عندما تتعمّق أزمة تونس أكثر

محمد أحمد القابسي

جديد الأزمة السياسية متعددة الأبعاد في تونس تأخّر صرف أجور أعوان (موظفي) الوظيفة العمومية، الذي أصبح أمراً اعتيادياً بعد مرور أكثر من ستة أشهر على إجراءات 25 يوليو/ تموز 2021، التي استبشرت بها بعض شرائح مسحوقة من التونسيين، على أمل في إمكانية تحسن أوضاعهم المعيشية التي انحدرت إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، لكنّها ازدادت سوءاً بتراكم فقدان بعض المواد الغذائية الأساسية وغلاء الأسعار وتفاقم البطالة وتحقق عجز المالية العمومية وشحّ موارد الدولة، ما شكّل معضلة اقتصادية واجتماعية ما تزال حكومة نجلاء بودن تتخبط فيها، وقد مرّ على تشكيل هذه الحكومة أكثر من مائة يوم.
وأمام مشهد عام ضبابي ومستقبل يشوبه الغموض، وغياب تام لرؤية برنامج إصلاحي ينتج الثروة ويوفر مواطن الشغل، أصبح حديث التونسيين اليومي، بل لعلّ حلمهم المعلن بالهجرة النظامية أو غير النظامية، ليرتمي شباب وأسر كاملة في قوارب الموت في رحلات انتحارية.
وحسب دراسة أصدرها قبل أيام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أصبح 46.5% من الشباب يفكرون بشكل دائم في الهجرة. وقد ذكرت عمادة المهندسين أنّ 39 ألف مهندس تونسي قد غادروا إلى أوروبا وكندا، علاوة على آلاف الأطباء والخبراء وكفاءات في شتى الاختصاصات. ومع تواصل الأزمة، وفي غياب عناصر الثقة وأمل الحوار والطمأنة داخل الطبقة السياسية في الحكم وفي المعارضة، في مناخٍ متوتر وبعيد عن كلّ آفاق الاستقرار، تؤكد كلّ المؤشرات استحالة تحسّن متوقع في مجالات الاقتصاد والاستثمار والسلم الاجتماعي خصوصاً.

وأمام وطأة هذه الأزمة الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، جاء تقرير “مجموعة الأزمات الدولية” ليزيد الطين بلّة بإدراج تونس ضمن “قائمة المراقبة لسنة 2022″، وهي قائمة تضم عشرة بلدان تواجه صراعاتٍ أو حالات طوارئ أو أزمات أخرى، ترى المجموعة أنّه يمكن للاتحاد الأوروبي المساعدة على إنقاذها. وأكدت المجموعة أنّ اقتصاد تونس المتعثر بدأ يقوّض الثقة في السلطة السياسية، مع تقلص كبير في الناتج المحلي الإجمالي بسبب تداعيات جائحة كوفيد-19. ورأت أنّ عجز المالية العمومية التونسية وارتفاع الدين العام وعدم القدرة على سداد القروض مؤشّر على قرب حدوث أزمة مالية ومصرفية خطيرة، قد تؤدي إلى انخفاض غير مسبوق لمستويات المعيشة لشرائح عريضة من التونسيين. ويبين التقرير أنّ تونس قد تضطر إمّا إلى إعادة هيكلة ديونها والتوجه إلى “نادي باريس” أو إعلان إفلاس. وستكون لذلك تداعيات موجعة، قد تشمل خصخصة المؤسسات العمومية وتجميد الأجور وإمكانية نقص في توريد المواد الأساسية وارتفاع كبير في نسب البطالة والتضخم.
وأمام هذه المعطيات الخطيرة، لم تجد مقترحات الحلول المتاحة للخروج من نفق الأزمة أو التخفيف من وطأتها، والتي تقدّم بها خبراء الاقتصاد، من يستمع إليها ويتفاعل معها، وبينها مراجعة (أو إلغاء) الاتفاقيات التجارية التي تجمع تونس مع بعض الدول، على غرار اتفاقية التبادل الحرّ مع الصين، إذ وصل العجز التجاري لتونس مع الصين، خلال السنة الماضية، إلى 6000 مليار من المليمات (الدينار 1000 مليم، والدولار الأميركي = 2.86 دينار) واتفاقية التبادل التجاري مع تركيا وقد بلغ عجزها التجاري وفق آخر إحصائية ما يناهز 3000 مليار، إلى جانب تضرر قطاعات صناعية وتجارية عديدة من هذه الاتفاقية، نتيجة التنافسية الكبيرة للمنتوجات التركية، كما تسببت في إغلاق آلاف المؤسسات الصناعية المختصة في الجلود والأحذية. ويرى الخبراء ضرورة الإسراع في اتخاذ إجراءات لإدماج الاقتصاد الموازي ضمن الاقتصاد المنظم، مع إيجاد برامج جادة لمكافحة ظاهرة الاحتكار الجبائي.
وفي الأثناء، ما زال التونسيون، وهم يصارعون تداعيات هذا الوضع القاسي على شؤون معيشتهم اليومية، ينتظرون إجراءات رئاسية أو حكومية تخفف عنهم وطأة هذه التداعيات، وتبعد عنهم حالة الواقف على حافة الهاوية يرتجف خوفا من السقوط في عمقها.

