموتون في المخيمات جريمة ارتكبناها جميعًا، ويجب أن نسلم أنفسنا للمحاكمة “ربما في لحظة صدق نادرة مع أنفسنا” قبل أن يأتيَ المتشددون فيقطعوا الجسر، أو قبل أن نغرق جميعاً!

“فيا أيَّ شيءٍ، افعل شيئًا، فقد طحننا اللاشيءُ”

“نجيب محفوظ -ثرثرة فوق النيل”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى