تصاعدت، في الأسابيع الأخيرة، نذر وقوع صدام مسلح مباشر بين تركيا وقوات النظام السوري في إدلب، شمال غرب سورية. وإدلب هي آخر المعاقل المتبقية للمعارضة السورية بعد توالي هزائمها أمام قوات النظام، منذ أواخر عام 2015، بعد دخول روسيا على خط دعم النظام عسكرياً بشكل مباشر.
من ناحية موازين القوى المجرّدة، الجيش التركي قادر على سحق نظيره السوري في حرب تقليدية، خصوصاً أن الأخير منهك بعد قرابة عقد من عدوانه على أبناء شعبه، ومن الصراع مع قوى المعارضة، وهو كان عرضةً لانشقاقاتٍ كثيرة، وللاستنزاف بشرياً وعسكرياً. وحتى مع دعم المليشيات الإيرانية لقوات النظام، تبقى القوة العسكرية التركية متفوقة، إلا أن موازين القوى تشهد تغييراً كبيراً في حال ما أخذ في الاعتبار العامل الروسي الداعم لجيش النظام السوري الرسمي، وهنا معضلة تركيا الأساس. إذ إنها، وإن بقيت قادرة على كبح جماح أي هجوم عسكري سوري رسمي على إدلب، على شرط امتلاك العزيمة، ستجد نفسها وجهاً لوجه مع قوة عسكرية عظمى، هي روسيا، والتي توفر غطاء جوياً لتقدّم قوات النظام نحو إدلب. وتتضاعف المعضلة التركية، إذا ما علمنا أنه لا الولايات المتحدة، ولا حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في وارد تقديم دعم عسكري لها، في حال اشتعال شرارة حرب بينها وبين النظام السوري، وبالتالي قد تجد نفسها وحيدة أمام روسيا.
تدرك تركيا المعطيات السابقة، ولكنها تجد نفسها عالقةً في فخٍ محكم، وهو ما يحدّ من مرونة حركتها ويضيق من خياراتها. من ناحية، فإن سيطرة النظام السوري على إدلب تعني تشريد مئات آلاف من السوريين نحو أراضيها، ومنذ أطلق النظام السوري عملية السيطرة على إدلب، الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، هرب قرابة مليون مدني سوري نحو الحدود التركية الجنوبية. وتستضيف تركيا اليوم قرابة ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ سوري، شرّدتهم الحرب، وهي بذلك قد وصلت إلى طاقتها الاستيعابية القصوى، خصوصاً أن دول الغرب لم توف بِجُلِّ المساعدات الإنسانية التي وعدت بها. وثمَّة من يرى بين المراقبين الأتراك أن خسارة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) عدة بلديات كبرى في انتخابات عام 2019، وتحديدا إسطنبول، مرتبطة، من ناحية، بسياسات الهجرة التي اتبعتها الحكومة التركية نحو اللاجئين السوريين.
جانب آخر من المعضلة التركية يتمثل في توجس أنقرة من سيطرة النظام السوري المعادي لها على الحدود المشتركة بين البلدين، من دون تفاهمات مسبقة، وهو ما قد يترتب عليه تهديد مباشر لأمنها القومي. عملياً، تحصد تركيا اليوم نتائج تردّدها في دعم الثورة السورية في سنواتها الثلاث الأولى، بغض النظر عن الأسباب الذاتية والموضوعية هنا، فالمخرجات لا تحابي الظروف والمعطيات التي قادت إليها. لقد اختارت أنقرة، منذ الأشهر الأولى للثورة عام 2011، الدعوة إلى رحيل نظام بشار الأسد، بعد أن فشلت محاولاتها في إعادة تأهيله، وهي دعمت جهود إسقاطه علناً، وإنْ بشكل متردد وغير كاف. إلا أن دخول الولايات المتحدة على خط التدخل العسكري المباشر في سورية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، عام 2014، حَدَّ من القدرة التركية على التأثير على الأرض، خصوصاً بعد تبني واشنطن المقاتلين الأكراد في شمال شرق سورية، وهو ما أثار حفيظة أنقرة، ووتّر علاقاتها مع واشنطن. ثمَّ تضاءلت القدرة التركية على التأثير في الساحة السورية أكثر بعد الدخول الروسي على خط المواجهة المباشر عام 2015.
وعلى الرغم من أن أنقرة نجحت في تجاوز الأزمة الدبلوماسية الخطيرة مع موسكو، بعد إسقاط مقاتلة روسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، ثمَّ تعزيز العلاقات المشتركة بينهما، خصوصاً بعد المحاولة الانقلابية التركية الفاشلة، صيف عام 2016، والتي لمّحت أنقرة إلى تورّط أميركي فيها، إلا أن هذا التقارب التركي – الروسي ترتب عليه توسيع الفجوة مع الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي (الناتو) عموماً. وتركيا عضو في الحلف منذ عام 1952. المفارقة هنا أن تركيا اقتربت كثيراً من روسيا، ووثقت، قانعة أو مرغمة، في وعود هذه الأخيرة، بحيث ضاق هامش المناورة السياسية والعسكرية أمامها في سورية. تمثل الخطأ الأكبر في الحسابات التركية، سورياً، في ركونها إلى “شريكيها”، الروسي والإيراني، في مسار أستانة لإيجاد حل سياسي للصراع. وكانت كل من تركيا وروسيا وإيران توصلوا، عام 2017، إلى اتفاق ينصّ على إنشاء أربع مناطق لـ”خفض التصعيد” على مستوى سورية: إدلب، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية، والمنطقة الجنوبية. وأضيفت إليها منطقة خامسة، باتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن، لشمل مدينة درعا في جنوب سورية ضمن تلك المناطق. ولكن النظام السوري، بدعم حليفيه الروسي والإيراني، وبتواطؤ أميركي، وعجز تركي، ألغوا مناطق خفض التصعيد واحدة تلو الأخرى، كان آخرها، المنطقة الجنوبية، في يوليو/ تموز 2018، والتي تشمل درعا، وامتداداتها في الجنوب الغربي، على الحدود مع فلسطين المحتلة.
وفي سبتمبر/ أيلول 2018، بدأ النظام السوري، بدعم روسي – إيراني، هجوماً عسكرياً على إدلب، غير أن اتفاقاً روسياً – تركياً – إيرانياً تمَّ التوصل إليه في مدينة سوتشي الروسية، أجل المعركة الفاصلة، بناء على شروط جديدة تعهدت بها أنقرة، وها هي موسكو وطهران تطعنان تركيا في الظهر مجدّداً. اليوم تجد 12 نقطة مراقبة تركية عسكرية في إدلب نفسها محاصرة من قوات النظام، والشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) قتل 13 جندياً تركياً في هجمات من جيش النظام، وهو ما ردّت عليه القوات التركية بقصف مدفعي ثقيل، وتعزيز نقاط مراقبتها، وحشد مزيد من القوات والعتاد على حدودها مع سورية. وأمام التصعيد العسكري من قوات النظام بدعم روسي، أصدر الرئيس التركي، أردوغان، تحذيراً صارماً لنظام الأسد بالانسحاب إلى حدود “سوتشي” قبل نهاية فبراير/ شباط الحالي، أو مواجهة تدخل عسكري تركي مباشر، وهو التحذير الذي رفضته موسكو ودمشق.
لا تنتهي مشكلات أنقرة هنا، فعلى الرغم من الدعم اللفظي الذي وجدته من الولايات المتحدة ضد نظام الأسد وروسيا، إلا أن واشنطن كانت واضحةً لناحية أنها لن تدعم تركيا عسكرياً في حال نشبت حرب بينها وبين قوات الجيش السوري، وحتى ولو تدخلت روسيا. صدر الموقف نفسه عن حلف الناتو. وهكذا تجد تركيا نفسها وحيدةً في معركة مصيرية، قد تكون الأخطر في تاريخها الحديث، ويعزو بعضهم ذلك إلى أن تركيا اختارت تحت حكم “العدالة والتنمية” أن تختط سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة و”الناتو”، إلا أنها لم تنجح في بناء تحالفات دولية وإقليمية صلبة ومتماسكة، قادرة على تعويض فقدانها مظلتهما. وحسب مراقبين، فإن تركيا التي لديها كل الحق أن تشك في التزام الولايات المتحدة و”الناتو” بأمنها ومصالحها الاستراتيجية، كما جرى في الملف الكردي في الشمال السوري، استعجلت الثقة بموسكو والرئيس، فلاديمير بوتين، والذي سعى، منذ عام 2016، إلى توسيع الهوة بين حلف شمال الأطلسي وأنقرة، وكانت إحدى تعبيرات ذلك صفقة نظام الدفاع الصاروخي الروسي إس – 400، والذي أغضب واشنطن والحلف. وبالتالي، انتهت تركيا، في ظل التوتر مع روسيا اليوم، من دون مظلة حمائية أمنية يمكنها الوثوق فيها، والركون إليها.
باختصار، ما تتعرّض له تركيا هو استهداف ممنهج لمصالحها الاستراتيجية منذ بدأت حساباتها بالافتراق عن حسابات واشنطن والاتحاد الأوروبي منذ عام 2009. في المقابل، أثبتت روسيا أنها لا تريد تركيا شريكاً بل تابعاً، مراهنةً على توتر علاقاتها مع حلفائها الغربيين، وتآمرت دول كثيرة في الإقليم ضد تركيا، وتحديداً محور إسرائيل – مصر – السعودية – الإمارات. هل يعني ذلك كله أنها سترفع الراية البيضاء في إدلب؟ ذلك مستبعد، فتركيا تبقى قوةً إقليمية معتبرة، والسيناريو المرجح قد يكون تفاهمات روسية – تركية جديدة، تحفظ لتركيا بعض المعطيات القائمة هناك، مع تعضيد مكاسبها في شمال شرق سورية، والتي ترتبت على عملية “نبع السلام” والتي شنتها في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ضد المقاتلين الأكراد، بهدف إقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية. إلا أن ذلك سيعني، أيضاً، تشريع مكاسب كثيرة للنظام في الشهرين الأخيرين. هذا مجرد سيناريو، وهو لا يعني أننا قد لا نشهد حرباً محدودة بين تركيا والنظام السوري، وهو ما يصعب التنبؤ بمخرجاته، في ظل كل المعطيات السابقة، والتي قد لا تستثني تحرّشاً بتركيا حتى في “المنطقة الآمنة” نفسها في شمال شرق سورية.
المصدر: العربي الجديد