 

وأمام تبديد الانتظار، يواصل رئيس الجمهورية قيس سعيّد خوض معاركه المتواصلة مع معارضيه من “الخونة”، وجديدها مع السلطة القضائية، ومع مكونات كل المنظومة السابقة من أحزاب ومنظمات، رافضاً الحوار معها من أجل الوصول إلى مخرجات أو حلول من شأنها أن تخفف أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، قد يؤدي استمرارها إلى انفجار قادم لا أحد يقدّر عواقبه.
واقعيًّا، تظل هذه الحلول المنتظرة غائبة، فعلى الرئيس أن يفتح بابا للتوافق مع الشركاء الاجتماعيين، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل، والمكونات السياسية من أحزاب ومجتمع مدني وشخصيات وطنية، بما من شأنه أن يسرّع الموافقة على صرف قروض صندوق النقد الدولي، وإخراج البلاد من أزمتها، وذلك ما ينتظره التونسيون، ولكن سعيّد يظل منشغلا بالتكريس الواقعي والآني لمحطّات مشروعه السياسي القاعدي، وأولاها ما تسمى الاستشارة الإلكترونية، والتي أعلن عن تنظيمها في 13 ديسمبر / كانون الأوّل الماضي، ودخلت في مرحلتها الفعلية يوم 15 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني). وقد باحت يوم الـ27 من الشهر نفسه بأسرارها، حيث أعلن سعيّد خلال اجتماع مجلس الوزراء عن نتائجها، أهمها أن 82% من المستفتين هم مع النظام الرئاسي و89% مع الاقتراع على الأفراد و92% مع سحب الثقة من النواب، و89% لا يثقون في القضاء، وقد فجّر هذا الإعلان المفاجئ جدلا كبيرا في المشهد السياسي، وخصوصا جدّية المشاركة والاعتماد عليها لتغيير قواعد اللعبة السياسية وممارسة الحكم. وتكفي الإشارة إلى أنّ 1.5% فقط عبّروا عن هذه التغييرات من مجمل الناخبين. ويجمع متابعون على أنّ لهذه العجلة في الإعلان عن نتائج هذا الاستفتاء أسباب أخرى غير التمكن المضمر من مشروع الرئيس، وأهم هذه الأسباب استشعاره تأزّم الأوضاع المالية والاقتصادية والاجتماعية، وانسداد الأفق أمام الحلول الناجعة لها. أمام مراوحة إصلاحات الرئيس في مكانها، بما يستدعي استحثاث النسق في المسار السياسي التأسيسي الجديد “القاعدي”، حتى يتم قطع الطريق أمام خيبات الأمل المرّة والقادمة في صفوف من بقي مع الرئيس في المركب، بعد الهروب الكبير من هذا المركب لرئيسة ديوانه نادية عكاشة.
وقد يكون سعيّد كذلك يروم عدم ترك الفرصة أمام كل المعارضات السياسيّة والمجتمعيّة لتنظيم صفوفها، وتكثيف ضغوطها في الداخل والخارج، معارضات تتسع دوائرها من يوم إلى آخر، وأزمة سياسية أجّجتها أزمة اقتصادية خانقة، لكنّها تبقى في حسابات سعيّد والحكومة غائبة، لتظلّ البلاد في مرمى “نادي باريس” إلى إشعار آخر.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى