أنا وأبطالي

رواد العوام

“هذه الرحلة كانت رحلة جسد فارق العقل وأصبح مسيراً بأمر الله” هذا ماتقوله عسيري وهذا ما أصدقه أنا، ومن يقرأ كتاب “أنا وأبطالي” سيكون على يقين أن المؤمن الراضي بقدر الله لا يمكن لقدر الله أن يخذله.
أقرأ العمل محاولاً طرد عواطفي من الملعب، لكن شريفة عسيري تعرف مربط القلب لدى القارئ، فهي كاتبة تسرد سيرة واقعية بأفخم تقنيات السرد الأدبي، فتخال نفسك تركض وراء سرير مشعل وهو يدخل غرفة العمليات أو تتوهم أن تفتح لوعد علبة دواء جاء موعده، وما يمكن أن أتحداك به في هذا الكتاب أن تغلقه دون تتيقن أن الله له من الحكمة ما ينجيك وأنت في قلب المهالك.
أنا صحيحٌ مُعافَى، إذاً أنا ملِكٌ غيرُ مُتوَّج:
أوكسجين … أوكسجين … فقط ما كان يطلبه مشعل ووعد من هذه الدنيا القاسية التي تسرّنا حيناً وتُبكينا أحياناً.
وصفة دوائيّة وبعضٌ من أمل، كلّ ما كان في جُعبة الأمّ شريفة علي عسيري في صراعها مع مرضٍ فتّاك ينهش جسدَي طفليها من المهد، مرضٍ نادر اسمه “التليُّف الكيسيّ الرئويّ البنكرياسي” يهدم الجسمَ شيئاً فشيئاً، مدمِّراً الجهازين التنفّسيّ والهضميّ.
بصبرِ نبيٍّ، وقلبِ مؤمنٍ، وشجاعةِ بطلٍ، جابهَت الأمّ شريفة علي عسيري مرضَ ولديها؛ لتكون مدرسةً في التضحية والإيثار، وعنواناً للحبّ والوفاء.
إنّها لَبطولةٌ حقّاً أن يظلّ قلبُكَ عامراً باليقين، والمِحَنُ تحاصِركَ من كلّ الجهات! إنّها لَبطولةٌ حقّاً أن يبقى للأمل فسحةٌ في حياتنا مهما ضاق العيش!
إنّها لبطولةٌ حقّاً ألّا ينقطعَ حبلُ الرجاء، والموتُ أقربُ إلينا من حبل الوريد! إنّها لَبطولةٌ حقّاً ألّا نُهزَمَ من الداخل، واليأسُ يُحكِمُ قبضتَه على أعناقنا!
تلك دروس شريفة للقارئ وهنا توقفت مع نفسي قليلاً وسألت: هل حقاً هناك اشخاص في هذا العالم يحملون بطولة شريفة وهل مشعل حقيقي ؟؟ هل وعد فعلاً كانت لها أمنية واحدة يبنى عليها حدث روائي ملحمي من طراز رفيع..؟؟
ربما لو أخرج النص بطريقة أخرى دون مقدمة الدكتور الحربي ودون غلاف، لا أعرف كيف كنا سنحكم عليه، وماذا لو كتبت شريفة رواية أخرى استخدمت فيها الواقعية بمنطق قنبلة الدخان!!
ماذا لو…؟؟
أنا أسأل فقط…
“أنا وأبطالي” كتابٌ لا يُقرَأ بل يُعاش:
يجعلك تعيش المعاناة بأدقّ تفاصيلها متأرجِحاً بين الألم والأمل، مُسلّماً أمرَكَ لمن بيده الأمرُ كلُّه، كتابٌ يجعلك تعيد النظرَ وتثمِّن ما عندَكَ، كتابٌ يطرد اليأسَ من حياتك، ويريكَ أنّ لله سبحانه وتعالى ألطافاً خفيّة، وهو قادرٌ على أن يبدّل الأمرَ من حال إلى حال.
معاناةٌ مُزمِنة رسمتْها الكاتبة بالكلمات، كلمات تخرج من القلب فتقع في القلب، كلمات تقطر حزناً وألماً حيناً، ويقيناً وإيماناً أحياناً. ولا تزال تكفكف الدمعَ وأنتَ تقرأ “أنا وأبطالي”، فتكون على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتكَ مرّةً، وعلى أملٍ لعلّ اللهَ يُحدِث بعد ذلك أمراً مرّةً أخرى.
وهنا اليقين يتجلى باهياً دون أن يتعكر، فعلاقة الكاتبة بالله/الغيب هي محور العمل التي تدور الحكاية تحت مظلته، وهنا يتعين ترك ملاحظات عديدة، أولها أن أية امرأةٍ قد توضع في مكان الكاتبة/ بطل النص الأول فهل أية امرأة قادرة على التعامل مع المفهوم الايماني بذات التدبر ودرجة النضج والوعي المعرفي والأخلاقي لكاتبة النص أو بطلة العمل؟؟
في العمل فهم متقدم لعلاقة الانسان بالله، فالقصة ليست بنهايات قدرية، هناك سعي واتكال، هناك حدث يتحرك وفق منطق علمي وخاضع للابتكار الإنساني والتقدمي التقني الطبي، هناك مستشفى متطور وفريق طبي يتابع مشعل ووعد على مدار الساعة وهناك أب عظيم وأم عظيمة لم يعرف اليأس إلى قلبهما طريقاً، وهناك رب رحيمٌ لصيق بمفاصل الحدث منذ لحظة ولادة مشعل حتى كتابة هذه الأسطر وإلى أبد الآبدين.
“إنّ الله يبتليكَ بأعزّ ما عندَكَ ليُخرِجَ أجملَ ما فيكَ” جرعةٌ إيمانيّة عالية تلامس شغافَ القلب، تطلقها الكاتبة في خِضَمّ مِحنتها؛ فالإيمان وحدَه يعيد إليك التوازنَ، وينزِع عنك رداءَ الكِبْر، فتعود إنساناً في حجمه الطبيعيّ مُفتقِراً إلى الله الغنيّ وحدَه.

أنا وأبطالي 🙁 الواقعي بتقنية المتخيل)
العمل واقعيّ، يشبه إلى حدّ ما فنّ السيرة، تتلخّص أحداثه في إصابة طفلين شقيقين (مشعل، وعد) لأسرة سعوديّة كريمة، بمرض وراثيّ خطير نادر، لتبدأ رحلة المعاناة في المستشفيات، ثمّ السفر إلى أوروبا لتلقّي العلاج، وصولاً إلى إجراء عمليّة ناجحة لزرع رئتين للشاب مشعل الذي تمكّن من استئناف حياته الطبيعيّة بعدها. كلّ ذلك ما كان ليتمّ لولا تكاتف أفراد الأسرة المثاليّة لمواجهة المرض ودعم هذين الطفلين حتّى تجاوزا مرحلة الخطر.
بطل القصّة بلا منازع أمّ رائعة (شريفة عسيري) ممّن يُقال فيهنّ: ولو كانت النساءُ كمن وجدْنا لفُضِّلت النساءُ على الرجالِ
أمّ عاهدت الشمسَ أن تصحو قبلها، والقمرَ أن تسهرَ معه، ونذرت نفسَها أملاً في شفاء ولديها، وإيماناً بواجبها في رعايتهما على أحسن وجه ممكن.
نبدأ من العنوان الذي لم يكن ارتجاليّاً، بل كان عتبة فنّيّة لها وظائفها الجماليّة والدلاليّة؛ فكأنّه يشير إلى معركة تخوضها بكل شجاعة، ولا يصمد فيها إلّا الأبطال. وبتقديري أنَّ الأنا في العنوان كانت أنا الأم شريفة وليست أنا الكاتبة، فالكاتبة في النص كانت ترفد اللغة وتؤثث لبنية فنية جعلت النص سيرةً تروى دون مؤثرات، وهذا الشكل في الكتابة يشبه الكتابة عن نموذج وهذا بذاته قيمة جمالية.
لم تعرض الكاتبة مفردات الحوادث متناثرة، بل حاولت أن تؤلّف بينها وتحبكها في نسيج فنّيّ، عبر نسق زمني صاعد (بداية، وسط، نهاية).
أمّا اللغة السرديّة فقد آثرت الكاتبة استخدام الطريقة التحليليّة المباشرة التي تتيح التغلغل في أعماق الشخصيّة، وكانت لغة سهلة، رشيقة، دقيقة، موجزة، مناسبة لهذا العمل الفنّيّ.
ظلّ العمل محكوماً بالواقع، مقيّداً بالأحداث الحقيقيّة، و”العلائق عوائق”، وربّما لو نقلته الكاتبة إلى المختبر الفنّيّ الروائيّ بتقنيّاته المتعدّدة والشائقة، لأنتجت روايةً تزاحم الروايات الهامّة في أدبنا العربيّ.
ختاماً يمكن القول: إنّ أمّاً فاضلة مثل السيّدة (شريفة عسيري) تهزّ السريرَ بيُمناها قادرةٌ على أن تهزّ الوجدانَ الإنسانيّ بقلمها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى